الرأي العام

العدالة الانتقالية – 2 كيف يسهم تكوين ذاكرة جماعية لما جرى في صنع السلم الأهلي

ما هي الآليات والقرارات والرشى المنهجية التي جعلت مؤسسات الدين في خدمة الطاغية، تشرعن له ما أراد

عبد الرحمن ريا- العربي القديم

“من ينسى ماضيه سيُحكم عليه بتكراره”، هكذا تقول الحكمة. رغم صعوبة قياس الأثر الرادع للعقوبة، إلا أن عواقب الصفح أكثر وضوحاً؛ فحين أصدرت الحكومة الأمريكية عفواً عن متمردي الجنوب ضاربةً بعرض الحائط دعوات العبيد السابقين لإحقاق الحق بعد الحرب الأهلية[1]؛ منحت زعماء الولايات الجنوبية ضوءاً أخضر للتمادي في قمع السود، فقامت منظمة “كو كلوكس كلان” العنصرية المتطرفة التي آمنت بتفوق العرق البروتستانتي الأبيض، وقتلت على مدى أكثر من 150 عام الآلاف من السود والمتعاطفين معهم. ولا زالت أمريكا تناضل لتخطي آثارها وأفكارها حتى يومنا هذا.

ربما لأجل الكثير من التجارب المماثلة أصر المجتمع الدولي على محاكمات نورنبيرغ[2] بعد الحرب العالمية الثانية، لوقاية العالم من أي محاولة لحشد صفوف النازيين. فكانت تلك البذرة الأولى لما اصطلح على تسميته فيما بعد بـ “العدالة الانتقالية”.

لم يبق مثقف أو قارئ ومطلع، إلا نادى بضرورة تطبيق هذه العدالة بعد انتصار الثورة السورية كمقدمة للمصالحة الوطنية الجامعة، اختزل الثوار والمجتمع المحلي “العدالة الانتقالية” بنصب المشانق، وتصوير رموز الحكومة السابقة خلف أقفاص المحاكم. معتبرين التأخير مؤشراً على تقصير الحكومة، وربما تواطؤها في لفلفة بعض الملفات.

رغم أن مطالب الضحايا غير جائرة، واستعجالهم مبرر، إلا أن المصلحة الوطنية من المحاكمات (كجزء من العدالة الانتقالية) تتجاوز ما سبق، إن أهم مصلحة للأمة من المحاكمات والتحقيقات هي ما يسمى في آليات العدالة الانتقالية “المصارحة”[3]، أو “لجان الحقيقة”[4]. التي تسعى من خلال المسائلات النيابية وتشكيل لجان تقصّي الحقائق إلى فضح الآليات المؤسساتية التي أجازت استغلال السلطة بصورة وحشية. لقد وصل الأمر في جنوب افريقيا إلى تشكيل ما سُمّي “لجنة الحقيقة والمصالحة”[5]، التي قايضت العفو للمجرمين بمعرفة حقيقة ما جرى، الامر ليس مجرد فضح عملية تعذيب أو قتل، ولا هو كشف عن مواقع مجازر جماعية (رغم أهمية ما سبق). ولكنه يتعدى ذلك إلى معرفة حقيقة السياسات والاستراتيجيات والايديولوجيات التي أفسدت دولة برمّتها.

ألسنا بحاجة لتلك المعرفة؟ كيف تحولت وزارة الاعلام السورية “مثلاً” بجميع مؤسساتها ومديرياتها إلى بوق للعصابة، برّر وشرعن وحرّض على قتل الأبرياء، وزوّر الصورة وخدع المتلقي. كيف تحولت مؤسستا الدفاع والأمن إلى آلة إجرامية قتلت مئات الآلاف، وعذبتهم وشرّدتهم. كيف تم بناء عقيدة تنظر إلى الشعب كخائن، أو.. عميل للمخابرات. ما هي الآليات والقرارات والرشى المنهجية التي جعلت مؤسسات الدين في خدمة الطاغية، تشرعن له ما أراد. وماذا عن السياسات المالية، والتعامل مع المخدرات كمصدر دخل ومورد اقتصادي. وغير ذلك الكثير. نحن بحاجة إلى شهادات تفضح كل ذلك، من أجل مستقبل البلد، من أجل ضمان ألا يتكرر ذلك في المستقبل.

عملت لجنة “الحقيقة والمصالحة” في جنوب افريقيا لمدة سنتين، بصلاحيات استثنائية، كالاستدعاء والتحقيق ودراسة أرشيف جميع الوزارات والهيئات دون أي تحفظات. وصولاً إلى تقديم توصيات لمنع تكرار ما حدث ومنح العفو، أو اقتراحه[6]. ولكن قد تكون أهم الآليات التي اتبعتها اللجنة (بالتعاون مع الاعلام الرسمي) جلسات الاستماع والشهادات المكتوبة (التي أتيحت للعموم)، والتي شكلت قطيعة مع ثقافة السرية التي تعتبر إحدى أدوات الأنظمة القمعية.

تبرز الحاجة الملحة في هذا السياق للإعلام الرسمي المدروس؛ يقوم الامن العام بين حين وآخر باعتقال أحد مجرمي النظام السابق، فيستعجل “اليوتيوبرز” بإجراء لقاءات شعبوية، تذكـّرنا بلقاءات برنامج الشرطة في خدمة الشعب أيام العصابة السابقة، والعبارة الشهيرة “ندمان يا سيدي”. معتقلين تعرضوا لأصناف مختلفة من الصفع واللطم واللبط، ويوتيوبر يقوم بدور محقق في فرع فلسطين، لينال رضا الحاضنة الشعبية، وتزداد اللايكات، على حساب الأثر البعيد الذي قد يحول المعتقل إلى ضحية لدى البعض. خصوصاً أن كل ما يقوله يصبح بلا قيمة وقد بدت عليه آثار التعذيب الشديد. بالطبع لا يمكننا لوم “اليوتيوبر” فهو مخلص لمهنته ومقاصده، وقد تكون دوافعه وطنية وغّيورة على ناسه وشعبه الذين تأذوا من ممارسات المجرم المعتقل. كما لا يمكننا لوم القنوات التلفزيونية الخاصة التي التقت ببعض المعتقلين أو رموز العصابة الساقطة، فالصفقة مع هؤلاء للظهور على وسائل إعلامية خاصة، دون أن يكون هناك ما يدفعهم للبوح بالحقيقة، هي سرد بعض الفقاعات الإعلامية الفارغة التي تخص رأس العصابة السابقة أو من حوله، مقابل الحق في نسج مواقف شخصية وشهادات غرضها التبرؤ، أو محاولة الالتحاق بركب الثورة والوطنية والشجاعة (كتكرار أحدهم في أحد المقابلات “أنا معروف بشجاعتي” والحقيقة أنه معروف بكثير من الأمور إلا ما زعمه).

إن الغرض الحقيقي من جلسات الاستماع والمقابلات مع رموز ومجرمي النظام السابق، بالإضافة إلى وصمهم كمجرمين؛ تكوين ذاكرة جماعية موحدة لما جرى خلال حقبة الأسد، ما يمكن أن يساهم في توثيق الرباط الاجتماعي وصنع السلم الأهلي. ويحتاج بالطبع إلى عمل حقوقي وصحفي واعلامي مهني ومدروس بعناية بالغة.

أصدرت لجنة “الحقيقة والمصالحة” بجنوب افريقيا في ختام أعمالها تقريراً ضخماً وثق انتهاكات حقوق الانسان والمؤسسات المسؤولة عنه، والدور الذي قامت به قطاعات المجتمع مثل عالم الاعمال والمهن القانونية والاعلام في تلك الانتهاكات. فكانت العدالة هناك قائمة على المستقبل لا على الماضي.

ليس الغرض من المقال دعوة لاستنساخ لجنة الحقيقة والعدالة فتجربة جنوب افريقيا لها ما لها وعليها ما عليها بالتأكيد، كما أنه من الاجحاف حصر العدالة الانتقالية بالمحاكمات، فهي تتعدى ذلك إلى التطهير وإعادة التأهيل والتعويضات، وسيكون هناك تفصيل لاحق لهم.

ولكن بمعزل عن الآليات التي تختلف باختلاف الظروف والأمم، فإن من أهم غايات العدالة الانتقالية، ضمان منع تكرار ما حدث. وتوثيقه ليصبح درساً للتاريخ. فأين وصلت جهود حكومتنا من ذلك؟

تكوين ذاكرة جماعية موحدة لما جرى تسهم في صنع السلم الأهلي


[1]  الحرب الاهلية الامريكية 1861-1865: الأكثر دموية في تاريخ الولايات المتحدة. قامت إثر إصرار الحزب الجمهوري على منع انتشار الرق، ما دعا القادة الجنوبيين إلى اعلان الانشقاق إثر فوز مرشح الحزب الجمهوري ابراهام لينكولن بالانتخابات.

[2]  سلسلة محاكمات جرت بعد الحرب العالمية الثانية، لمسؤولين كبار في ألمانيا النازية كانوا ضالعين في التخطيط أو التنفيذ أو المشاركة في الهولوكوست وغيرها من جرائم الحرب.

[3] معضلات العدالة الانتقالية في التحول من دول شمولية إلى دول ديمقراطية – نويل كالهون

[4]  العدالة الانتقالية، دراسة في المفهوم والآليات – هند مالك حسن

[5]  بدأت أشغالها عام 1996 بمشاركة 17 عضواً، وترأسها القس ديسموند توتو

[6] المصالحة والحقيقة في جنوب أفريقيا: بحث في منجزات العدالة الانتقالية ومآزقها – أحمد ادعلي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى