أرشيف المجلة الشهرية

زكريا تامر يهجو زمن القرود.. ومحيي الدين اللاذقاني يستحضر سيرة نمر دمشقي

في نص يعود إلى ثمانينات القرن العشرين نشر بعنوان “الغضب المنسي” يقدم لنا زكريا تامر نصاً مبهراً وجارحاً حول الواقع السوري بشكل خاص، حيث يهجو “زمن القرود” وموت الغضب الممتلئ شرفاً وشهامةً، وفي زاويته “لعبة الأيام” يعقب الأديب والمفكر السوري محيي الدين اللاذقاني ليستحضر بأسلوبه الاحترافي الرشيق فصولاً من سيرة نمر دمشقي (العربي القديم)

الغضب الجميل المنسي

بقلم: زكريــا تامــر   

  الغضب نوعان: غضب يدحر عدواً غازياً، ويحرر أرضاً وإنساناً، ويزهق باطلا، ويُشيد للعدل صروحاً. وغضب آخر لا يُفزِع ذبابة، ولا يمنع بوماً من النعيق. وكل غضب يعجز عن التجسد في أعمال وأفعال، هو ثرثرة وانفعال عابر وغضب وهمي مزوّر، يشبه غباراً يريد الإطاحة بجبل.

ومن المؤسف أن الغضب الوهمي هو الآن السائد في حياتنا اليومية، والمهيمن على كثير من عقولنا وألسنتنا وأيدينا وأقلامنا. نحن نغضب إذا دعس شخص ما على قدمنا مصادفة، ولا نغضب إذا احتل العدو جزءاً من وطننا. إنما نهز رؤوسنا آسفين، وندمدم متسائلين بحيرة: ماذا نفعل؟ الدول الكبرى تؤيده تأييداً بلا حدود. فهل نستطيع محاربة الدول الكبرى والانتصار عليها؟!

نحن نغضب إذا نُمي إلى سمعنا أن أحدهم قال علينا كلاماً لا يرضينا، ولا نغضب حين يزدرينا الأجنبي، ويكرس أجهزة إعلامه لتشويه صورتنا يومياً، بل نزداد تبجيلاً له، ونسرف في استيراد بضائعه. ونتخم مصارفه بأموالنا، كأننا نعترف بأن موقفه منا صحيح، ولم يقل إلا الحقيقة.  نحن نغضب إذا رأينا قمامة متناثرة على أرض شارع من الشوارع، ولا نغضب إذا رأينا أرض الشارع نفسها، تغرقها دماء بشرية مسفوكة ظلما وبغير ذنب، ونكتفي بالقول مهددين: “أجدادنا علمونا أن نثأر ولو بعد أربعين سنة”.

وقبل أعوام ليست بالقليلة غنت المطربة المشهورة فيروز قائلة بثقة وحماسة أن “الغضب الساطع آت”، فإن قولها مجرد شائعة يعوزها الصدق، ولكن ثمة معجبين بفيروز يدافعون عنها قائلين: “فيروز كانت صادقة. لقد قالت إن الغضب الساطع آت، من دون أن تحدد موعدا معينا لمقدمه، وسيأتي بالتأكيد بعد ألف سنة”.

الليالي نوعان: ليال لنوم الناس وليال لنوم الضمير، ونوم الضمير بات صفة للذكي وفق المعايير المعاصرة.

الأنهار نوعان: أنهار من ماء تسير إلى الأمانم، وأنهار من بني البشر تجري إلى الوراء، إذعاناً لمشيئة من إذا أمر أطيع، والعصاة هم من الهالكين.

الكتب نوعان: كتب ترشد إلى الدواء، وكتب هي الداء والوباء.

الأسواق نوعان: أسواق تباع فيها السلع الضرورية والسلع الكمالية، وأسواق يباع فيها الإنسان بأساليب متقدمة؛ فالرقيق محظور قانونياً، وأصفاده اختفت لتحل محلها أصفاد أخرى أبشع وأقسى وغير مرئية، وتسمى أحيانا الفقر والخوف.

الكلام نوعان: كلام صادق يجلب الهوان لصاحبه أو يصرعه، وكلام منافق يتيح لقائليه امتلاك الثروات واحتلال كراسي المناصب، والكلام المرائي هو الرائج والمطلوب.

استقلال الأوطان نوعان: استقلال يطرد الأجنبي المحتل كي يبني الوطن ويطور المواطن، واستقلال يرغم المواطنين على الحنين إلى أيام الاحتلال والمحتلين.

الأشجار نوعان: أشجار تفقد أوراقها الخضراء في الخريف والشتاء، وأشجار تحافظ على خضرتها في الفصول الأربعة. والناس الذين لا يذبل ما يؤمنون به من قيم ومثل، ولا يصفر ولا يتساقط هم قليلو العدد، ولكن قلة عددهم لا تعني أنهم مهزومون في الجولات كافة. الفيل الواحد أضخم من مليون بعوضة.

الحمير نوعان: حمير تعرف أنها حمير فتحمل الأثقال، وتكتفي بالنهيق صابرة، وحمير تدعي أنها قادرة على الطيران وستطير كالعصافير الدورية إذا كانت مدعومة من قبل قوى دولية.

البطون نوعان: بطون يشبعها القليل من القوت، وبطون جائعة مهما أكلت، وستطالب بالمزيد حتى لو التهمت الكرة الأرضية وما على سطحها.

الناس نوعان: ناس ينظرون إلى الأقدام على أنها وسيلة للتنقل من مكان إلى مكان، وناس يعتقدون أن لا مهمة للأقدام إلا الركض من عتبة مسؤول إلى عتبة مسؤول.

الزمان نوعان: زمان للنمور وزمان للقرود، والزمان الراهن ليس زمن النمور.

مجلة (الدوحة) أيار/ مايــو 1986

فصول من سيرة نمر دمشقي 

بقلم: د. محيي الدين اللاذقاني

في بداية الثورة السورية، حاولت أن أمتحن معرفتي بالأدباء والشعراء والمفكرين السوريين الكبار، من خلال موقفهم من الثورة، وبسرعة لم أتوقعها صنفت حنا مينا خارج المؤيدين؛ بسبب كبر سنه، وارتباطه العضوي بمواقف نجاح العطار، ووضعت معه من الشعراء أدونيس فوراً؛ لأسباب لها علاقة بالجذور الطائفية، وسنوات العسل الطويلة بينه، وبين النظام، وحزب الله، وإيران منذ قصيدة “كيف أروي لطهران حبي…”. أما غادة السمان، فتوقعت أن تصمت كعادتها في ركوب السهل غير الممتنع، ومن المؤيدين المحتملين توقعت الدكتور صادق جلال العظم، وزكريا تامر.

ولم يتأخر مؤلف “نقد الفكر الديني” عن إعلان موقفه، بل وحماسه لثورة أبناء بلده بمقاطع ألهبت الملايين، أما زكريا تامر، فكان أمامي بلحمه وعظمه، وشيب شواربه الخفيف في أول تجمع ثقافي مؤيد للثورة في الدوحة، نظّمه، وأعدّ له الراحل حكم البابا، بالتنسيق مع عزمي بشارة، وحضرته مع زكريا تامر، أصالة، وعشرات الأدباء، والفنانين الأكثر شباباً من الناحية العمرية، أما الشاب الحقيقي الذي كان يفيض حيوية وفرحاً بالثورة، فكان ذلك الحدّاد الدمشقي، صاحب المواقف الصلبة التي جعلت النظام يسعى لإبعاده، بعد أن عجز عن ترويضه بمنصب رئيس تحرير، لم يعمر به طويلاً.

حينها كانت مجموعته القصصية “النمور في اليوم العاشر” التي صارت أيقونة الأدب السوري قد كبرت، وتحولت لإرث ثقافي، يعتز به المتمردون السوريون، وكان زكريا قد انتقل إلى لندن، ثم إلى أكسفورد، لكن المرجل الذي بداخله ما زال يغلي بوتيرة أعلى، فما إن سمع بالثورة التي كان أحد المبشرين بها، حتى سارع إلى البحث في مواقع التواصل عن أبنائها؛ ليتابع كل نقلة في مسارها.

وقد هالني أن أكتشف، مع الزميل محمد منصور رئيس تحرير “العربي القديم” نصاً لزكريا تامر، نشره في مجلة الدوحة القطرية، قبل أربعين عاماً تقريباً يقرأ فيه الواقع العربي، واحتمالاته، كأنه ينقل من بلورة سحرية، اخترقت الحُجب: “الزمان نوعان، زمان للنمور، وزمان للقرود، والزمان الراهن ليس زمن النمور”.

ولا شك أن الأمر كان يتطلب شجاعة استثنائية؛ ليُقال هذا الكلام في ذروة سيطرة العصابة الأسدية على سوريا، بعد مجزرة حماة، والأخطر من ذلك أن يكتبه أديب دمشقي، ومن قلب دمشق، وربما كان هذا المقال، وما تبعه من تضييق أحد أسباب هجرة زكريا تامر التي يقولون عنها طوعية، ويتناسون أن نظام الإجرام كان يعمل على سد كل المنافذ، في وجه هذه النوعية من الأدباء الذين لم يستطع ترويضهم، كما تم ترويض النمور بتجويعها، لكن على مَن تقرأ مزاميرك يا حافظ، وأنت أمام كاتب يحتقر القرود الذين يتزيّون بزي الأُسود، ويعرّي أسلوبهم، ويعتبر نظامهم أسوأ من الاستعمار، وهذا ما قاله بالنص في مجلة، كانت وقتها الأوسع انتشاراً في زمن أشرف عليها الطيب صالح، ورأس تحريرها رجاء النقاش:

“استقلال الأوطان نوعان، استقلال يطرد الأجنبي المحتل؛ كي يبني الوطن، ويطور المواطن، واستقلال يرغم المواطنين على الحنين إلى أيام الاحتلال والمحتلين”.

لقد كانت معرفتي بزكريا تامر في سوريا محدودة، ولا تتعدى المرور على مقهى الهافانا، للسلام عليه، وعلى جليسه الدائم الشاعر النادر محمد الماغوط، وتشاء الصدف أن تتعمّق معرفتي بالاثنين خارج سوريا، مع الماغوط في الشارقة التي أتاها لبضعة أشهر؛ ليُشرف على القسم الثقافي في جريدة آل عمران “الخليج”، وكنت حينها أعمل مديراً لتحرير مجلة “الأزمنة العربية” التي أغلقها الشيخ زايد، فكان قراره ذاك وراء قدومي إلى لندن؛ لأستقرّ فيها، وألتقي لاحقاً بزكريا تامر.

مع الماغوط الذي لا يقلّ نقداً، لمرحلة ملوك الطوائف العربية المعاصرة عن جليسه بالهافانا، كنا نضحك معاً ساخرين في فندق الشاطئ على كل شيء، بما فيه أنفسنا، وأوضاعنا قبل أن نشجّع بعضنا على النزول للماء للسباحة، وهذا تعبير مجازي بالنسبة لسباحة الشاعر الساخر التي كانت تعني الخوض بالماء المالح، حتى الركب، ثم العودة سريعاً إلى أمان المظلة، وصمتها، أما مع الفتى الدمشقي، فكان الخوض والسباحة في كل الأحاديث ممكناً، وأشهد أنه كان مُحدّثاً بارعاً، لا يترك قضية دون تفاصيل، ولطالما تعجبت كيف يجد الوقت لينتبه لها.

ومن تفاصيله الدقيقة التي ما أزال أضحك، كلما تذكرتها أنه قال لي في إحدى زياراتي لبيته اللندني الدافئ: هل لاحظت أن الأظافر في المناطق الباردة، تطول بسرعة أكثر مما عندنا في سوريا؟ وطبعاً لم أكن قد لاحظت، ولا يمكن أن ألاحظ ذلك، مع أني عشت بالعاصمة البريطانية قبله عشر سنوات، لكن بعدها صرت أراقب أظافري، وأدرك أن الملاحظة الدقيقة واحدة من الأدوات الهامة التي لابد منها لمن يحترف الكتابة.

منذ أيام دمشق كان لحروف زكريا تامر أظافر شرسة بين نمور، تم ترويض بعضهم، وظل صاحب النمور في اليوم العاشر عصياً على الترويض؛ لأنه كان صاحب ضمير حي، وهي صفة لابد منها لكل كاتب كبير، أو ليس هو القائل في ذلك المقال العجيب الذي كان يقرأ به ما يجري في أيامنا بوضوح من كُشفت عنه الحُجب: “الليالي نوعان، ليالٍ لنوم الناس، وليالٍ لنوم الضمير، ونوم الضمير بات صفة للذكي وفق المعايير المعاصرة”.

شكراً أيها النمر الدمشقي الذي عجزت عن ترويضه القرود التي تتزيّا بزي الأُسود، فقد كنت، وما تزال رمزاً للأدباء المتمردين، وأصحاب الضمائر من أحرار سوريا وثوّارها.

____________________________________________

من مقالات العدد الحادي عشر من مجلة (العربي القديم) الخاص بزكريا تامر – أيار/ مايو 2024

زر الذهاب إلى الأعلى