الرأي العام

دلالات وقضايا | لماذا يكره العلمانيُّون المتديِّنين؟

مهنا بلال الرشيد

ينظر بعض المثقَّفين بازدراء إلى الأدلجة وكثير من الأيديولوجيَّات والبشر المؤدلجين، ويؤكِّدون أنَّ قصور وعيِ الإنسان المؤدلج هو السَّبب الرَّئيسيُّ لازدرائه والنُّفور منه والابتعاد عن حواره؛ فالأيديولوجيا في أقصر تعريف لها: هي علم الأفكار. وإن توسَّعنا في التَّعريف سنقول: هي منظومة الأفكار المتَّسِقة، الَّتي يمكن لها أن تقود تنظيمًا جماهيريًّا، أو توجِّه تيَّارًا فكريًّا، أو تحدِّد مسار حزبٍ سياسيٍّ، لكلِّ واحد منها أتباعه ومريدوه القليلون أو الكثيرون. ويمكن أن تصير الأيديولوجيا بمثابة دين يبشِّر به أتباعه، أو معتقد تدافع عنه مجموعة مريديه، بغضِّ النَّظر إن كانت أكثريَّة دينيَّة تجاهر بمعتقدها؛ كالهندوس مثلًا، أو أقلِّيَّة تمارس تُقيتَها، ولا تبوح بشيء عن أسرار أيديولوجيَّتها الدِّينيَّة، وفي المحصِّلة تُهيمن مجموعة الأفكار الَّتي يعتنقها المؤدلَجون على وعيهم وطريقة تفكيرهم، وتصبح منظارهم إلى الوجود كلِّه؛ لذلك يُكْبِرون مَن يعتنق أفكارهم، ويزدرون من لا يؤمن بها، ويحاربون كلَّ من يكشف زيفها، أو يدافع عن حقِّ المجموعات الأخرى في العيش دون اعتناق أفكار الآخرين، دون أيِّ إصغاء لقول الشَّاعر حول حرِّيَّة الرَّأي:

لك ما ترى بين الخلائق والورى  وليَ الَّذي ما لا تَدين ولا ترى

وبرغم تظاهر كثير من رافضي الأدلجة باعتناق الفكر الحرَّ غير المؤطَّر أو غير المقيَّد، فإنَّ الحوار مع بعضهم في قضيَّة شائكة أو مصيريَّة سُرعان ما يكشف عن نظرتهم إلى الفكر المستقلِّ أو إلى عدم اعتناق أفكارهم بوصفه أيديولوجيا قائمة بذاتها ومناهضة لأفكارهم، وبذلك يستلبون منك حرِّيَّة التَّفكير بعيدًا عن تنظيماتهم. ويتبنَّى بعض النَّاس من أغرار السِّياسة من أبناء سوريا المتصارعين على السُّلطة في وقتنا الرَّاهن-على سبيل المثال-خطابًا إسلاميًّا سَلَّفيًّا أو متصوِّفًا أو غير ذلك، ويُعلن معظمهم عن اعتدال تفكيره. وسرعان ما يكشف الحوار الفكريُّ مع بعضهم أنَّ الإعلان عن هذا الاعتدال لا يعبِّر عن قناعة فكريَّة بقدر ما هو أَسْلَمَة ظاهريَّة للخطاب بعيدة كلَّ البعد عن سماحة الإسلام وتسامحه؛ والحقُّ أنَّ كثيرًا منهم يصبَغ خطابه بصبغة إسلاميَّة بعيدة عن روح الإسلام للحصول على شعبيَّة مزيَّفة، يتبعهم فيها بعض المخدَّرين بأفيون الشُّعوب دونما فهم مقاصد الإسلام ومعاني شريعته السَّمحة، وتشكِّل أَسَلمة الخطاب عندهم ما يشبه مفهوم (المرشَّح المستقلِّ) الرَّاغب بالحصول على أصوات الجميع في انتخابات البرلمان أو مجلس الشَّعب والأمَّة. وعندما ناقشتُ بعضهم حول التَّيَّارات الإسلاميَّة (السُّنِّيَّة والشَّيعيَّة والدُّرزيَّة والعلويَّة والإسماعيليَّة) وما ينضوي تحتها من تيَّارات (راديكاليَّة وسَلفيَّة وأخونجيَّة وصوفيَّة ومعتزلة وأشعريَّة وغيرها) لدى كلِّ فرقة منها قال معظم المتحاورين: إنَّهم يتميِّزون بفكرهم عن التَّيَّارات المذكورة كلِّها، وبدا لي أنَّ صبغة خطابهم الإسلاميِّ الجديد ما هي إلَّا قشرة ظاهريَّة أو تسمية جديدة (للمرشَّح المستقلِّ)، الَّذي يتبنَّى خطابًا إسلاميًّا ظاهريًّا أو هُلاميًّا غير محدِّد؛ كي يكسب دعم الإسلاميِّين، ويكسب أصوات غيرهم أيضًا عندما تأتي لحظة الانتخابات أو العبور إلى المستقبل السِّياسيِّ عند انتهاء الحرب.

الأيديولوجيا الهُلاميَّة والقناع الأيديولوجيُّ

 يمثِّل هذا النَّوع من التَّفكير السِّياسيِّ المذكور في المقدِّمة أيديولوجيا هُلاميَّة غير واضحة المعالم، عرفتُها، أو ناقشتُ بعض أصحابها جيِّدًا خلال تدريسي (تاريخ الأيديولوجيا)، وبعد أن عرَّفت للأصدقاء الطُّلَّاب معنى الأيديولوجيا بوصفها علم الأفكار، رحنا نتحاور عن طبيعة هذه الأفكار؛ وبدا لنا أنَّنا لا نتحدَّث عن أيِّ فكرة بسيطة وإنَّما عن الأفكار الجوهريَّة الَّتي تؤثِّر في تفكير البشر، وتوجِّه سلوكهم،  أو تُسهِّل خنوعهم وانقيادهم خلف صانعي هذا النَّوع من الأيديولوجيا، فإذا أردتَ كَسْبَ ودِّ الشَّخص المتديِّن يمكنك أن تقدِّم له أيَّ فكرة على أن تُغلِّفها بغلاف دينيٍّ، ولو قلتَ له: لماذا لا تصبح علمانيًّا؟ لأجابك: إنَّ العلمانيَّة ضدَّ الدِّين إن لم تكن دينًا كفريًّا. ولو قلت له بطريقة أخرى: دينُك جميلٌ، ومعتقدُك لطيف، ومذهبُك متسامحٌ؛ لقال لك: تعلَّمتُ هذا من رسول الله محمَّد-صلَّى الله عليه وسلَّم-ومن عُهدة العيش السِّلميِّ المشترك والتَّسامح الدِّينيِّ، الَّتي كتبها وأقرَّها في المدينة المنوَّرة عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، ولو قلتَ له: هذه هي العلمانيَّة الَّتي تعني: أن تعتقد ما تريد، وتمارس معتقدك بحرِّيَّة، وتحترم معتقدات الآخرين لقال: إن كانت هذه هي العلمانيَّة فأنا علمانيٌّ، وانتهى النِّقاش مع بعض طلَّاب الدِّراسات العليا إلى أنَّ هذا النَّوع من (العلمانيَّة الإسلاميَّة) جميل جدًّا، ولم يسمعوا من قبل عن العلمانيَّة الإسلاميَّة، ولم يعرفوها أبدًا، وتأكَّد لي أنَّ كَسْبَ ودِّ كثير من النَّاس حتَّى لو كان بعضهم أستاذًا جامعيًّا أو طالب دراسات عليا لا يأتي إلَّا من خلال (أَسْلَمَةِ الخِطاب) والمصطلحات والمفاهيم؛ فما بالك بمن يسعى إلى أَدْلَجة المُريدين؟ فهذا يُدركُ تمامًا أنَّه يصنع أيديولوجيا؛ ليصرفها في سوق الانتخابات أو سوق الشَّعبيَّة الزَّائفة بين متديِّني صفحات مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ.

يدرك كثير من أصحاب الصَّيد في الماء العكر والمطامح السِّياسيَّة في سوريا المستقبل تأثير (أَسْلَمَة الخطاب) ودورها في كسب تأييد القواعد الجماهيريَّة، الَّتي يروق لها من يتظاهر بقناع دينيٍّ، وتنتخبه حتَّى لو علمت أنَّ صاحب هذا القناع سيقودها إلى المذبحة بعد انكشاف القناع وظهور نتائج الانتخابات؛ حيث تُمضي الخراف حياتها خوفًا من الذّئب، وفي نهاية المطاف يذهب بها الرَّاعي إلى المسلخ، وكذلك باع محمَّد سعيد رمضان البوطي الأوهام لطلَّاب كلِّيَّة الشَّريعة في دمشق، وخدَّر وعي الشَّعب السُّوريِّ عبر برنامجه (دراسات قرآنيَّة)، وبدا لكثير من المتديِّنين أنَّ البوطي قائدهم وقائد الفرقة النَّاجية إلى الجنَّة، وعندما مات باسل وحافظ الأسد شاهد مقاميهما في الجنَّة، وعندما شاهد جباه المتظاهرين ضدَّ حكم المجرم بشَّار الأسد أدرك بشطحة صوفيَّة كبيرة أنَّ جباه المتظاهرين لا تعرف السُّجود. وإن كان هذا دأب البوطي زعيم المعتدلين من أهل التَّصوُّف والخطاب الإسلاميِّ في سوريا فإنَّ الخطاب الهُلاميِّ الجديد لدى أصحابه ما هو إلَّا نسخة مطوَّرة عن خطاب البوطي ذاته، وأعرف مجموعة كبيرة من أغرار السِّياسة في الوقت الرَّاهن وممَّن يدَّعون أنَّهم (رموز الثَّورة ومفكِّروها المؤثِّرون) في شريحة واسعة من خلال صفحاتهم الاجتماعيَّة من خلال الشَّكل الإسلاميِّ أو الخطاب الصُّوفيِّ والشِّعر الإسلاميِّ أو اللِّحية الطَّويلة أو اللِّحية المشذَّبة، والحقَّ أنَّ بعضهم مؤثِّر إن اعترفنا بذلك أو أنكرناه، برغم اختلافنا مع زيفِ سلوكِهم، الَّذي يكشف عن أقنعتهم في جلسات الحوار معهم، بعد جلسة إنشاد أو أمسية من أمسيات تمثيلهم، إذ يتبدَّى لكلِّ مراقب نزيه أنَّهم بعيدون كلَّ البعد عن زُهدِ الشُّيوخ وسماحة الإسلام، وأنَّ قشرة خطابهم ما هي إلَّا قناع يرتدونه للوصول إلى الجماهيريَّة والسُّلطة، وأحيانًا يرتكب بعضهم موبقات السُّلوك الاجتماعيِّ والحوار، الَّتي تتعدَّى مفهوم الحرِّيَّة الشَّخصيَّة. وإن نجح بعض المقنَّعين بالخطاب الإسلاميِّ في خداع الجماهير المتديِّنة، وإخفاء بعض سلوكهم الاجتماعيِّ تحت باب (الحرِّيَّة الشَّخصيَّة) المتطابق مع مفهوم (المرشَّح المستقلّ) كاعتياد بعضهم على المشروبات الرُّوحيَّة وعدم الاهتمام بقضايا السُّفور والحجاب وشكل اللِّباس لدى زوجاتهم وبناتهم، والحقُّ نحن لا ننتقد هذا السُّلوك ذاته؛ لأنَّه ضمن حرِّيَّتهم الشَّخصيَّة، وإنَّما ننتقد هذا التَّناقض الصَّارخ بين الخطاب والواقع علاوة على نمائم التَّحزيب الأيديولوجيِ عندهم، كما تكشف ضراوة هجومهم على الآخرين بعيدًا عن الأخلاق الفاضلة كلِّها أنَّ  قشرة هذا الخطاب الدِّينيِّ عندهم ما هي إلَّا قناع أيديولوجيِّ أو جزء لا يتجزَّأ من صراع الأيديولوجيا بين الأحزاب السِّياسيَّة المتنافسة على السُّلطة.

هل لدى العلمانيِّين شيء غير النَّقمة على الآخرين؟

لا يمكن للعلمانيِّ الحقيقيِّ أن ينقم على أحد، بل من المعيب عليه أن ينقم على أيِّ منظِّر من شركائه في الوطن، والواجب عليه أن يحاور الجميع حتَّى المتاجرين بالخطاب الإسلاميِّ؛ ليصرفوه على شكل جماهيريَّة شعبيَّة خارج حدود الثَّواب والعقاب الإلهيِّ. وعندي استغلال عاطفة الجماهير الدِّينيَّة بعيدًا عن الالتزام بمبادئ الإسلام السَّمحة واحد من أشهر الدَّلائل على عجز المتاجر بالخطاب الدِّينيِّ عن صناعة أيِّ برنامج انتخابيِّ أو سياسيٍّ مفيد، وهذه واحدة من عيوب مجتمعانا، إذ يتصدَّر المشهد السِّياسيَّ فيها مجموعة من متاجري الخطاب الدِّينيِّ العاجزين عن صناعة أيِّ تغيير حقيقيِّ في المجتمع غير التِّجارة بالشِّعارات واستغلال عاطفة الشَّباب الدِّينيَّة. والأسوأ من هذا أن تجد متاجرًا متعصِّبًا لشعارات تجارته أو شريحته الاجتماعيَّة على حساب الشَّرائح الأخرى، ولا فرق إن كانت أسباب التَّعصُّب وشعارات تِجارتها عِرقيَّة أو دينيَّة أو طائفيَّة أو مذهبيَّة أو تاريخيَّة أو جُغرافيَّة مناطقيَّة. والحقُّ مصالح المكاسب والمنفعة الشَّخصيَّة المحضة تتخفَّى بأقنعة هذه التَّعصُّبات أو العصبيَّات لدى معظم من حاورتُهم أو تناقشتُ معهم في هذه القضايا الحسَّاسة؛ فحبُّ الدِّين والمذهب والطَّائفة والعِرق والتَّاريخ والمنطقة الجغرافيَّة الَّتي ينتمي إليها الإنسان شيء طبيعيٌّ على ألَّا يتحوَّل هذا الحبُّ إلى تعصُّب له، ونقمة على الآخر المختلف أو المغاير.

نحبُّ نحن -المسلمين- ديننا ورسولنا الكريم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، حتَّى وإن كان بعضنا مسلماً على طريقة (هذا ما وجدنا عليه آباءنا)؛ لذلك يُعادي كثير منَّا كلَّ فكرة حوار جديدة حول الدِّين والإسلام؛ ويخشى -بسبب ضعفنا الرَّاهن- أن تتحوَّل هذه الفكرة من النِّقاش حول الدِّين إلى استهداف الدِّين ذاته ثانيًا واستهداف الإنسان المؤمن به ثالثًا. وضمن هذه المساحة الضَّيِّقة من مساحات المخاوف المشروعة يتصيَّد بعض المتاجرين بالشِّعارات والخطابات الدِّينيَّة لتحقيق بعض المكاسب السِّياسيَّة؛ فيقدِّمون أنفسهم على أنَّهم شُعراء المسلمين المدافعين عن الدِّين والرَّسول بطريقة تُذكِّرنا بمرحلة تاريخيَّة خطيرة تمزَّقت فيها الأمَّة الإسلاميَّة بسبب الصِّراع الأيديولوجيِّ على السُّلطة إلى شِيَعٍ متناحرة وأحزاب متصارعة، ولعب فيها الشِّعرُ والخطابة دورًا سلبيًّا في إشعال نيران الحرب بين الأخوة المقسَّمين أساسًا إلى أحزاب متصارعة في العصر الأمويِّ؛ كحزب الأمويِّين السُّنَّة وشعرائهم: جرير والأخطل والفرزدق وغيرهم، وحزب الشِّيعة وشاعره الكُميت بن زيد الأسديِّ، وحزب الخوارج وشاعره الطِّرمَّاح بن حكيم وحزب الزُّبيريِّين وشاعره عبد الله بن قيس الرُّقيَّات.

والحقُّ إنَّ التَّكسُّب الشَّعبيَّ أو السِّياسيِّ في هذه المساحة الضَّيِّقة من مساحات إزكاء الفتن والصِّراع الأيديولوجيِّ هو ما يدفعنا إلى نقد هذا الخطاب بغضِ النَّظر عن أصحابه، وتظهر فاعليَّة نقدنا عندما نكشف عن قصور الوعي السِّياسيِّ والعجز عن فهم التَّاريخ لدى أصحاب هذا الخطاب. لكنَّ الرَّغبة بالانتفاع السِّياسيِّ من خلال شدِّ العصب المذهبيِّ أو العرقيِّ أو الطَّائفيِّ أعمت قلوب أصحاب هذا الخطاب، ودفعتهم إلى التَّغاضي عن مخاطر الاستثمار وتكسُّب الشَّعبيَّات الزَّائفة بين المتعصِّبين السُّذَّج تحت قناع الدِّفاع عن الدِّين والقيم مرَّة وتحت قناع حبِّ الرَّسول والدِّفاع عنه وعن آل بيته مرَّة أخرى. وقد تكشف بعض المفارقات عن زيف هذه المحبَّة في كثير من لحظات احتدام النِّقاش وتحوُّله اتِّهام المناقش في دينه، أو تتحوَّل إلى صراع محتدمٍ بين مسلمٍ محبٍّ للأمويِّين وآخر محبٍّ لآل بيت رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم، ولو كان المتصارعان صادقين في محبَّتهما لما تصارعا أبدًا؛ لكنَّ الصِّراع يكشف عن رغبة في التَّكسُّب السِّياسيِّ تحت عباءة أو قناع دينيٍّ لم يلامس فيها المتصارعون حلاوة الزُّهد الدِّينيِّ والعزوف عن ملذَّات الدُّنيا كما فعل الحسن بن علي رضي الله مع كثير من المؤمنين حين اعتزلوا السِّياسة وعبثيَّة الصِّراع السِّياسيِّ ومخاطر التَّوظيف الأيديولوجيِّ للدِّين. ونحن-حتَّى وإن كان في قرارة نفوسنا ميول مكبوتة تستهويها بعض الجمل والشِّعارات الدِّينيَّة الرَّنَّانة-لا نسمح لأنفسنا أن تقودنا هذه المشاعر الدِّينيَّة إلى معاداة الآخرين؛ لأنَّ الدِّين محبَّة في أساسه أوَّلًا، ولأنَّ مخاطر مثل هذا الخطاب أكثر من منافعه بكثير، وما مزَّق الأمَّة الإسلاميَّة في مرحلة أوج ازدهارها في العصر الأمويِّ لن يصنع خلاصها أو نجاتها في هذه المرحلة من مراحل ضعفنا وصراعنا.

هل أنا إنسانٌ مؤدلج؟

لا أخفيكم أنَّني كنتُ من أكثر النَّاس قناعة بحرِّيَّة تفكيري وبُعْدي عن الأيديولوجيا حتَّى وجدتُ في نفسي خلال بعض النِّقاشات ميولًا نحو فكرة ما قبل اختبارها، وقد شعرتُ برونقها وجمالها؛ لأنَّها صادرة عن شريكي في الدِّين أو الطَّائفة أو العِرق أو المذهب. والحقُّ أنَّ مثل هذا الميول هو بوَّابة الوقوع في شَرَكِ الأيديولوجيا، إن لم يكن هو الأيديولوجيا ذاتها؛ فالإنسان عَبْدُ شهواته وميوله وأهوائه ورغباته، وأنت حرٌّ بمقدار ما تتحرَّر من سلطان هذه الأهواء والميول والرَّغبات، وأكثر النَّاس وقوعًا تحت تأثير الأيديولوجيا أكثرهم قناعة بأنَّهم بعيدون عنها؛ لأنَّ التَّربية المنزليَّة تؤدلج أبناءها، والمدرسة تؤدلج طلَّابها، وهكذا يفعل الأساتذة والإعلام والجامعات والمنظَّمَّات والأحزاب والنَّقابات وشيوخ الطَّوائف وزعامات القبائل، ومعظمنا-إلَّا ما ندر-من جنود الأيديولوجيا ودُعاتها سواء عرفنا ذلك أو جهلناه.

وكما تحتفظ أنت-عزيزي القارئ-بميولك وأهوائك ورغباتك، وتتحيَّز لها، وتُدافع عنها، فلدى شركائك في الوطن ميول وأهواء ورغبات وتصوُّرات أخرى تختلف عن تصوُّراتك، ويميلون لها، ويدافعون عنها، ويكمن الخطأ في تعصُّب كلِّ طرف لتصوُّراته؛ لذلك يجب على دستور سوريا المستقبل وعقدها الاجتماعيِّ الجديد أن يُراعي هذا التَّنوُّع في المجتمع السُّوريِّ. ويعرف أصحاب الفكر السِّياسيِّ النِّيِّر أنَّ كثيرًا من (المؤثِّرين في مواقع التَّواصل الاجتماعيَّ) يشدُّون العصب الدِّينيَّ أو الطَّائفيَّ لزيادة المكاسب قبل لحظة المكاشفة عند صياغة الدُّستور وإجراء الانتخابات، وسُرعان ما تنكشف أخطاء التَّصوُّرات المتعصِّبة كلِّها عندما نجتمع، ونتحاور حول الهدف من الدُّستور أو العقد الاجتماعيِّ الجديد، الَّذي سيجعل المحبَّة والتَّعايش السِّلميَّ شرطًا للتَّفاعل الإيجابيِّ بيننا-نحن-أبناء سوريا المستقبل.

لماذا يكره العلمانيُّون المتديِّنين؟

لا يمكن للعلمانيِّ الحقيقيِّ أن يكره أحدًا، بل من واجبه استيعاب الجميع؛ لأنَّ العلمانيَّة الحقَّة طريقة منهجيَّة في التَّفكير، توجب على صاحبها احترام الجميع ومحاورتهم وعدم إطلاق أيِّ حكم مسبق على أيِّ أيديولوجيا إلَّا بعد مُقايستها أو النَّظر إلى إيجابيَّاتها وسلبيَّاتها؛ لذلك يجد كثير من المؤدلجين أن َّ العلمانيَّة عدوَّهم الأوَّل؛ لأنَّها تكشف سلبيَّات الأيديولوجيا الَّتي يعتنقونها؛ فالعلمانيُّ لا يُعادي الإنسان المتديِّن، والمتديِّنُ الزَّاهد من أقرب النَّاس إلى قلب العلمانيِّ وغيره؛ لأنَّه تديُّنٌ مخلص صادق، والعلمانيُّ لا يُعادي المتكسِّب من الخطاب الدِّينيِّ؛ لأنَّه يعرف أنَّ هذا الخطاب المضلِّل ما هو إلَّا وسيلة المتديِّن الزَّائف للتَّكسُّب وتحقيق المنفعة، والعلمانيُّ العقلانيُّ لا يُعادي مَن يُدافع عن مصالحه، ولا يطلب منه إلَّا أن يبوح بهذه المصالح بعيدًا عن توظيف الشِّعارات الدِّينيَّة، وكذلك لا يُعادي العلمانيُّ المتديِّنَ البسيط الواقع تحت تأثير أيديولوجيا قادته أو زعمائه الدِّينيِّين؛ لأَّنه يعرف حقيقته المغلوب على أمرها. أمَّا إن عادى المتديِّنون البسطاءُ العلمانيِّين فهم لا يُلامون بذلك؛ لأنَّهم بسطاء، وكذلك لا يُلام المتكسِّبون إن عادوا العلمانيِّين؛ لأنَّ وعي العلمانيِّين يُهدِّد مصالح المتكسِّبين، وفي الصِّراع الأيديولوجيِّ من حقِّ أيِّ متكسِّب أن يُدافع عن مصالحه.

يخلط كثير من أصحاب التَّأثير في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ بين معاني المفردات والمصطلحات إلى حدٍّ لا يميِّزون فيه معنى (الملحد) الَّذي لا يؤمن بوجود إله خالق لهذا الكون من معنى (غير المتديِّن)، الَّذي يؤمن بوجود خالق لكنَّه لا يلتزم بتعاليم دينه، أو لا يتزمَّت بالتزام تعاليم دين آبائه، أو لا يتاجر بشعارات الالتزام الدِّينيِّ للتَّكسُّب السِّياسيِّ من خلالها. وليس هناك علاقة بين درجة الوعي والقدرة على التَّأثير في مواقع التَّواصل الاجتماعيُّ؛ فصفحات السُّذَّج التَّافهين وصفحات المتاجرين بالخطاب الدِّينيِّ من الفارغين من أكثر الصَّفحات متابعة في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ؛ لذلك يلمُّ المتكسِّبون بالدِّين والطَّائفة حولهم كثيرًا من شراذم المؤدلجين ومتنوِّري الفيس بوك؛ ولهذا كلِّه لا نعتب على (مؤثِّرٍ من مؤثِّري صفحات التَّواصل الاجتماعيِّ إن صار مهرِّجًا أو زعيم عُصبة أو عصابة بحثًا عن الجماهيريَّة)، أو إن لم يستطع هذا أو ذاك تمييز (الملحد) من (غير المؤمن)، أو لم يفهم الفرق بين المؤمن بوجود الخالق من المؤمن بمقولة (لا أدري)؛ أي لا أعرف إن كان لهذا الكون خالق أو لم يكن له خالق، ومَن يعجز عن التَّمييز يعجز عن الحوار بكلِّ تأكيد، ومن يعجز عن التَّمييز والحوار لا يُلام على عجزه، وإنَّما يُلام على التَّصدِّي لهذه الموضوعات بأسلوب تهريجيٍّ بين شرذمته وعلى صفحاته دون مناظرة أصحابها في مواقعهم الكثيرة. ومهما يكن يبقى أصحاب العلمانيَّة الحقَّة ملتزمين بالحوار مع الجميع، بغضِّ النَّظر عن معتقد العلمانيِّ ذاته، فدين العلمانيِّ ومعتقده له، ودين النَّاس للنَّاس، ويجب أن يكون الدِّين سلوكًا ينظِّم علاقة الإنسان بربِّه، ويزيد المحبَّة بين المتديِّن وأخوته في الإنسانيَّة إن وافقوه في الدٍّين أو خالفوه.

وفي الختام إن كنتَ تشعر-عزيزي القارئ المتديِّن- بأنَّني منحاز للآخرين المختلفين عنك أو عنِّي أو أُدافع عنهم-برغم خطئهم الواضح من وجهة نظرك- فأنت ما زلت تحت تأثير الأيديولوجيا، ومسألة الخطأ أو الاختلاف الاعتقاديِّ مسألة نسبيَّة، وما هو خطأ مطلق بالنِّسبة لك قد يكون صحيح بالمطلق بالنِّسبة للآخرين، وقد خَطَّأَتْ بعض طوائف المسلمين بعضها الآخر، وتصارعت صراعًا شديدًا، ووقفنا على بعض مخاطر هذا الصِّراع في العصر الأمويِّ! ألم نتَّفقْ في مطلع هذا المقال على إعجابنا بعهدة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه؛ تلك الَّتي أفشت المحبَّة والسَّلام بين المسلمين والآخرين المختلفين عنهم في المدينة المنوَّرة؟! ولكن لماذا شعرتَ بالضِّيق من بعض الحديث؟ الرَّاجح عندي-إن شعرتَ بذلك حقًّا-أنَّه تأثير الأيديولوجيا، وأنت غير ملوم في ذلك في المرحلة الرَّاهنة، وأنا مررتُ بمثل هذا الضِّيق قبلك وقبل أن أتحرَّر من تأثير الأيديولوجيا، والحقُّ لا يمكن لأحد أن يطلُبَ منك تغيير دينك أو مذهبك أو معتقدك في هذا المقال أو في غيره، لكنَّك تبقى مع ذلك مطالبًا بالتَّفكير المنطقيِّ من خلال إقامة علاقتك مع الآخرين المختلفين عنك بعيدًا عن توظيف هذا الاختلاف للتَّكسُّب السِّياسيِّ الرَّخيص من خلال عنتريَّات مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ، وإنْ كنتَ تعتقد أنَّك مخلِّصُ هذه الأمَّة الجديد من شرور الآخرين وآثامهم بإمكانك أن تُفيدنا جميعًا، وتعقد مناظرة عَلَنيَّة على صفحتك الجماهيريَّة مع بعض المختلفين عنك ممَّن تعتقد بخطئهم، ولك في مناظرة الطَّيِّب تيزيني ومحمَّد سعيد رمضان البوطيّ أسوة حسنة.

زر الذهاب إلى الأعلى