دلالات وقضايا | مرايا دمشق الَّتي تعرف الشُّعراءَ الأحرار
يكتبها: مهنا بلال الرشيد
بعد الاحتفالات الكثيرة الَّتي عمَّت أرجاء سوريا ومدنها كلِّها منذ اليوم الأوَّل لسقوط طاغية الشَّام المخلوع بشَّار الأسد في الثَّامن من كانون الأوَّل-ديسمبر 2024 حتَّى يومنا هذا والأيَّام القادمات بعده مازال الأدباء والشُّعراء الأحرار يصدحون بأجمل قصائدهم، الَّتي جادت بها قرائحهم فرحًا بتحرير دمشق أو تحرير سوريا كلِّها، وما زلنا ننتظر تلك النُّصوص الشَّامخة حتَّى نتغنَّى بها من بعدهم؛ والحقُّ لا تشمخ القصيدة، ولا تبزُّ غيرها، ويبرز شاعرُها خلفها حتَّى تهدأ نشوة النَّصر قليلًا، ويتراجع سُلطان لواعج الفرح الكبيرة فيه، وتُثبت القصيدة الشَّامخة نفسَها ملحمة بجمال بنيتها اللُّغويَّة وجرس إيقاعها؛ لأنَّ مثل هذه (القصيدة-الملحمة) مزيج من مثيرات الألم الإبداعيِّ الَّذي عشناه حوالي نصف قرن، واشتدَّت وطأته على أبناء سوريا خلال ثلاث عشرة سنة من الثَّورة ضدَّ بشَّار الأسد طاغية الشَّام المخلوع وأعوانه. وعندما تكلَّلت هذه الثَّورة بالنَّصر والتَّحرير في الثَّامن من كانون الأوَّل-ديسمبر 2024 اختلطت مشاعر الفرح العارمة بالحزن العميق قبلها مع البهجة والسُّرور باستعادة الوطن وتقديس شهداء ثورة آذار 2011 وتمجيد نصرهم في الثَّامن من كانون الأوَّل-ديسمبر 2024 بالإضافة إلى النَّشوة بعودة كلِّ نازح إلى وطنه، بعد أن عانى كثيرًا مع المُهجَّر والمغترب من وطأة الهجرة والنُّزوح والاغتراب؛ وليس هناك ما هو أكبر من المعاناة الممزوجة بالحنين إلى البيت والوطن والدَّار الَّتي هدَّمتها براميل مجرم طاغية الشَّام، وقد صوَّر جزءًا من هذه المعاناة الشَّاعر نادر شاليش، الَّذي رحل في بلاد النُّزوح قبل أن يكحِّل عينيه برؤية داره، الَّتي اعتاد أن يرسل روحه إليها؛ كي تطوف بها خلال نومه بعيدًا عنها في كلِّ ليلة من ليالي النُّزوح القاسية؛ فقد قال:
أرسلتُ روحي إلى داري تطوف بها لمَّا خُطانا إليها ما لها سُبًل
أن تسأل الدَّار إن كانت تذكَّرُنا أم أنَّها نسيت إذ أهلها رحلوا؟
أن تسأل السَّقف هل ما زال منتصبًا فوق الجدارِ رغم ما فعلوا
أم أنَّها ركعت للأرض ساجدة تشكو إلى الله في حزن وتبتهلُ
أن تسأل النَّخلَ هل أكمامه نضجت أن تسأل التِّينَ والزَّيتون متَّصلُ؟
هيهات يا دارُ أن تصفو الحياة بنا ويرجع الجمع بعد النَّأي يكتملُ!
لكنَّ روحي ستبقى فيك ساكنة ما لي بأطمة لا شاة ولا جملُ
إن متُّ يا دارُ أو طال الزَّمانُ بنا فالصَّبرُ يا دار لا يضعف لنا أملُ!
أو عدتُ يا دار هل ألقاك باسمةً أم في اللِّقاء يعزُّ القول والجملُ؟
ويصبح الهمس نجوانا فلا كلمٌ والعين تهطلُ سحًّا تغدق المقلُ
بالله يا دار لا تُبدي معاتبتي أنِّي رحلتُ بحالي دونما قُبَلُ!
ما كان لبٌّ بساعات الرَّحيل وما وقتٌ أُتيح إذ النٍّيرانُ تنهملُ!
لا بدُّ للَّيلِ من صبح يبدِّده ويسطع النُّور والظَّلماء ترتحلُ
ويرجع الحقُّ فوق الكفِّ عالية راياته البيض لا كفرٌ ولا دجلُ
علائمُ الصُّبح قد لاحت مبشِّرة لم يبقَ في السَّاح لا عُزَّى ولا هُبَلُ!
فأوَّل النَصر للأوثان نكسرها فعلُ الخليل وفعل المصطفى مثلُ
لن تسكتَ الحربُ لو ستِّين محولةً حتَّى يُطهَّر وجه السَّهلِ والتِّللُ
أغرى بكَ الفُرسُ أن تغدو لنا ملكاً يخلف جبلَّة ما أعيتهم الحيلُ
لكنْ غباءك أنْ صدَّقتَ مكرَهُمُ كالطِّفل فارجع ففي أوهامك الأجلُ!
ديوان نادر شاليش وقد صدر بعد رحيله ضمن سلسلة (كتاب أورينت) التي أشرف على إصدارها محمد منصور عام 2022 وللتنويه الديوان فيه العدد من القصائد عن دمشق
لا نستطيع التَّعليق على هذه الملحمة إلَّا بقولنا: إنَّها عصيَّة على أيِّ اجتزاء منها، وكلُّ شرح لها بعيدًا عن مناهج التَّدريس القادمة في سوريا الحرَّة هو انتقاص لها؛ لذلك تستحقُّ هذه القصيدة أن توضع في واحدة من كُتب الشَّهادتين: الإعداديَّة أو الثَّانويَّة؛ كي تحفظها الأجيال، ويخلد اسم صاحبها الَّذي مات في غربته قبل عودته إلى وطنه أو داره الَّتي كتب فيها ملحمته الخالدة هذه، وتحدَّث خلالها باسم كلِّ سوريٍّ حرٍّ وشريف، وقد تحقَّق إيمانه بالنَّصر، وصدق استشرافه الثَّوريُّ الممزوج باليقين الكبير، ولاح فجر الحُرِّيَّة، وسقطت أصنام المجرم حافظ الأسد، وهرب وريثه المخلوع بشَّار الأسد، وعجز الفرسُ عن إحكام قبضتهم على سوريا الحرَّة!
شُعراء معاصرون شاركوا الشَّام أفراحها
ألهمت دمشق الشُّعراء المبدعين على مرِّ العصور، وألهبت أفراحها وأتراحها مشاعر الأحرار منهم في كلِّ مرحلة؛ فصار حزنها وفرحها مثيرًا إبداعيًّا أشعل لديهم جذوة الألم العبقريِّ أو الألم الإبداعيٍّ، وخلال الدِّفاع عن الشَّام لتحريرها سالت دماء الشُّهداء الطَّاهرة، وروَّت تراب الوطن خلال الثَّورة، وفي غمرة النَّصر جفَّت محابرُ كثيرة؛ حتَّى ظننَّا أنَّ الأحبار ستنفد، ولو جئنا بمثلها أو مثل البحر مددًا، وإن واكب الأدب شعرًا وسردًا ومسرحًا وسينما ودراما أحداث هذه الثَّورة المباركة فإنَّ المستقبل سيجود بأدب خالد يضيء عتمة تك المرحلة المظلمة؛ ليخلِّد التَّاريخ هذه الأعمال مثلما تكفَّلت الأيَّام بتخليد الأعمال المتوهِّجة دون غيرها من قبل؛ مثل قصيدة شفيق جبري، الَّتي قالها في تحرير دمشق واستقلالها الأوَّل عن الفرنسيِّين:
حُلْمٌ على جنبات الشَّام أم عيدُ لا الهمُّ همٌّ ولا التَّسهيدُ تسهيدُ
أتكذبُ العينُ والرَّايات خافقة أم تكذب الأذن والدُّنيا أغاريد
ملءُ العيون دموع من هناءتها فالدَّمع درٌّ على الخدَّين منضودُ
على النَّواقيس أنغام مسبِّحةٌ وفي المآذن تسبيحٌ وتحميدُ
لو ينشد الدَّهر في أفراحنا ملأت جوانب الدَّهر في البشرى الأناشيدُ
سعيد عقل أحبَّ دمشق وواكب أفراحها
كتب سعيد عقل لدمشق نصوصًا متميِّزة؛ لحَّنها الأخوان رحباني، وغنَّتها فيروز، ومن هذه النُّصوص قصيدة: (قرأت مجدك):
قرأتُ مجدك في قلبي وفي الكتبِ شآمُ ما المجد أنتِ المجدِ لم يغبِ
إذا على بردى حَورٌ تأهَّل بي أحسستُ أعلامك اختالت على الشُّهبِ
أيَّام عاصمة الدُّنيا هنا ربطت بعزمَتي أُمَويٍّ عَزْمَةَ الحِقبِ
هذي لها النَّصرُ لا أبهى فلا هُزمت وإن تهدَّدها دهرٌ من النُّوَبِ
لم تكن كاتبات سعيد عقل حول دمشق كتابة مناسبات أو كتابة (موجة تريندات) بمصطلح هذه المرحلة، بل كانت كتابات صادرة عن بواعث إبداعيَّة ومشاعر حبٍّ صادقة؛ ولذلك خلدت عبر التَّاريخ، ولو لم تكن كذلك لماتت مع تراجع وهجِ المناسبة وانتقال أهلها من فرحة النَّصر إلى مرحلة البناء بعدما شمَّروا عن سواعدهم لإعماء البلد، الَّذي دمَّره طاغية الشَّام المخلوع مع حفنة من مرتزقة السِّلاح والتَّبشيح الثَّقافيِّ؛ لقد كان حبُّ سعيد عقل دمشق حبًّا صادقًا؛ لذلك خلدت قصائده وكلماته، الَّتي غنَّت فيروز واحدة منها، وقالت فيها:
أحبُّ دمشقا هواي الأرقَّا
أحبُّ جوار بلادي
ثرًى من صِبا وودادِ
رعته العيون جميله
وقامة كحيله
أحبُّ أحبُّ دمشقا
دمشق في وجدان عمر أبو ريشة
كتب عمر أبو ريشة في دمشق نصوصًا خلَّدها التَّاريخ؛ ومنها قصيدة (عروس المجد)، الَّتي نقرأها الآن في غمرة أفراح (كانون الأوَّل/ديسمبر) 2024، فيبدو لنا وكأنَّه رسم لنا ملامح صورة عن ملامح تحرُّرنا ومشاهد الفرحة الغامرة بخلاصنا من عائلة الأسد المجرمة ربيبة كلِّ فاسد وذَنَبَ كلِّ محتلٍّ؛ فقد قال أبو ريشة مصوِّرًا أفراح دمشق في يوم استقلالها وتحريرها وخلاصها:
يا عروس المجدِ تيهي واسحبي في مغانينا ذيول الشُّهبِ
لن تري حفنة رملٍ فوقها لم تُعطَّر بدما حرٍّ أبي
درج البغيُ عليها حقبةً وارتمى دون بلوغ الأربِ
وارتمى كِبرُ اللِّيالي دونها ليِّنَ النَّاب كليل المخلبِ
لا يموت الحقُّ مهما لطمت عارضيه قبضة المغتصبِ
يا عروس المجد طال الملتقى بعدما طال جوى المغترِبِ
سكرت أجيالنا في زهوها وغفت على كيد دهرٍ قُلَّبِ
قد عرفنا مهركِ الغالي فلم نرخصِ المهرَ ولم نحتسبِ
فحملنا لك إكليل الوفا ومشينا فوق هامِ النُّوَبِ
فامسحي دمع اليتامى وابسمي والمسي جرحَ الحزانى واطربي
نحن من ضعفٍ بنينا قوَّة لم تلن للمارد الملتهب
محمَّد الماغوط ونزار قبَّاني والأدباء الأحرار في مرايا دمشق الحرَّة
عند الحديث عن شعراء سوريا وكتَّابها لا يمكن لأيِّ متحدِّث أن يتجاوز محمَّد الماغوط صاحب (سأخون وطني)؛ وطن الطُّغاة الواجب على كلِّ حرٍّ أن يناضل فيه؛ حتَّى لو اتَّهموه بالخيانة أو الخروج من تحت (سقف الوطن) المفصَّل على حجوم الطُّغاة ومرتزقتهم، ولا يمكن المرور سريعًا على تجربة نزار قبَّاني ابن دمشق ومحبِّها وفارس شعرها الأنيق؛ صاحب قصيدة: (ترصيع بالذَّهب على سيف دمشقيٍّ)؛ هذه القصيدة الخالدة، الَّتي سوف نستبدل فيها كلمة (تشرين) بكلمة (كانون) شهر التَّحرير والانتصارات في مناهجنا الحديثة:
أتُراها تحبُّني ميسونُ…؟ أم توهَّمتُ والنِّساءُ ظنونُ؟
يا بنةَ العمِّ والهوى أمويٌّ كيف أُخفي الهوى؟ وكيف أُبينُ؟
هل مرايا دمشقُ تعرفُ وجهي من جديدٍ أم غيَّرتني السُّنونُ؟
ها هي الشَّام بعد فرقة دهرٍ أنهرٌ سبعةٌ وحورٌ عين
قادمٌ من مدائن الرِّحِ وحدي فاحتضنِّي كالطِّفلِ يا قاسيون!
جاء (كانون) إنَّ وجهكَ أحلى بكثير ما سرُّه كانون؟!
إنَّ أرض الجولان تشبه عينيكِ فماء يجري…ولوز وتينُ
مزِّقي يا دمشق خارطة الذُّلِّ وقولي للدَّهر كن فيكونُ
كتب الله أن تكوني دمشقَ بك يبدا وينتهي التَّكوينُ
علِّمينا فقه العروبة يا شام فأنتِ البيان والتَّبيين
وطني يا قصيدة النَّار والورد تغنَّتْ بما صنعتَ القرونُ
هذا بعض ما تذكَّرته في غمرة أفراحنا بتحرير دمشق وخلاصها من أقذر حكم في تاريخ البشريَّة، وأنتظر-بوصفي محبًّا للشِّعر العربيٍّ ومتابعًا لحركة تطوُّره وتحوُّلاته-ما ستجود به قرائح الشُّعراء الأحرار بهذه المناسبة العظيمة!