أرشيف المجلة الشهرية

عام على رحيل حكم البابا: الحموي الذي لم خرج ولم يعد!

محمد منصور

ليس من السهل أن تكتب عن صديق وزميل مهنة، عاشرته لمدة خمسة عشر عاماً. كتبتما معا، وعوقبتما معاً، وسافرتما معاً، وتشاجرتما معاً، واستبدت بكما أهواء الحرية والتمرد ونزعاتها المميتة القاتلة في بلاد الاستبداد… حتى إذا ما هبت رياح الثورة، وتفتحت الرئتان لتنسم نسائم الحرية، كنتما معاً، كتلة من الشوق والانتشاء، والأمل بالعودة إلى وطن حر كريم سيد، تُصان فيه كرامة مواطنيه، لكن لا الثورة حققت أحلامها، ولا نكّست راياتها، ولا عدنا إلى الوطن، ولا إلى الصلح بعد شجار طويل، أنهاه الموت هذه المرة، فقد خرج حكم ولم يعد لا إلى حماة التي كان يحن إليها ككثير ممن غادروها، ولا إلى دمشق التي يحبها، ولا إلى حرير صداقتنا الذي رمته الأقدار في حقل أشواك.

حكم البابا كتلة من المواهب والتناقضات، من التسامي والتداني، من الخوف والشجاعة، من البراءة الطفولية والأذى الانتقامي الطفولي أيضاً، من الإقدام الجَسور في لحظات الصفاء الوجداني، والروحي النبيل، والانسحاب المتشائم في لحظات السخط، والخيبة المتبرمة. وحده الكرم لا يجتمع مع نقيضه في شخص حكم البابا، فهو كريم بلا خط رجعة، ولا أي نازع من نوازع الحرص الذي قد ينقلب في لحظة من اللحظات بخلاً.

رغم أنني درست أنا وحكم في  المؤسسة التعليمية نفسها (المعهد العالي للفنون المسرحية)، وكان يتقدّمني بعام واحد، إلا أننا لم نلتقِ في المعهد يوماً، فقد كان حكم من الذين دخلوا قسم النقد في المعهد، وهو صحفي معروف في الوسط الثقافي الذي طالما أشعل فيه الحرائق، وكان يُوصف بأنه صحفي فضائحي، وأن الاختلاط به ليس أمراً مستحباً بالنسبة لطلاب يتم تكوين ذائقتهم النقدية أكاديمياً. بعد التخرج بأكثر من عام التقيت بحكم أثناء عملي الصحفي. كان يصور مسلسله الأول ككاتب (عيلة خمس نجوم)، وكنت أغطيه كصحفي فنّي. بلا جهد توطدت علاقتي به، فقد كنت بدأت أعاني مثله، من عواقب الكتابة النقدية التي لا تجامل ولا تحابي، وإن لم أكن أذهب مذهبه في الاستفزاز الهجائي الصريح. في ما بعد اكتشفت أن جزءاً من اطمئناني، لعلاقتي بحكَم أنه حموي، ابن المدينة التي لدي فيها صداقات عميقة، والتي تمثل عنواناً من عناوين كراهية هذا النظام الكريه الفاسد، الذي أضفى على مدينتي دمشق مسحة من الكآبة والرثاثة التي لم تعرفها في تاريخها.

كانت معركتنا الحقيقية حكم وأنا هي الصحافة، أن نصنع صحافة حرة نحبها، صحافة لا نُطرد منها، ولا نُمنع من الكتابة فيها، ولا تُرفض مقالاتنا أو يُحذف منها… صحافة تعبر عن توقنا للمشاكسة، والتمرد على النفاق والرشاوى والمجاملات الثقافية والفنية، ولهذا اعتُبرنا مارقين وهدّامين ونشبه بعضنا بعضاً، مع أن بيننا فوارق جوهرية، في التفكير والأداء، وحتى الكتابة. لكن الصداقة الطويلة والاجتماع الأبدي على فضيلة كراهية هذا النظام الظلامي المتخلف، وحب كل من يكرهه، جعلتنا نبدو شبه متطابقين في أعين من لا يميز الجوهر، ولا يقرؤون التمايزات الحقيقية.

كان حكم صحفياً من طراز رفيع، يتنفس صحافة، رشيق ولاذع وجريء وموهوب، وإن لم يكن منصفاً وموضوعياً أحياناً. لكن كانت تشفع له ظرافته الهجائية اللاذعة في الكتابة، وصدور مواقفه عن قناعة ذاتية محضة، حتى لو كانت هذه القناعة خاطئة، فيما يبدو حماسه للشيء حين يكتب عنه بحب، نادراً واستثنائياً.

لم يكن حكم في أي لحظة من اللحظات طائفياً، وإن بدت ردود أفعاله هكذا. في جوهره كان يحب التنوع، ولم يختر صداقاته يوماً على أساس طائفي. كان يفخر بالانتماء لمدينته حماة؛ لأنها ظُلمت، وتم الاعتداء عليها بوحشية، وصار الانتماء لها مثار اضطهاد واشتباه سياسي.. لكنه أبداً لم ينطلق في ردود أفعاله التي وصفت بالطائفية من انتمائه الحموي، بل من فضح جوهر العلاقات التضامنية القائمة على البعد الطائفي، والتي يعرفها كل السوريين في الأمن والجيش والصحافة والإعلام، وبين المثقفين والفنانين، حكم لا يجامل في مثل هذه المسائل، كان معنياً بفضح هذه العلاقات، ليس لأنه طائفي، بل لأنه يرى أن هذا السلوك الطائفي خلق واقعاً يجب فضحه، وعدم التستر عليه.

عاش حكم 12 عاماً من عمر الثورة، وكان في سلوكه وشخصه ثورة بحد ذاتها. لم يكن ملاكاً، ولا مثالياً، ولا عنواناً تاماً للقيم، ولا بوصلة صححت مسار الثورة… كان بشراً مثلنا، يصفو ويتكدّر ويُكدِّر، وطالما سبّب المتاعب لأصدقائه ومحبيه بحدة طباعه، لكنه كان شجاعاً وصادقاً في مواقفه. حتى تحيزه ومزاجيته كانت نتاج هذا الصدق والتمرد. رحل حكم، وترك لي حب حماة، والانتماء الوجداني لمدينة أصدقائي النبيلة.

 _____________________________________________

 من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024

زر الذهاب إلى الأعلى