رحيل حلمي بكر الذي اختاره نزار قباني لتلحين إحدى قصائده: عاش بين عصرين!
العربي القديم – محمد منصور
عن عمر يناهز السادسة والثمانين عاماً، وعن مسيرة طويلة في مجال التلحين الغنائي والدرامي، قضى سنواته الأخيرة منها في خوض المعارك الإعلامية ضد موجة الرداءة والابتذال التي تجتاح الغناء العربي، رحل الموسيقار حلمي بكر، صاحب (ماعندكش فكرة) لوردة الجزائرية و(مهما الأيام تعمل فينا) لنجاة الصغيرة، و(ع اللي جرى) لعليا التونسية، وسواها من الروائع التي شكلت علامات في مسيرة مطربيها.
وقد نعى مجلس نقابة المهن الموسيقية في القاهرة، الموسيقار حلمي بكر الذي وافته المنية مساء أمس الجمعة، الأول من آذار/ مارس الجاري. في مستشفى (كفر صقر) بمحافظة الشرقية بعدما تدهورت حالته الصحية.
وقالت النقابة في بيان رسمي: “إن البشرية فقدت موسيقارا كبيرا تبقى ألحانه في ذهن محبيه”، ويتقدم الفنان مصطفى كامل نقيب الموسيقيين وأعضاء مجلس النقابة بخالص العزاء لأسرة الموسيقار الراحل آملا أن يلهمهم المولى الصبر والسلوان”.
فيما أعلنت المطربة المصرية نادية مصطفى، عضو نقابة المهن الموسيقية، وفاة حلمي بكر عبر منشور على صفحتها الشخصية على «فيس بوك» قائلة: «لا إله إلا الله ولا نقول إلا ما يرضى الله.. البقاء لله أستاذ حلمى انتقل إلى رحمة الله.. الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته.. ربنا يصبر ابنه وإخواته وكل محبيه المخلصين».
درس التجارة وتفوق في الموسيقى
ولد حلمي عيد محمد بكر، الشهير بحلمي بكر بحدائق القبة بمحافظة القاهرة عام 1937 وكان الابن الأكبر لعائلة تضم سبعة أشقاء ثلاث بنات وأربعة ذكور.
درس حلمي بكر التجارة ارضاء لوالده، لكنه التحق بالمعهد العالي للموسيقى العربية فى عام 1961 تلبية لنداء الموهبة، وبينما تفوق في معهد الموسيقى وتخرج بتقدير جيد جداً، نجح في كلية التجارة بصعوبة وبدرجة مقبول.
بعد تخرجه عمل مدرساً للتربية الموسيقية في ثلاث مدارس وأثناء وجوده في الجيش حضرت المطربة الكبيرة وردة لإحياء حفل غنائي للقوات المسلحة المصرية وكان حلمى بكر مشهوراً في كتيبته بالغناء وعشق الموسيقى وقبل أن تقدم وردة فقرتها استقبلت حلمى بكر بترحاب وحصلت له على إجازة وأخذته فى اليوم التالي وقدمته للإذاعى محمد حسن الشجاعى مدير الإذاعة المصرية فأعطاه كلمات أغنية (كل عام وأنتم بخير ياعيد) ليلحنها، وأعجبه اللحن فأعطاه للمطرب عبد اللطيف التلباني، (ابن الاسكندرية الذي رحل محتنقا بالغاز في شقته عام 1989)، وقد حققت الأغنية نجاحاً طيباً ثم أعطى حلمى بكر نصاً غنائياً آخر هو (لا يا عيونى) الذي غناه المطرب ماهر العطار… ثم كانت شهادة الميلاد الحقيقية لحلمى بكر بآخر أغنية تغنت بها المطربة الكبيرة ليلى مراد وهى ما (تهجرنيش وخلينى لحبك أعيش)، تأليف عبد الوهاب محمد
بين عبد الحليم ووردة الجزائرية!
وكان حلمي بكر قد بدأ مسيرته الفنية في ستينيات القرن العشرين، ولحن للعديد من المطربين الكبار في العصر الذهبي للأغنية العربية، أمثال (عرباوي) و(حسن يا مغنواتي) لسيد الأغنية الشعبية محمد رشدي، ونجاة الصغيرة (ماظنش يا حبيبي) 1968 و(أنا ناسية وفاكرة) 1979، كما لحن لعبد الحليم حافظ، ثلاث أغنيات، لكنها لم تكن من الأغنيات الشائعة أو المشهورة… فقد غناها عبد الحليم في مناسبات خاصة، كأغنية (ليلة قمر) التي غناها في عيد ميلاد الرشيد ابن الملك الحسن الثاني ملك المغرب، وأغنية (بلد الحبايب) التي غناها في عيد الشباب وعيد ميلاد الملك الحسن الثاني عام 1971 وأغنية (ليلة فرح) التي سجلها عبد الحليم لمناسبة زواج ابن أحد الأثرياء وأرسلها إلى السعودية دون أن يذهب ليغينها في حفل الزفاف. وهو أمر جعل بعض النقاد ينتقدون إسرافه في الحديث الدائم عن صداقته لعبد الحليم في مقابلاته التلفزيونية، وتلحينه له، رغم أن هذه الأغاني لم تشتهر جماهيريا.
رغم ذلك استطاع حلمي بكر أن يقدم أغنيات هامة في سجلات كبار المطربين العرب، وأبرزهم وردة الجزائرية التي قدم لها العديد من الأعمال منذ التعاون الأول له معها في (شوية صبر) نهاية الستينيات، إلى أعماله التالية في سبعينات وثمانينات القرن العشرين كـ (ما دريتوش) التي كان يفخر بأن عبد الحليم حافظ أعجب بلحنه ووصفه بـ”اللحن الأندلسي”، ثم (ما اخترناش، يا خبر، ولا في الأمثال) ويبقى أكثر أغانية مع وردة نجاحاً: (على عيني) التي كتب كلماتها عبد السلام أمين.. وظلت واحدة من أقوى أغنيات السبعينات والثمانينات.
الاهتمام بالأصوات العربية
استطاع حلمي بكر كذلك أن يضع بصمة خاصة في مسيرة مطربين من جيل ما بعد العمالقة، وكان لديه اهتمام خاص بالأصوات العربية التي تفد مصر، ليضمن لألحانه الانتشار في بلدان أخرى… فقدم للمغربية عزيزة جلال “منك وإليك” كلمات عبدالوهاب محمد، ولعليا التونسية (ع اللي جرى) و(حبايب مصر) وللمغربية سميرة بن سعيد: (مالك)، و(من غير سبب)، و(ما تسألنيش) و(أمرك عجيب)، وللتونسي صابر الرباعي (ما انتهينا) و(حكاية*. وللمطربة السورية أصالة (ولا تصدق) و(يا صابرة يانا) كما لحن لها قصيدة (اغضب) للشاعر نزار قباني. وقال بكر في مقال كتبه في مجلة (الكواكب) المصرية عام 1999، إن نزار قباني هو الذي اختاره لتلحين القصيدة:
“لن أذيع سراً إذا قلت إن شاعرنا الكبير نزار قباني هو الذي اختارني لتلحين قصيدة “اغضب” لتغنيها صاحبة الصوت الدافئ الآسر “أصالة”، وعندما علمت بالخبر – الأمنية، كان علي أن أستعد له فوراً وأجهز كل أدواتي التي ستلازمني طوال الرحلة، تلك الرحلة التي لم أشك لحظة في أنها ستكون رحلة شاقة، ولكنها مع ذلك جميلة وثرية وممتعة، رحلة إلى عالم الإبداع ودنيا الحب اللذيذ”.
أوبريت الحلم العربي: محاكاة وإنجاز
في تسعينيات القرن العشرين، حقق حلمي بكر حضوراً مميزاً أعاده إلى الأضواء بقوة حين قدم ومن كلمات مدحت العدل، أوبريتاً غنائياً بعنوان: “الحلم العربى” قام بتوزيعه حميد الشاعري، وجمع العديد من الفنانين فى الوطن العربي وصدرت نسخته الأولى عام 1996 ثم نسخته المحدثة عام 1998 ، لكن هذا الأوبريت لم يتكسب زخماً وانتشارا قويا إلا في في سبتمبر / أيلول 2000 عقب انتفاضة الأقصى الثانية، والتي أشعل شرارتها تدنيس أرئيل شارون باحة المسجد الأقصى. فقد تبارت المحطات الفضائية الرسمية حينذاك في عرضه، كنوع من التعبير عن التضامن الصوري والعاطفي مع الشعب الفلسطيني.. بعد إضافة صور الانتفاضة فوق صور المطربين… وخصوصا أن كلماتها كانت تعد الناس بالأمل الذي ينبثق من التضامن والاتحاد بعد طغيان ظلام الفرقة:
أجيال ورا أجيال هتعيش على حلمنا
واللي نقوله اليوم محسوب على عمرنا
جايز ظلام الليل يبعدنا يوم إنما
يقدر شعاع النور يوصل لأبعد سما
ده حلمنا.. طول عمرنا حضن يضمنا.. كلنا كلنا
بلاشك كان حلمي بكر، يتطلع في أوبريت (الحلم العربي) إلى محاكاة نجاح أستاذه محمد عبد الوهاب، في أوبريت (وطني الأكبر) الذي جمع في ذروة المد الناصري عمالقة الأغنية من مصريين وعرب، لكن مشكلة الأوبريت الجديد أنه أراد استيعاب أكثر ما يمكن استيعابه من ممثلي البلدان العربية، فتفاوتت المقدرات الصوتية ما بين صوت لطفي بوشناق القوي الهادر، وصوت نبيل شعيل المحدود القدرات، وما بين طلاوة وعذوبة صوت نور مهنا وصوت إيهاب توفيق بخامته التي تفتقر لمسحة جمال معتبرة… وكان من بين المشاركين أيضاً كمحمد الحلو من مصر، وذكرى من تونس، وأصالة ونور مهنا من سوريا، ووليد توفيق وديانا حداد من لبنان وعلي عبد الستار من قطر وأحلام ومحمد المازم من الإمارات ونبيل شعيل من الكويت وعمر عبداللات من الأردن
نشاط درامي واسع
إلى جانب الموسيقى الغنائية، كان لحلمي بكر نشاط درامي واسع في وضع الموسيقى التصويرية للعديد من المسرحيات والأفلام والمسلسلات، فقدم الموسيقى التصويرة لحوالي 120 فيلما، و48 مسرحية، وضع بكر موسيقى العديد من المسرحيات منها “حواديت” لفرقة أضواءالمسرح، و”سيدتي الجميلة” لفؤاد المهندس وشويكار.
وفي السينما وضع موسيقى أفلام من بينها “شيء من العذاب” و”المجانين الثلاثة” و”لمن تشرق الشمس”. كما اشترك في تلحين فوازير رمضان على مدى أكثر من 15 عاما وكانت البداية مع نيللى في فوازير “صورة وفزورة” عام 1979، ثم “عروستي” عام 1980 تلاها “الخاطبة” و”أم العريف”، ومع شريهان “حول العالم”، ومع يحيى الفخراني “المناسبات”.
الحنين إلى عصر وهجاء عصر آخر
عرف حلمي بكر بمعاركه الإعلامية التي كان يخوضها ضد مطربي هذه الأيام، والتي دفعت بالبعض لإطلاق صفة “رائد شرطة الأخلاق” عليه، لكن حلمي بكر الذي عاصر نهايات عصر العمالقة، وكان يتحدث باستمرار عن اللحن الذي لم يسعف الزمن أم كلثوم لتغنيه له، ويفتخر بانه حرك في قلب ليلى مراد حب الغناء من جديد، فكسب الرهان مع صديقه الملحن كمال الطويل حين غنت له (تهجرنيش وخلينى لحبك أعيش)، كان يعيش حنينا لذلك العصر وتلك الأصوات، في ذات الوقت الذي كان يحب أن يظل حاضرا سواء في أغنيات الأجيال اللاحقة التي لحن لها، أو في الجدل الصاخب حول الغناء والموسيقى والأصوات التي تصلح ولا تصلح في العديد من البرامج التلفزيونية التي تنتشر تسجيلاتها على موقع الفيديو (اليوتيوب) لتقدم انطباعاً حول شخص عاش بين عصرين، وأراد أن يكون روايا للذكريات في العصر الأول، وناقد شرسا للعصر الثاني.