مقامات أمريكية | ماردين والضيق الذي يُبدده ثلاثة سوريين
د. حسام عتال
ميخائيل سعد يحب أشياء كثيرة. هو يحب الدعابة فعلى وجهه ابتسامة خفية وهو يترصد أي فرصة كي يلقي فكاهة لطيفة. مرة في إحدى كنائس (مديات) القديمة وقف على المذبح وألقى خطبة عصماء مزج فيها الأديان والمعتقدات وعلوم الاجتماع والتاريخ، وجعل صحبته تلتوي من الضحك. وهو يحب صحبة الفتيات المعجبات به فهو دائماً محاط بثلة من الجميلات يرافقنه في تجواله وهو يتصور معهن بهاتفه المحمول. وأكثر من أي شئ هو يحب ماردين، فها هو يحضّر نفسه للدراسات العليا في جامعتها في قسم علوم الدين الإسلامي بعد أن ينتهي من دراسته التاريخ بعد أشهر وجيزة. أحسب أنها طريقته في البقاء في هذه المدينة لسنوات قادمة. وأحسب أنه لا يستطيع فراقها لأن ماردين ليست مدينة واحدة بل هي ماردينيتان.
الأولى هي ماردين الحقيقة، القديمة، التاريخية، القابعة على قمة جبل ماردين، وهي صخرة ضخمه تعلو ١٥٠٠ متراً تتوجها قلعة ماردين. (اسم ماردين يعني القلعة بالسريانية) بيوتها من الحجر الجيري الخاص بالمنطقة والذي يتغير لونه مع زاوية الشمس، فهو وردي صباحاً، يطغى عليه الصفار ظهراً، ثم ينقلب أرجوانياً عند الغروب.
البيوت التي بنيت بهذه الأحجار تبدو وكأنها امتداد عضوي لصخرة الجبل، فعندما تمشي بين أزقتها الملتوية الضيقة، لا تدري أين ينتهي صخر الأرض وأين يبدأ حائط البيت. وانطباعك هذا ليس فقط لتضارع اللون وتجانس الملمس، ولكن لطريقة العمارة العجبية التي اختارها من بنوا المدينة. لابد انهم قد اُسْقِطُوا في جلال صخرتها فاختاروا أن يعيشوا فيها وليس عليها.
تمشي فيها مع زوجتك وفي كل زاوية غدق من الجمال والأصولة والعراقة. على الحيطان ترى مزيجاً من الكتابات والنقوش المحفورة، تعكس امواج الناس الدين عاشوا فيها من سريان وارمن ويهود وعرب وترك وكورد وغيرهم. نوافذ البيوت الضيقة مدعّمة بتزيينات من الحديد الملوي، بحرفية، أما أبوابها في قليلة الارتفاع وكأنها تسألك الاحترام للمقام عند دخولها. وليس هناك باب يشبه الآخر، فهذا حديدي صدئ وذاك خشبي مزخرف والثالث قطعة أثاث عدّلت لتصبح باباً. وتكاد الأبواب أن تكون الدلائل الوحيدة أن لسكانها شخصياتهم المختلفة، فكأنهم قد اجتمعوا في يوم ربيعي وقرروا أن الحيطان والسقوف ملكية عامة أما الأبواب فلها استقلال اعترفوا به بالإجماع.
وبين الحين والآخر تصادفك كنيسة مثل (كيركلار كيليسي) ببرجها وجرسها وصليبها من الحديد الثلاثي الابعاد المفرغ. وهناك صلبان كاثوليكية وأخرى اورثودوكسية، وحتى بروتستانتية وجدتها بكنسية بناها الاميركان منذ ١٥٠ عاماً؛ أو جامع بمئذنته المدورة كجامع الشهيدية. وهو كأغلب الجوامع في ماردين من العهد الأورتوقي؛ أو ربما مدرسة كالمدرسة القاسمية بجدرانها الداخلية المزينة بالأرابسك الممزوج برموز فلكية.
المدينة تظل هادئة، حتى تصل إلى الأسواق وتصم أذنيك جلبَتها المعتادة. تتساءل عن اللون الأزرق الذي يلبسه معظم التجار والبائعون فتدرك أنها مصبوغة بالصبغ الجذري من شجرة لاهور المشهورة بالمنطقة. قبل أن تهرب من السوق، لأنك تفضل هدوء وسكينة الحارات، تجد ضالتك – المكتبة، فتدخلها وتفتح نقاشاً مع صاحبها الكردي عن الأدباء الكرد، وعن سبب تفضيله للرموز الشيوعية في زينة وديكور مكتبته، وتسأله عن صورة الأديب (عرب شمو)، ويحتد النقاش قليلاً لاختلاف مشربك السياسي عمّا تمّسك هو وشنو به، ثم ينتهي بمصافحة شديدة كما بين الأعداء الذين يحترمون بعضهم البعض.
تعود لأزقة المدينة ويصادفك أطفال يلعبون على درجات الشوارع المتتابعة. هم لطيفون، يضحكون، لايمانعون عن تعليمك لعبتهم الحجرية المفضلة. تخسر لعبتك معهم وتودعهم للذهاب. أصغرهم يرفع رأسه إليك ويمسك بيدك يظن أنه قد حان وقت الذهاب، وكأنك أحد أبويه. قد عاش عمره الصغير لايعرف سوى الحب والأمان فكل شخص بالغ هو محل ثقته الفطرية.
تتجه للأعلى متسلقاً الدرجات العالية التي تكاد لا تنتهي وتصادف “عين اليهود” وهي نبعة ماء بارد صاف تخرج من الصخر، فتغسل وجهك، وكالعادة تنسى خلع نظارتيك قبل ذلك، ثم تشرب من الماء العذب جاعلاً من كفيك قدراً صغيراً. ثم تجلس في احدى المقاهي ذات الكراسي من الخيزران والقش، وتتكلم مع صاحبها العجوز ذو الشروال الأزرق يخبرك عن شهمران الأسطورية، وهي نصف أفعى نصف أنثى، ملكة الأفاعي حسب التقاليد الفارسية. تسمع ضجة فتنظر للأسفل لتجد بعض العمال يرممون حمام أمين الدين ، صرح عمره ألف عام. ترفع بصرك على شرفة المقهى ويمتلئ بصر عيناك بامتداد يحتضن سهول سوريا الشمالية. وتحس برجفة الدفء عارم رغم درجة الحرارة المنخفضة، وليس فقط بسبب الشاي الثقيل الذي أحضره العجوز صاحب المقهى.
الآن عليك الصعود درجات طويلة خلال أزقة المدينة، والطلعة دوماً غير النزلة كما يقول المثل العام، وتستقل سيارتك لماردين الجديدة للقاء أصدقاءك، لأن السيارات لا يمكن لها دخول ماردين القديمة سوى من شارعين أحدهما علوي والآخر سفلي. تصل لماردين الجديدة والتي تقع على لفيف من الهضاب المحيطة من جهة الغرب الشمالي باتجاه ديار بكر.
لو عصب أحدهم عينيك قبل الذهاب ثم أزاح العصبة عند وصولك للمدينة الجديدة لما أدركت أين أنت. فعكس ماردين الحقيقية التي لا مثيل لها في العالم. المدينة الجديدة حديثة البناء بشوارعها الاسفلتية، أرصفتها الآجرية، وأبنيتها الأسمنتية. الابنية بنوافذ عريضة متناسقة بالمسطرة لها أطر من الالمنيوم وزجاج مموه غامق ولماع. فهي بذلك تشبه اي مدينه حديثة عالية الأبنية، ضيقة السماء، خالية من المعالم المعمارية عديمة الروح. لو قلت لك إنك في إحدى حارات شنغهاي الحديثة، أو الشارقة، أو الدار البيضاء، أو برلين أو بوينس آيرس لما استغربت ولم تشعر بأي اختلاف خاص. نفس المباني والمحلات والمقاهي والحانات بنظامها المتكرر العقيم الممل. يعتصرك شعور بالضيق حتى تلتقي بصديقين: مصطفى تاج الدين الموسى والدكتور مهنا بلال الرّشيد.
بعد عشاء سريع تلتم معهما في جلسة حول فناجين القهوة وبعض السجائر. وكما في الحلقات الصوفية، ضيقك من المكان يتراجع رويداً رويداً حتى يحتل الفضاء الفضول والمتعة الذهنية والمعرفة والوعي الجاد والأدب والفن على الطريقة السورية المميزة… والأهم من ذلك الصداقة والحب. يختفي ضيقك برمته، وتجد نفسك أمام كتّاب سوريين يضاهون كتّاباً كريموند كارفر أو جون شييفر أو ريتشارد فورد. كتّاب امتلكوا الموهبة الأدبية، صقلوها باسلوب مشوق وبديع، وصاغوها بلغة متينه ممتعة. ولهم أعمق اطلاع على أمور الفن والسينما والموسيقى والادب.
زوجتك تفهم العربية كفاية لتكون خطرة على النقاش أن يمتد لمجالات رجّالية بحتة، فتكتفي بما هو مقبول دبلوماسياً. وتسأل نفسك لم لاتوجد كتب هؤلاء الكتًاب في كل بيت عربي، وتتحسر لأنك تعرف الجواب المؤلم. وتتمنى لو أن جلستك معهم لا تنتهي، وأخيرً ينضم للجمع الصديق ميخائيل سعد، الكاتب الذي تشوقت للتعرف إليه شخصياً منذ قراءته أول مرة وهل هي فرصتها. كعادته يسحر الجميع بما يقول ويفعل، وترى في عيني زوجتك بريقاً خاصاً لم تعهده من قبل. تخشى قليلاً والغيرة تنسج شباكا في صدرك، ثم تدرك أنه حب البنت لأبيها واعتزازها به. تدركه لأنك تحس بنفس الشئ في روحك – أحساس فقدته منذ تولي والدك قبل سنوات طويلة.
ولأنه لديك مهمة سفر طويلة في الصباح الباكر وعليك أن تحظى ببعض النوم، تودع أصدقاءك على أمل لقاء قريب. هؤلاء أصدقاء سحرة، ليس هناك كثير من الناس يمكنهم أن يقلبوا ماردين الحديثة، قديمةً.