أرشيف المجلة الشهرية

أورينت وسليمان عبد المولى: منارة التمرد في صدى قلمي

بقلم: بلال الخلف

في بداية مسيرتي مع الكتابة، كنت أشعر بأنني مجرد هاوٍ غارق في حيرة الكلمات، أكتب وكأنّي أرتدي بذلة رسمية على شاشة التلفزيون السوري في التسعينات، محاطًا بقيد من الخوف والتردد. كانت كتاباتي منمّقة، مؤدبة إلى حدّ الكمال، تفتقد الجرأة والقوة التي تلزمها لتترك بصمتها. أردتُ أن أعبّر عمّا يجول في داخلي، لكن قلمي كان كأنّه مكبّل، وأفكاري تعبر برتابة.

ثم جاء صوت سليمان عبد المولى، ذلك الصوت الذي لم ألتقِ صاحبه قط، لكنّه كان حاضراً في أعماقي. لم أكن بحاجة للقاء شخصي به؛ فصوته، طريقته في التعبير، تمرده وغضبه، كلها كانت تصلني كصرخة تنبع من أعماق السوريين، صدى يلامس جزءًا دفينًا في نفسي. كأنّه كان يهمس لي بأن الكلمة أداة للتمرد، سلاحٌ يُحمل بقوة، ووسيلة للتحرر. كنت أقرأ كلماته، أستمع لصوته، وأشعر كأنّي أقف على أعتاب عالم جديد، عالم لا يخاف التعبير عن الألم والغضب والتمرد.

سليمان لم يرني، ولم يؤمن بي شخصيًا، لكن صوته ووجوده غير المرئي كان كافياً. علمني أن أتحرر من خوف البدايات، أن أتخلى عن الرتابة، وأن أجعل من كلماتي وسيلة للتعبير الصادق. كلماته كانت قاسية أحيانًا، لكن هذه القسوة كانت ما احتجته بالضبط؛ دفعة تجعلني أتجاوز حدودي، وأكتب بشجاعة لم أعرفها من قبل.

وكذلك كانت مؤسسة أورينت، لم أعمل بها، ولم أتلقَّ منها دعمًا مباشرًا، لكن ما تمثله من روحٍ متمردة، وثورية، ومتحدية، كان يكفي لأستلهم منها القوة. كانت أورينت في نظري رمزاً لقسوة الحق، تتحدث بلا مجاملات، تُبرز الحقيقة حتى ولو كانت جارحة. هذه الروح المتعجرفة أحيانًا، والقاسية، أضافت لي بعدًا جديدًا، جعلتني أفهم أن الكتابة ليست فقط تعبيرًا عن الذات، بل هي سلاحٌ يجب أن يستخدم بشجاعة وصلابة.

ومع مرور الأيام، بدأت أتحول، من شخص يبحث عن الأمان في الكلمات المألوفة، إلى كاتب يجرؤ على أن يُسمع صوته، أن يعبر عن مشاعره بجرأة، وأن يكتب بغضب حين يلزم الأمر. بتّ أقوى، أكثر جرأة، وأكثر قدرة على أن أكتب حروفًا تترك وقعها على القلب قبل العقل. تعلمت أن أكون صادقًا في كتابتي، أن أواجه الحقائق بشجاعة، وأن أعبّر عن قضيتي بعمق ودون تردد.

مرّ الوقت، وكبرتُ أنا وكبرت كلماتي. تعلّمت الكثير من روح سليمان عبد المولى ومن تلك الروح الإعلامية المتمردة، مؤسسة أورينت، التي كانت رمزاً للثورة والعناد في وجه كل قيد. في داخلي، تشكلت ملامح من صلابة وثبات، من روحٍ ترفض الانحناء أمام الظلم، ومن رغبةٍ عميقة في أن أعبّر عن معاناة السوريين وآلامهم. كنتُ أرى في سليمان وأورينت صورةً لروح سورية المتمردة، الروح التي مهما قست عليها الظروف، لا تتراجع عن المطالبة بالحرية والكرامة.

كانت أورينت، وسليمان عبد المولى يشبهان سورية كثيراً، فكلاهما يعكس روح الشعب العنيدة، وكلاهما يتحدث بلا مواربة، وبلهجة تجمع بين الغضب والأمل. بغيابهما، شعرتُ وكأنّ شيئًا عميقًا في داخلي قد انطفأ. هناك فراغ لم يستطع أي صوت آخر ملأه، غيابٌ كاد يكمل عامًا، لكنه ترك خلفه صدى يتردد في أعماقنا.

مع  الوقت، أدركت أن هذا الغياب ليس مجرد اختفاء، بل هو صدى لحكاية لم تكتمل بعد، حكاية بدأت بصوت قوي، وما زال عالقًا في وجدان السوريين. كان غيابهما تذكيرًا بالثمن الذي يدفعه كل صاحب كلمة حرة وكل صوت متمرد، وكأنهما يبعثان برسالة بأنّ هذا الطريق الذي بدأناه معهما ليس له نهاية واضحة، وأنّ علينا أن نحمل الراية ونكمل الرحلة.

اليوم، أشعر بامتنان عميق لهذا الصوت الملهم، صوت سليمان عبد المولى، الرجل الذي لم أره قط ، لكنّه ترك أثراً عميقًا في داخلي. وأشكر أيضًا مؤسسة أورينت، تلك المحطة التي أمدّتني بروحها الثائرة والمتمردة، وزوّدتني بالقوة لأكتب بلا خوف، وأعبّر بلا قيود.

_________________________________________

 من مقالات العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت – تشرين الثاني/ نوفمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى