أرشيف المجلة الشهرية

المذكرات وكتابة التاريخ

بقلم: زهير الشلق*

كتابة المذكرات ما كانت معروفة عند المسؤولين العرب، أو عند الذين كانوا مسؤولين, وحتى أنها ما كانت معروفة عند زعماء العالم في أوروبا.

في فرنسا وفي بريطانيا وغيرها من الدول المتقدمة، كان الشاب الذي ينتمي لوزارة الخارجية في السلك الدبلوماسي يجد نفسي أمام نصيحة بقراءة مذكرات البرنس دو بولو. وكاتب هذه المذكرات كان مستشار ألمانيا حتى عام 1913. وقد حكم ألمانيا ردحاً طويلا من الزمان منذ وفاة بسمارك. ويعتبر المؤرخون أن مذكرات هذا المستشار هي الرائدة في تاريخ كتابة المذكرات، وهي غنية بالأحداث التي انتهى بها القرن التاسع عشر، وابتدأ بها القرن العشرون (نشرت بالفرنسية عام 1930).

وكان لابد من انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى رأى العالم سيل المذكرات التي نشرها أولئك الذين ساهموا في صنع هذه الحرب… ونشير إلى مذكرات المستر تشرشل والفيلد مارشال مونتغومري والجنرال ديغول، في جملة المذكرات التي ترجمت إلى العربية… ولكنها ترجمت دون الوثائق التي ألحقت بالمذكرات.

أما الذكريات التي تنشر على طريقة السرد دون نشر الوثائق المتعلقة بالأحداث، أو ما كان يسمّى بالسيرة الذاتية لبعض الزعماء أو المشاهير في السياسة والأدب والفن، فأمرها قديم.

المذكرات أو اليوميات التي يكتبها صانعو الأحداث السياسية والحربية، تتعلق بتاريخ البلد الذي يكتب عنه الزعيم أو القائد، وأما الذكريات والسيرة الذاتية فهي شهادة عن العصر من التقاليد أو أحوال المجتمع، أو عن الأدب والفن، أو طرق الفشل والنجاح.

جميع هذه الكتابات من مذكرات ويوميات وذكريات، بما في ذلك السير الشخصية، يعتبرها المؤرخون من المراجع التي يسندون إليها عند كتابة التاريخ لفترة ما من سيرة البلد، أو عند كتابة تاريخ الأشخاص، ومن هنا فإن هذه الكتابات تعتبر شهادة من الكاتب على ما صدر منه من تصرف بالقول أو الفعل، أو عما رآه من حوله أو عن أحوال العصر في المجالات المختلفة. ومن حيث أنها تعتبر في حقيقتها شهادة، لذلك يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار بأن الشهادة شرعاً وقانوناً تتضمن معنى القسم. وبالعبارة الصريحة يفترض بمن يكتب مذكرات  أو يوميات أو سيرة ذاتية، أن يشهد الله على أن ما يقوله هو الحقيقة كما يراها ويتصورها.

ومن هنا أيضاً، فإن مثل هذه الكتابات، سواء نشرت في الصحف أو اشتمل عليها كتاب، تأخذ نصيبها من التجريح أو التزكية، بحسب شهادة المجتمع بتقوى الكاتب… وهذا أولا. ومن وجه آخر، فإن طريقة فهم الأحداث تختلف عند الناس. مثال ذلك: السيارة التي ترتكب حادثاً، ويؤتى براكبيها إلى المحكمة ليدلي كل واحد بشهادته…. في غالب الأحيان يدلي كل واحد بشهادته بطريقة مختلفة، وكل واحد منهم صادق فيما يقول… ذلك أن كل واحد قد رأى الحادثة من زاوية مختلفة. واحد كان نظره على المدهوس وحركته في الطريق، والآخر كان نظره مركزا على السائق، وآخر كان ينظر إلى الواجهات في المحال التجارية على جانبي الطريق. ذكر هذه الحادثة الفيلسوف الساخر جورج برناردشو وعلق عليها بقوله: “إذا كنا نرى هذه الحادثة كل يوم… فعلينا أن نفهم كيف كتب التاريخ”.  

وهناك أمر مهم… الذاكرة. هناك الذاكرة القوية والذاكرة العادية، وهناك الذاكرة الصورية والذاكرة السمعية. وحتى عندما يعتمد كاتب المذكرات على الوثائق، فلا بد من الاستعانة بالذاكرة. والوثائق هي محاضر الاجتماعات أو الرسائل الصادرة أو الواردة، وطبعا مما كان في وقته سرياً لا تشتمل عليه النشرات الرسمية التي تصدر عن الدولة. والذاكرة معرضة للضعف سواء من حيث الأسماء أو الأمكنة، وقد تكون قوية بالأمكنة وضعيفة في استيعاب الحوار، تبعا لكون الذاكرة صورية أو سمعية.

وكل ذلك مشروط بأن يكون عمر الأحداث السياسية التي يكتب عنها صاحب المذكرات هو أكثر من ثلاثين عاماُ، وهذه هي المدة المتعارف عليها للمحافظة على سرية الوثائق العادية. وبعدها تودع الوثائق في مكان معين رهن اطلاع الناس عليها، مع إعطائهم الحق بنشر أو تصوير ما يريدون منها. وحتى في حالة إذا ما كان القائد أوالرئيس أو الوزير هو نفسه كاتب المذكرات، فإنه لا يستطيع أن  يقيم فهمه للحدث الذي يكتب عنه، والمتعلق بدولة أخرى، قبل أن يطلع على وثائق الدولة الأخرى المتعلقة بذلك الحدث.

-2-

في الاستراحة الماضية بدأت الكتابة عن المذكرات… وكان القصد من الكتابة هو البحث في قيمة المذكرات والكتابات الأخرى التي تدخل في هذا الباب، كاليوميات والذكريات والسير الذاتية أو ما هو بحكم المذكرات. كل ذلك من حيث أنها سند لكتابة التاريخ.

وقد بينت أهمية وجوب الانتظار من أجل كتابتها مدة لا تقل عن ثلاثين عاماً تلي تاريخ الفترة التي يكتب عنها، إذا كان القصد هو أن تكتسب المذكرات رتبة التصديق، وذلك لمقارنة ما جاء فيها بالوثائق المتعلقة بها، والتي تكون قد رفعت عنها صفة السرية.

طبعا يبقى القصد هو المذكرات السياسية، وأما المذكرات التي لا تراعي هذا الواقع، فلا يمكن الركون إليها كسند صحيح لكتابة التاريخ. إن الكتاب الذي تنشره “الشرق الأوسط” للمستر مايلز كوبلند “لاعب اللعبة” هو الذي جعلني أحمل الاستراحة هذا الموضوع.

 هنا أحب أن أسجّل بأن كثيرا من الكتابات تأخذ حكم المذكرات حتى لو صدرت عن غير صاحب المذكرات، كأن تصدر عن المقربين من الواقفين على قمة المسؤولية، أو من قبل المشاركين في المسؤولية، وتأخذ هذه الكتابات – عادة – درجة عالية من قوة التصديق. إن أكثر الذين كتبوا عن تاريخ الفترة التي يتكلم عنها مؤلف كتاب “لاعب اللعبة” والتي هي في الواقع مذكرات شخصية تستند إلى وثائق هيئة أمريكية متخصصة… وإننا ما نزال نقرأ حتى الآن.  

ومثل ذلك أحد المقربين من صاحب سلطان، كان يصارح الشعب العربي في مقالات أسبوعية، تتضمن معلومات وآراء وقراءات في الأفق العربي البعيد… وكانت تمر أيام أو أسابيع، فإذا بالقارئ يرى بأن هذه المصارحات كانت في الواقع، كتابة لتاريخ الأيام القادمة… ومن هنا فإن ما يقوله هذا الكاتب يكتسب قوة تصديقية لا حدود لها.

ومتل ذلك المذكرات التي ينشرها المشاركون في السلطة والمسؤولية، وغالبا ما يكونون من الوزراء الذين اصطلح على وصفهم بالفنيين… وهناك السفراء المعتمدون، والذين يفترض فيهم أن يكونوا مطلعين على الأسرار. هذه الكتابات اعتبرها الناس شهادت صحيحة موثوق بها… لأن الذين كتبوها كانوا قد أثبتوا صدقهم في استشفاف تاريخ المستقبل، أو لأنهم كانوا مسوؤلين وأصحاب سلطة، ثم جاء الدارسون المختصون بكتابة التاريخ وكتبوا ونشروا، وأخذت دراساتهم بدورها مكانا في المكتبات العربية.

وهناك أطروحات أعدها دارسون جديون تحت إشراف أساتذة مشاهير، ودافعوا عن صدق محتواها أمام أساتذة محكمين، وحصل الواحد منهم لقب دكتور في العلوم السياسية أو التاريخية وما إلى ذلك، وأخذت الأطروحة وقد تكون تحمل درجة الامتياز، مكانا محترماً في مكتبات الجامعات وأصبحت بدورها مرجعاً محترماً.  

 والمستر مايلز كوبلاند، لاعب اللعبة، يقول كلاماً جديداً عن فترة مر عليها أكثر من ثلاثين عاماً… وواضح بأنها فوق علم السفراء المعتمدين من الدولة التي يعمل لحسابها أو حساب إحدى دوائرها، وواضح بأنه يستند إلى وثائق، ويقول بأنه لديه الصور الفوتوغرافية للاجتماعات، ويتحدى من يكذب، ويتحدى بعض الناس بالاسم.

هذا الكلام الجديد، يثير كثيرا من الشك حول التاريخ المكتوب، والذي يعتبره الشعب العربي ولا سيما في أجياله الشابة، حقيقة لا تخضع للمناقشة. يضاف إلى ذلك أن المسؤولين كانوا مشاركين في مسؤولية القرار خلال الفترة التي يكتب عنها المستر كوبلاند، كانوا قد عادوا للاعتراف بأن القرارات التي شاركوا في اتخاذها كانت حكيمة، كل ذلك كان تحت عنوان “ممارسة النقد الذاتي”. هؤلاء قرروا أن تعاد كتابة التاريخ لتلك الفترة ذاتها، من قبل أن يأتي كوبلند بالجديد… وقد تم تأليف لجنة للاشراف على إعادة كتابة التاريخ، ولاشك أن هذا العمل هو عمل وطني جدي، ينفع الأجيال القادمة ويقيها الكثير من المزالق.

في أخطاء النضال العربي خلال الحرب العاملية الأولى، وقع بعض المناضلين بخطأ بسبب الجو الذي كانوا يعيشون فيه… قالوا بأن نطالب بالتحرر من نير التحكم العثماني أو الاستعمار العثماني، وأننا نريد أن تصبح البلاد العربية مستقلة. أخذ الخلفاء هذا الشعار على علاته… قالوا نفرض عليكم الانتداب كمرحلة في طريق الوصول إلى الاستقلال، ولو كان المناضلون قد رفعوا الشعور الحقيقي وهو أننا ولايات عربية داخل الإمبراطورية العثمانية المستقلة، وأننا نريد أن نعلن الانفصال عن الإمبراطورية، لأن الحزب الحاكم قد تبنى نظرية عنصرية تقول بتفوق العنصر التركي… فهل كان الحلفاء اعتبروا العربية المنسلخة عن الإمبراطورية كبلاد خاضعة للاستعمار، وأن الانتداب هو وضع متقدم؟ هذا مع العلم بأن الذين ساهموا في مؤتمر باريس عام 1913 ما وقعوا بهذا الخطأ… قالوا في مؤتمرهم: نحن ولايات عربية داخل الإمبراطورية… إن الذين نقلوا عن أخبار المؤتمر قد استعجلوا!

نشرت لأول مرة في (الشرق الأوسط)، يومي: 28/08 و09/04/ 1989

  • زهير الشلق (1918 – 1994) كاتب ومؤرخ ومحام سوري من مواليد دمشق. درس الحقوق في الجامعة السورية في ثلاثينات القرن العشرين وبدأ بممارسة مهنة المحاماة في الأربعينات، ومن أشهر القضايا التي ترافع عنها في بداياته قضية رفعها حسني الزعيم لتصحيح عمره عام 1947.  بعد انقلاب الثامن من آذار عام 1963 غادر زهير الشلق دمشق وأقام في بيروت معارضاً للنظام البعثي وكتب سلسلة مقالات هاجم فيها البعث وعبد الناصر في صحيفة (الجزيرة) السعودية.    أصدر أول كتبه عام 1966 (في قفص الاتهام: الشيوعية، الناصرية، البعث)، وفي عام 1969 كتب في صحيفة (الحياة) مقالاً حمل فيه على  الحكم البعثي ودوره في هزيمة حزيران، وسخر من وزير الدفاع حافظ الأسد بالقول: “أسد عليّ وفي الحروب دجاجة” فاختطفته المخابرات السورية من لبنان، وأودع في سجن المزة بعد أن حكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن لمدة خمس سنوات، قضاها عشراً وخرج عام 1978 وأعطي مهلة ثلاث ساعات للخروج من سوريا فتوجه إلى فرنسا وأقام فيها حتى وفاته، وواظب لسنوات على كتابة زاوية أسبوعية في صحيفة (الشرق الأوسط) كل يوم إثنين.  أعادت (العربي القديم) في عددها التاسع، نشر مقاله (سوريا في الركب الشيوعي) كما نشرت في العدد ذاته تقريراً حول اختفائه في بيروت بعنوان: “أنباء متضاربة عن مصير الكاتب زهير الشلق).   للكاتب مؤلفات عديدة في التاريخ السوري أهمها:  (من أوراق الانتداب) بيروت عام 1985 (العربي القديم).

___________________________________

من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024

زر الذهاب إلى الأعلى