متى يرجع السُّوريُّون إلى وطنهم؟
عوامل مؤثِّرة في عودة السُّوريِّين إلى سوريا أو مؤثِّرة في عزوفهم عن العودة إلى سوريا

مهنا بلال الرشيد- العربي القديم
يتساءل كثير من المتابعين: متى يرجع المهاجرون السُّوريُّون إلى بلدهم؟ ومتى يرحلون عنه؟ وما العوامل المؤثِّرة في العودة والرَّحيل بين آونة وأخرى أو بين سياق زمنيٍّ وآخر؟ وقد تأمَّلتُ في هذه الأسئلة، وتذكَّرتُ أنَّني في العام الدِّراسيِّ 2005-2006 كنت طالبًا في قسم الدِّراسات العليا في جامعة اللَّاذقيَّة، وكان أساتذتنا مع شعبة الامتحانات يستعينون بنا في رئاسة القاعات الامتحانيَّة أو مراقبتها؛ لذلك كنت أتجوَّل في القاعة، وأتأكَّد من أسماء الطُّلَّاب على بطاقاتهم الشَّخصيَّة والباطاقات الجامعيَّة، وأقارن أسماءهم المكتوبة على أوراق الامتحانات بأسمائهم المكتوبة في بطاقاتهم المدنيَّة والجامعيَّة، وبعد جولتين أو ثلاث جولات وجدت أنَّ كثيرًا من طلَّابنا في الجامعة -لا سيَّما أبناء اللَّاذقيَّة وطرطوس- كانوا من مواليد مونتريال في كندا أو أمكنة أخرى من العالم، وعندما بحثت في أسباب هذه الظاهرة، عرفتُ أنَّ معظم أولئك الطُّلَّاب من أبناء كبار الضُّبَّاط والشَّخصيَّات المحسوبة على نظام حافظ الأسد؛ لأنَّ طلَّابنا في تلك المرحلة قد ولدوا في ثمانينات القرن الماضي عندما راح الحكم يستتبُّ لحافظ الأسد وأعوانه بعد أحداث الأخوان المسلمين، وبعد مزيد من التَّامَّل وجدتُ أنَّ هناك هاجسًا خفيًّا لدى نظام الأسد وضبَّاطه ورجال صنع القرار المقرَّبين منه، ووجدت أنَّهم يدركون تمامًا أنَّهم استلموا السُّلطة بانقلاب عسكريٍّ؛ لذلك لن يسمحوا لحكمهم أن يسقط بانقلاب عسكريٍّ آخر، وإن استطاعوا حمايته من السُّقوط بالانقلاب فلن يسقط حكمهم-بحسب تقديرهم-بأيِّ سبب آخر، ويبدو أنَّهم لم يتوقَّعوا قيام ثورة شعبيَّة أبدًا، وتوقَّعوا أن عسكرة الثَّورة وتحويل الثَّورة الشَّعبيَّة إلى ثورة مسلَّحة سيصبُّ في صالحهم بسبب عدم تكافؤ موازين السِّلاح بين دولة ذات جيش طائفيٍّ منظَّم وبين مجموعات من الثُّوَّار تعمل دون قيادة موحَّدة لها؛ ولذلك كثر ترديد نظام المجرم المخلوع بشَّار الأسد قوله: لا يوجد قيادة للثَّورة كي نتفاوض معها، وعندما أفرزت الثَّورة بعض القيادات المرتبطة بنفوذ بعض الدُّول صار النِّظام والدُّول المتعاونة معه يدفعون باتِّجاه تحريك المتعاونين معهم بأوامر الدَّاعمين، ومع ذلك كلُّه وضع قادة الانقلاب الأوَّل مع حافظ الأسد احتمال السُّقوط في حسبانهم، ولأيٍّ سبب كان؛ ولذلك عملوا على إرسال زوجاتهم قبل الولادة إلى كندا وغيرها، كي تنجب الزَّوجة ولدها هناك، ويحصل الطِّفل على جنسيَّة أخرى يستفيد منها مع أهله للفرار إذا سقط ذلك النِّظام.
ونتيجة لهذه المقدِّمة الوجيزة تتكشَّف لدينا أهمِّيَّة البحث في المجتمع السُّوريِّ، ونفهم أسباب تمويل الصُّهيونيَّة العالميَّة مراكز عزمي بشارة ومراكز غيره بملايين الدُّولارات لدراسة المجتمع السُّوريِّ بالإضافة إلى استقطاب بعض الكتَّاب والشُّعراء والإعلاميِّين والصَّحفيِّين والمؤثِّرين وتوظيفهم في تلفزيون سوريا المملوك لعزمي بشارة في إسطنبول والنِّشر لهم في موقع التِّلفزيون أو في تلفزيون العربيِّ أو موقع العربيِّ الجديد أو استقطابهم إلى معهد الدَّوحة للدِّراسة عند عزمي بشارة أو استقطابهم ليكونوا تحت تأثير الأيديولوجيا الصُّهيونيَّة أو جذبهم إلى أيِّ موقع من مواقع إمبراطوريَّة عزمي بشارة، الَّتي تستهدف المجتمع السُّوريِّ بعد ما يشبه الانتهاء من استهداف المجتمع الفلسطينيِّ.
كيف يفكِّر السُّوريُّون؟
حدث في الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة مجموعة من الانقلابات العسكريَّة منذ استقلالها عن فرنسا في 17 نيسان-أبريل 1946 حتَّى انقلاب حافظ الأسد في 16 تشرين الثَّاني-نوفمبر 1970، وقد أثَّرت هذه الانقلابات الكثيرة والمتكرِّرة في وعي السُّوريِّين وطرائق تفكيرهم أيضًا، وكان رجال كلِّ انقلاب وحاشيتهم يفكِّرون بطريقة للهرب أو الهجرة في حال سقوط نظامهم بانقلاب آخر، وقد دفعت هذه الأحوال المضطربة كثيرًا من السُّوريِّين إلى الهجرة، وقد عزم بعض المهاجرين على الاستقرار الدَّائم بعيدًا عن سوريا منذ اتِّخاذ قرار الهجرة الأوَّل، وأراد بعضهم أن تكون هجرته هجرة مؤقَّتة؛ واستقطبت أمريكا اللَّاتيتيَّة عددًا كبيرًا من المهاجرين السُّوريِين واللُّبنانيِّين خلال القرن الماضي، وفي كثير من الأحيان نجد شخصيَّات فاعلة ولاعبي كرة قدم متميِّزن في دول أمريكا الجنوبيَّة، وأصولهم سوريَّة، وبعضهم لا يمانع تمثيل منتخب سوريا لأنَّ قناعات الإنسان خلال الاستقرار في بلد جديد قد تتغيَّر نتيجة لعوامل كثيرة، فقد يرجع المهاجر إلى سوريا وإن كان يريد الاستقرار خارجها في مرحلة سابقة، وقد يعزف عن الرُّجوع من كان لا يقوى على مكابدة الحنين أو النّستالوجيا بعيدًا عن مرابع الطُّفولة؛ وربَّما رجع هذا، واستقرَّ ذاك، وفضَّل ثالث قضاء باقي حياته بين البلدين؛ لذلك نتساءل عن العوامل المؤثِّرة في عودة السُّوريِّين إلى بلدهم أو استقرارهم بعيدًا عن وطنهم الأصليِّ، ونبحث في بعض الحالات، ونحاول تفسريها بإيجاز، وهذه بعض الحالات:
السُّوريُّ المجنَّس والمندمج النَّاجح في مجتمعه الجديد
يتساءل كثير من المتابعين عن أسباب عودة السُّوريِّ المجنَّس النَّاجح والمندمج في بلده الجديد، مثلما يتساءل آخرون عن أسباب تمثيل لاعب كرة قدم متميِّز بلده الجديد ورفضه تمثيل منتخب سوريا أو اختياره تمثيل منتخب آخر؛ والإجابة المقنعة عن هذه التَّساؤلات تشير إلى التَّفكير المادِّيِّ أو المنطقيِّ المحض لدى هذه الفئة من المهاجرين السُّوريِّين؛ فغالبهم يبحث عن منفعته أو يبحث عن أكبر قدر من المنفعة؛ فإن كان تمثيل المنتخب الجديد أكثر نفعًا للاعب كرة قدم من أصول سوريَّة فغالبًا سيختار اللَّاعب منفعته، وإن كانت حظوظه في تمثيل منتخب البلد الجديد ضعيفة بسبب قوَّة المنافسة على التَّمثيل هناك فيمكن لهذا اللَّاعب أن يمثِّل منتخب سورية، ويمكن أن يتغنَّى بأصوله السُّوريَّة أيضًا، ومثل هذه الحال تُقاس على العاملين في قطَّاعات تعليميَّة أو إعلاميَّة أو ثقافيَّة أخرى، لا سيَّما إن كان أصحابها قد حصلوا على جنسيَّة البلد الجديد وجواز سفره، فهناك نسبة كبيرة منهم ترى-بسبب اللُّغة تحديدًا- أنَّ فاعليَّتها وقيمتها وتقديرها في بلدها الأصليِّ أكبر بكثير من فاعليَّتها وتقديرها في بلدها الجديد؛ لأنَّ قدرة أولئك على ترويج أنفسهم بلغته العربيَّة الأصليَّة أكبر بكثير من قدرتهم على ترويج أنفسهم في مجتمعهم الجديد بعد حصولهم على الجنسيَّة فيه، وربَّما فكَّر قسم منهم بالحفاظ على امتيازات الجنسيَّة الجديدة مع العمل داخل سوريا، وهناك مراكز بحثيَّة تفضِّل التَّعامل مع هذه الشَّريحة من السُّوريِّين لأغراض بحثيَّة وأهداف متعدِّدة، وغالبًا ما يكون التَّغنِّي بالأصول السُّوريَّة وسيلة لتحقيق المكاسب، مع أنَّ الحنين للأصول صادق وحقيقيٌّ في كثير من الحالات، وهناك حالات أخرى برغم نجاح أصحابها يفضِّل بعضهم الرُّجوع لسبب أو لآخر؛ ومنها:
تفكُّك الأسرة أو الخوف من تفكُّكها
في بعض الأحيان يحصل زواج ما داخل سوريا أو خارجها على أساس المنفعة المحضة، وبعض الأحيان، وعندما تسافر الأسرة-إلى أوروبَّا على سبيل المثال-يتفاجأ أفراد الأسرة بقوانين مدنيَّة حداثيَّة جدًّا، قد تلقي بظلالها على العلاقة الزَّوجيَّة وعلاقة الأبوين بأبنائهما أيضًا؛ فتبعات الانفصال بين الزَّوجين في أوروبَّا ليست ثقيلة جدًّا، ولا تدمِّر حياة المنفصلين مثلما يحصل في المجتمعات الشَّرقيَّة، وقد يختار أحد الزَّوجين الانفصال، ولا يرغب الثَّاني بهذا الانفصال، وبالمحصِّلة تلقي هذه القوانين الحداثيَّة بتأثيرها المباشر على تكوين الأسرة، وتزداد مضاعفات التَّأثير إذا كان الزَّواج في أساسه زواج مصلحة، وإذا حصلت تباينات في الأفكار والمواقف بعد الزَّواج، وإذا حصل خلاف بسبب الموقف من الثَّورة السُّوريَّة ذاتها، أو الموقف من بعض نتائجها في السّويداء أو الجزيرة السُّوريَّة على سبيل المثال، وقد رأينا أخوة وأزواجًا وعوائل قد تقسَّم أفرادها بين الفصائل في جمهور الثَّورة، ورأينا أسرًا أخرى تقسَّم أفرادها بين مَن يسكن في مناطق سيطرة النِّظام المخلوع وبعضهم سكن في المناطق المحرَّرة، أو هاجر خارج سوريا، وقسَّمت بعض العشائر شيوخها بين النِّظام والثَّورة وبين تركيا وإيران؛ في المحصِّلة هذه تبعات كثيرة، يلقي معظمها بظلاله على تكوين الأسرة السُّوريَّة وقرارات العود والرُّجوع إلى سوريا بالإضافة إلى عوامل النِّستالوجيا أو الحنين إلى الوطن مع بحث الإنسان عن الاستقرار والحياة الأسريَّة الهادئة بالإضافة إلى حبِّ تقدير الذَّات أو التَّعاون مع مراكز بحثيَّة ذات تمويل عالٍ وذات حضور مقبول بسبب تمويلها العالي، وقد تجد متبرِّعًا سخيًّا من أحد الباحثين عن ترسيخ جذوره في مكان ما، وربَّما رغب آخرون بالوصول إلى مراكز قياديَّة في الدَّولة السُّوريَّة الجديدة، وربَّما حنَّ آخرون إلى المناصب الَّتي كانوا يشغلونها في الدَّولة السُّوريَّة أثناء حكم المجرم المخلوع، وبرغم حصولهم على جنسيَّة وامتيازات خارج سوريا فإنَّ هذه الامتيازات لا تساوي عندهم ألق المنصب أو بهرجة الحضور الإعلاميِّ أو التَّأثير في المجتمع النَّاطق بلغتهم العربيَّة الأصليَّة والارتقاء في مراكز صنع القرار، وهذا بالتَّحديد ما يدفع بعض المراكز البحثيَّة أو أجهزة الاستخبارات للاستثمار في هذه الطَّائفة من السُّوريِّين أو الاستثمار في المؤثِّرين لمزيد من التَّغلغل في المجتمع السُّوريِّ والدَّولة السُّوريَّة الجديدة.
المبالغة في إظهار الحنين والشَّوق إلى الوطن
هناك من يتحدَّث عن رغبة بالوصول إلى مركز ما، وربطها مباشرة بمبالغة هذا الشَّخص أو ذاك في إظهار الحنين والشَّوق إلى الوطن وتقبيل ترابه والتلفُّح بعلم الثَّورة ونشر الصّور على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ، وهناك من تحدَّث عن المبالغة في الرَّقص وإظهار الفرح بسقوط النِّظام المخلوع لأغراض أخرى غير التَّعبير عن الفرح بحدِّ ذاته، ويرى نفر من الفلاسفة أنَّ فقدان الاتِّزان في إظهار الفرح يكمن خلفه غايات أخرى وانفعالات ورغبات بتوظيف هذا الانفعال للوصول إلى مناصب قياديَّة أو رغبة في إخفاء بعض المواقف القديمة المشبوهة؛ كيلا يُعدَّ هذا المبالِغ بانفعالاته بين المكوِّعين أو لكي تسِّهل هذه الرَّقصات والأفراح والصُّور الاستعراضيَّة بما فيها من مبالغات من عمليَّة الاحتكاك بالسُّلطة الجديدة أو التّقرُّب منها من خلال الظُّهور الإعلاميِّ أمامها لكي يصل صاحبها إلى المنصب، الَّذي يبحث عنه، ويحنُّ إليه، أو يُدفع لشغله مجدَّدًا بعدما شغله أيَّام المخلوع ووالده الطَّائفيِّ المجرم، وغالبًا ما يرتبط تمويل هذه الحالات من (الحرس القديم) مع تمويل المؤثِّرين الجدد بأغراض بحثيَّة مموِّلة من هذا المركز البحثيِّ أو ذاك، وفي المحصِّلة لا تبدو معظم الخطوات والتَّصرُّفات خصوات عفويَّة أبدا، وإنَّما هي تصرّفات مدروسة بعناية وسلوكات مرسومة لأصحابها بدقَّة فائقة، لا سيَّما إن كان صاحبها معدودًا بين النَّاجحين من المؤثِّرين الجدد أو الحرس القديم، الَّذين يحسبون خطواتهم جيِّدًا، ويعرفون تمامًا كيف ومتى وأين تؤكل الكتف.
هذه بعض العوامل المؤثِّرة في عودة السُّوريِّين إلى سوريا أو المؤثِّرة في عزوفهم عن العودة إلى سوريا، ويُضاف إليها الوضع القائم في سوريا، نعم الوضع ذاته، لا سيَّما لدى سكَّان السُّويداء والجزيرة السُّوريَّة، وهناك من يرقب وضع سوريا كلَّه، وإن كانت هذه هي الخطوط العريضة لأبرز الحالات السُّوريَّة الَّتي رصدناها في هذا المقال، يبقى لكلِّ سوريٍّ قصَّته أو حكايته وتفاصيله الدَّقيقة الخاصَّة به أيضًا، وهذه التَّفاصيل الدَّقيقة هي الَّتي تقوده إلى اتِّخاذ قراراته بالتَّناغم مع الأسباب والقواعد العامَّة المذكورة، وقد تكون الأسباب الخاصَّة والتَّفاصيل الدَّقيقة غير المعلنة أو غير المعروفة لدى الجماهير أكثر تأثيرًا من القواعد الَّتي رصدناها أو تحدَّنا عنها.