فنون وآداب

نصوص أدبية || في مكب النفايات

قصة قصيرة كتبها: صخر بعث

يحصر “سمير” تفكيره على هذا النحو: أين ستسقط القذيفة؟، أين ستسقط وليس هل ستسقط أم لا!، وعلى هذي الحال يقضي وقته جُلَّ وقته في المنزل، منزله المرتفع نسبياً، جهة الغرب من مدينة ما يمكن -على سبيل المثال- تسميتها “إدلب”.

ثلاث سنوات متواصلات في المراقبة والمتابعة والتحليل، معارك ومواقع، مهالك ومدافع، اقتحامات وانسحابات، وقد أفضى ذلك بعد كلّ هذا الوقت إلى “الخبرة”، الخبرة في تمييز أنواع الأسلحة المستخدمة اعتماداً على طبيعة أصواتها الصادرة، والخبرة في معرفة أماكن وطُرق الإطلاق ومسارات القذائف واتّجاهاتها، والتي لم تُعرف أهدافها أبداً، إذ كانت برمّتها -كما قال سمير- قصيرة المدى عشوائية الأذى!.

ما جرى لسمير طوال هذا الوقت كان رهيباً للغاية وعادياً جدّاً، وقد يمكن التعبير عن هذه الحالة بأنّها حالة ذُعر معتادة، حالة ذُعر واعتياد على الذُعر ما كان بالإمكان تجاوزها أو السعي لتجاوزها أو حتّى مجرّد التفكير بحلّ ما قد يخفّف التوتّر بسببها والخوف والقلق منها سوى أن يحسم أمره “سمير”، ولقد فعل!.

هكذا سارت الأمور.. القذيفة العشوائية، أيّما قذيفة ومهما كانت القذيفة، أين ستخرق يا ترى؟، في المطبخ خلال تحضير الطعام أم عند أكله؟، أوَ عند تحضيره حين تكون الزوجة في المطبخ وحدها، أم عند تناولنا الطعامَ جمعاً وصحبةً؟، أم في غرفة الأولاد يا ترى؟، في النهار وهم مستيقظون فلا يمكثون في غرفتهم، أم في الليل وهم نيام حالمون مهبولون؟، أم وأنت في الفراش يا “سمير” المُثير؟، أ فراش سعير أم فراش شخير؟.

ثمّ عاصر “سمير” عصر الصواريخ والبراميل فصار للمخّ عصير، يا أخي فهّمني.. نفس برميل المازوت أبو الميتين وعشرين ليتر بيحطّوه بهيلوكوبتر وبيعبّوه وبيحشوه متفجرّات وخردوات معدنية وخرا واللي بدك ياه، بدّك تقنعني انو طبّ بنصّ المنطقة الصناعية بإدلب -مثالاً طبعاً- وقتل كلّ هالخلق، هيك عشوائي؟، لك بتعرف شَغْلي؟، والله بستحي قولا خاف تقول منغنغ وتشتوش، بزمناتو جحّشت وزتّيت بطريقة عشوائية نصّ برتقاني عشوائية عالشارع بشكل عشوائي، قام اجت بنصّ شبّاك سيّارة عشوائية ما بعرف صاحبا العشوائي، نزلت الساعة 4 الصبح ومسحت رذالتي، ما قدرت نام خاي، بعرض أختي ما قدرت، وما زلت نادماً والله، إي والله.

كان وكنّا في “بستان غنّوم” وهو حيّ إدلبي واقعي وليس مفترضاً، وحين لجأنا إلى قبوٍ ننتظر ونخاف ثمّ نخاف وننتظر، ننتظر تخيّل يا أيّها “العالَم”: نخاف من الإصابة فهي عالة وليس من الموت فهو راحة، وننتظر أيضاً مغادرة الطائرة، وهذا يعني انتظار انتهائها من حصد أرواحنا أو أرواح أهلنا وأحبابنا، فالطائرة لا تغادر قبل أن تفرغ كلّ حمولتها، في القبو قال “سمير” الخطير: ما كلّ هذا التَرك يا الله؟، في عزّ معمعة الرعب ضمن القبوِ رجاء العفوِ ضربناه.. يا “سمير” يا حقير، الله لا يوفقك، قول يا ربّ.

في رأسه دارت أسئلة “أُخرى” أقلّ جوهرية أو وجودية، أسئلة قد لا يمكن توضيحها في سياق قصّ أو إبلاغ أو توضيح، أسئلة بعضها عاطفي محض وبعضها إنساني مباشَر، وبعضها علميّ المبنى وغريب المعنى شائك شكلها وعجيب، أسئلة يضرب بها “سمير” مخّه ضرباً: إن كنتُ بصحبة ابنتي أو ابني في شارع ما من مدينة ما لنقل أنّ اسمها “إدلب” مثالاً، فهل سيسعفني الوقت أو أستوعبه لأطرح كلّاً أو أيّاً منهما أرضاً ليكون جسدي درعاً يحمي ويتمزّق، هذا سؤال “سمير” العاطفي. حسناً.. لم يقع البرميل هُنا بل حولنا، الحمد لله عالسلامة، سلامة مَنْ وموت مَنْ يا الله، وهذا سؤال “سمير” الإنساني، وأمّا سؤاله العلمي فهو: كيف يمكنك يا “سمير” حين سماع أزيز البرميل الساقط من علٍ صوت انفجاره بعد تدمير حيّ بأكمله وليس قبلاً؟، فهمنا -قال سمير- الضوء أسرع من الصوت، طيّب.. هل الموت أسرع من الضوء يا ترى؟.

البارحة وليس في نفس المدينة الواقعية أو المُفترضة لكنّما في فضاء زيتونها العتيد انقضّ برميل حقد وبارود على برميل زبالةٍ محدود، برميل زبالة مثل أيّ برميل زبالة، وما كان لديه عمل آخر عبد الودود، سوى نبش براميل الزبالة بودٍّ بحثاً عن الزجاج والخردة والبلاستيك، ما كان له صنعة “أُخرى” يا الله، وحين كان يستطلع محتويات برميله باحثاً عن زجاجة فارغة قد يبادلها بلقمة غير سائغة، أفرغ برميل آتٍ من خيال جحيم الخيال كلّ محتوياته على معظم المحتوى المتوفّر.. الزجاج، الخردة، البلاستيك، كلّ الأوساخ والنفايات، بالطبع “عبد الودود” معها أيضاً، ونجا الذلّ.

والبارحة “أُخرى” مرّت على رأس “سمير” وصحبه في الغرفة في المنزل في البناية وفي الحيّ أحداث ومن ثمّ أفكار رهيبة، لكنّه ظلّ -بلا سبب مفهوم- واعياً يتذكّر كلّ تفصيل قصير وأخير: قبل سقوط البرميل كنتُ وزوجتي “عطاف” مطّرحين على فراش المُتعة، حين انتشلونا صباحاً وجدوا رأسي في حضن ما تبقّى من جارتنا الحلبية المحترمة أمّ علي، ثمّ عثروا على أطراف زوجتي في غرفة نوم جارنا الظريف عبد اللطيف، أصبحتُ شاهداً على هذه الواقعة، تارةً أتذكّر كيف ولماذا؟، ومرّةً أقول يا حَيْف، مع أنّني في حتف الحيف مضيت !.

 قال “عبد اللطيف”: ما تواخذنا يا جار..

وقالت “أم علي”: عجب إش رح يحكوا الناس عنّي؟.

قالت الزوجة “عطاف”: والله العظيم مالي علاقة..

وقال “سمير”: ولك خلص وطّي صوتِك مصدّقك، ما نسيان انو كنّا مع بعض.

بضجر شديد قال عامل الحفر لزميله عامل الحفر: دي اطمور هالكياس لك خاي، حاجي اليومي حاج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى