جريمة الوثائق التاريخية: تفريط موصوف وخطر يتجاوز السرقة
من معركة السلاح إلى معركة التاريخ: جريمة سياسية بحق السيادة السورية

عدي شيخ صالح – العربي القديم
التاريخ ليس سجلًا لما مضى، بل سلطة صامتة تحكم الحاضر وتؤطّر المستقبل. فهو ليس ذاكرة محايدة، بل مجال صراع مفتوح بين من يملك القدرة على التوثيق، ومن يُراد له أن يُمحى أو يُعاد تعريفه. لذلك، لا تُقاس الأمم بما تملكه من أرض فقط، بل بما تحتفظ به من ذاكرة حيّة، وبقدرتها على حماية روايتها عن نفسها في وجه النسيان والتزوير وإعادة الصياغة القسرية. وما لم يُدوَّن أو يُحفظ أو يُصان، يتحوّل مع الوقت إلى فراغ، والفراغ في السياسة لا يبقى محايدًا طويلًا؛ إذ سرعان ما يُملأ بسرديات بديلة تخدم موازين القوة لا حقائق التاريخ.
وفي السياسة الدولية، لا تُنتزع السيادة بالقوة وحدها، بل تُقوَّض أيضًا حين تُسلب الدول أدوات إثباتها. فالوثيقة الرسمية، والخرائط المعتمدة، والأرشيف الوطني، ليست تفاصيل إدارية أو ترفًا ثقافيًا، بل أسلحة قانونية تُستخدم في معارك الشرعية والحدود والحقوق أمام المحافل الدولية. وأي دولة تفقد أرشيفها، أو تسمح بتبديده، تضعف موقعها القانوني، حتى وإن احتفظت بأرضها مؤقتًا.
سوريا، بوصفها واحدة من أقدم فضاءات الاجتماع البشري، وكيانًا قانونيًا راسخًا في النظام الدولي، لم تُبنَ هويتها في لحظة، ولم تتشكّل سرديتها صدفة. هي نتاج تراكم طويل من الوقائع، والصراعات، والتسويات، والتحوّلات السياسية، ثُبّت وجودها عبر الوثيقة قبل أن يُرسَّخ بالقوة. فقد قامت شرعيتها على المعاهدات، والقرارات الأممية، والمراسلات الرسمية، والخرائط والسجلات، أي على أدلة مكتوبة على الوجود والحق والسيادة. ولهذا، فإن العبث بالوثيقة السورية لا يمكن توصيفه كفعل ثقافي هامشي، بل هو مساس مباشر بجوهر الدولة وبأساس شرعيتها التاريخية والقانونية.
وتحت هذا الفهم، لم يعد ما جرى مؤخرًا تفصيلًا يمكن تجاوزه، ولا حادثة عابرة يمكن احتواؤها بالتبرير.
ما جرى من سرقة مركز الوثائق التاريخية في سوريا يمثّل الترجمة الأخطر لهذا التفريط. فهذا المركز لم يكن مستودع أوراق، بل خزانًا للسيادة المكتوبة، وذاكرة الدولة المؤسسية التي تُبنى عليها الحقوق القانونية والتاريخية. كان يضم آلاف الوثائق النادرة التي تؤرّخ لتشكّل الكيان السوري، وحدوده، وإدارته، وملفاته السيادية، بما في ذلك خرائط، ومراسلات رسمية، وسجلات ملكية، ووثائق ذات طابع قانوني دولي لا تُقدّر بثمن.
خطورة الجريمة لا تكمن في فعل السرقة وحده، بل في طبيعة ما سُرق، وفي اللحظة السياسية التي جرت فيها. فاستهداف مركز الوثائق في مرحلة تشهد إعادة اصطفاف إقليمي ونقاشًا دوليًا متجدّدًا حول الشرعيات والحدود، لا يمكن فصله عن تداعياته المحتملة على الموقع القانوني السوري في أي مسار تفاوضي أو نزاع سيادي مستقبلي.
ولم تكن هذه الجريمة معزولة. فقد سبقها نهب المتحف الأثري، بما يحمله من شواهد مادية على عمق التاريخ السوري وتعدّده الحضاري. تكرار الاستهداف، واختلاف طبيعة المواقع بين أرشيف مكتوب وموروث مادي، يكشف نمطًا مقلقًا من الإهمال أو التفريط، إن لم يكن ما هو أخطر من ذلك. فالذاكرة السورية تُستهدف بأكثر من أداة، وبالنتيجة ذاتها: إفراغ التاريخ من أدوات إثباته.
مسؤولية لا تقتصر على الجناة
الحديث هنا لا يجوز أن يقتصر على الفاعلين المباشرين، بل يجب أن يمتد إلى المسؤولية المؤسسية. فكل جهة كانت مكلّفة بحماية هذه المواقع وفشلت في أداء واجبها تتحمّل جزءًا من الجريمة. في الدول التي تحترم نفسها، يُعد التقصير في حماية الأرشيف والمتاحف إخلالًا بالأمن الوطني، لا خطأً إداريًا يمكن تجاوزه أو تبريره.
إن غياب التحقيقات الشفافة، وتأخر إعلان حجم الضرر، أو الاكتفاء بالصمت، لا يقل خطورة عن السرقة ذاتها. فالصمت هنا لا يعني الحياد، بل يُحوّل الجريمة إلى سابقة، ويمنحها شرعية الأمر الواقع، ويفتح الباب أمام تكرارها.
السياق السياسي والسؤال المشروع
في هذا الإطار، يفرض نفسه سؤال لا يمكن تجاهله:
هل يمكن فصل هذه الجرائم عن السياق السياسي الدولي، ولا سيما في ظل عودة خطاب أمريكي يؤكد “سيادة إسرائيل على الجولان”؟
لا توجد حتى الآن أدلة قانونية معلنة تثبت علاقة سببية مباشرة، ومن الضروري التمسك بالمنهجية وعدم القفز إلى استنتاجات غير مثبتة. لكن في المقابل، فإن التزامن والسياق يفرضان طرح السؤال. فالوثائق التاريخية ليست مجرد ذاكرة وطنية، بل سندًا قانونيًا في النزاعات السيادية، وأي إضعاف لها يخدم، موضوعيًا، من يسعى إلى فرض روايات بديلة وإرباك أي مطالبة مستقبلية بالحق.
طرح هذا السؤال ليس نظرية مؤامرة، بل ممارسة لحق سيادي في المساءلة والتحليل. فالتاريخ الحديث يثبت أن العبث بالأرشيف غالبًا ما يسبق أو يرافق محاولات إعادة رسم الجغرافيا أو إعادة تعريف الشرعية.
خاتمة: جريمة لا تسقط بالتقادم
ما جرى ليس اعتداءً على الماضي فحسب، بل جريمة سياسية بحق المستقبل السوري. فلا يمكن الحديث عن دولة قانون، أو عدالة انتقالية، أو استعادة للسيادة، بينما تُنهب المتاحف، وتُسرق الوثائق، ويُترك المقصّرون بلا محاسبة.
إن حماية الأرشيف الوطني والمتاحف ليست شأنًا ثقافيًا ولا ترفًا أكاديميًا، بل واجب سيادي من الدرجة الأولى. والتفريط بها، بالصمت أو الإهمال أو التبرير، هو تفريط مباشر بحقوق الدولة السورية في الدفاع عن نفسها، وفي تثبيت روايتها، وفي مواجهة محاولات التزوير باسم الواقع السياسي.
الأرض قد تُحتل بالقوة، لكن التاريخ لا يُسرق إلا حين تُغلق ملفات التحقيق ويُفتح باب الصمت.
ومن يتهاون في حماية ذاكرته الجمعية، لا يملك الحق في الادّعاء بحماية السيادة.
……………………………………………………..
*كاتب وباحث سوري مستقل في الفكر السياسي والاجتماعي، يهتم بقضايا الهوية السورية، وتحولات الدولة، وإشكالات الانتقال السياسي بعد النزاعات.