فنون وآداب

رحلت نجاح سلام... و "سوريا يا حبيبتي" وبقيت "رقة حسنك وسمارك"!

برحيل المطربة اللبنانية نجاح سلام تفقد الأغنية العربية واحدة من قممها الكبار، فقد شكّلت هذه المطربة اللبنانية التي غنّت لسورية، ولبنان ومصر، وتألّق صوتها بألحان ملحني كلّ هذه البلدان، متنقلاً بين البداوة والحضر، وبين العاطفي والوطني والخفيف، وبين الهتاف القومي الذي بلغ أوجه في (سوريا يا حبيبتي)، مع زوجها الممثل والمطرب، والمخرج الراحل محمد سلمان، إثر حرب تشرين 73، وبين الشجن والأسى العميق الذي غنّت فيه للقدس وفلسطين، منذ غنّت أبيات الشاعر اللبناني بولس سلامة (فلسطين وأخواتها) أواخر العام 1947، بعد أن قام المطرب، والملحن السوري نجيب السرّاج بتلحينها: ( يا زائراً مهدَ عيسى غير مضطرب/ لا تأمن الدّربَ صار الدرب أتّونا)، وحتى تسعينيات  القرن العشرين، حين غنّت  (يا قدسنا) التي لحّنها الملحن الفلسطيني مهدي سردانة.  لقد كانت نجاح سلام في كلّ هذا صوتاً صادحاً ممتلئاً بالإحساس، متوهجاً بالمعنى، قادراً على التلون والتأثير، حتى وهي تتجه لارتداء الحجاب في العقدين الأخيرين من حياتها، وتقارب الغناء الديني، وتصدر ألبوماتها الملأى بالابتهالات، والتواشيح والمناجاة.

لعائلة جمعت الأدب، والدين والفنّ، ولدت نجاح سلام في بيروت عام 1931، وكانت أكبر أخواتها، كان والدها محيي الدين سلام شاعراً وعازفاً، وكان جدها عبد الرحمن مفتياً، ورجل دين وعازفاً بارعاً على العود في الوقت نفسه، وقد قالت عن تأثير هذا النسب في إحدى حواراتها ذات مرة:

“أحمد الله أنني نشأت في كنف عائلة فيها الدين والفن في الوقت نفسه، وفي ظل قيم أخلاقية واجتماعية، تعلمت منها التذوق الجيد للأدب والكلمة، ولأن البيت استقبل كبار العلماء والأدباء الذين كانوا يقصدون جدي الشيخ عبد الرحمن، وكنت الطفلة المدللة، وكان جدي يستقبل كبار الشخصيات، وأنا جالسة في حضنه”.

لقاؤها بعبد الوهاب

بدأت رحلتها مع الغناء، من خلال الحفلات المدرسية، وذلك قبل أن تصحب والدها إلى القاهرة عام 1948، حيث تعرّفت على العديد من كبار الفنانين في مصر، مثل أم كلثوم، وفريد الأطرش، والملحن الشهير زكريا أحمد.

لكن قبل ذهابها إلى القاهرة، تروي نجاح سلام قصة لقائها مع الفنان محمد عبد الوهاب، حين جاء إلى بيروت فتقول:

“في العام 1947 عرفت أن عبد الوهاب آتٍ إلى بيروت. لم أنم تلك الليلة. توسلت إلى والدتي للذهاب إلى الإذاعة، لرؤية عبد الوهاب فقط. قلت لها: لن أتكلم، سأغني، أعرف أن والدي سينهرني، لكن أعرف أن عبد الوهاب سيقول لي صوتك حلو. المهم أن والدي رفض اصطحابي، لرؤية عبد الوهاب، لكن والدتي أقنعته بعد جهد، ووقفنا في الزحام، وكنت آخر وأصغر واحدة بين الجماهير، أقف أحياناً على رؤوس أصابعي، كي أتمكن من رؤيته، وعبد الوهاب كان لمّاحاً وذكياً سأل والدي: “البنت الصُّغننة هناك مين دي؟” التفت والدي، ولم يجد أحداً. سأله: مين؟ قال: هناك بنت ورا. نظر والدي، وقال له: بنتي نجاح. سأله: صوتها كويس؟ قال والدي: لا عادي مثل الناس. عندها عرفت بأن الفرصة سنحت، فأزحت الناس من أمامي بسرعة، واخترقتهم وصولاً إلى عبد الوهاب. سألني: ما اسمك يا شاطرة؟ قلت: اسمي نجاح. “باللهجة المصرية”، إذ كنت أذهب مع عمتي إلى السينما، وشاهدت أفلام أم كلثوم، مثل “دنانير”، “وداد”، وغيرها. قال: بتحبي تغني؟ قلت: آه. وأنا حافظالك كثير. غنيت له “إيه جرى يا قلبي إيه”، وكنت أنظر إلى والدي فأجده غاضباً، إذ كان لديه عادة، رحمه الله، حين يغضب يعضّ شفتيه. عبد الوهاب بعد سماعي قال: “اسمع يا محيي الدين، بكرا تجيب نجاح وتطلع على (بالاس هوتيل) في بحمدون، عاوز أسمعها على رواق”. بعد عودتنا إلى البيت كانت معركة حامية الوطيس جعلت والدتي تهرب إلى غرفتها، وبقي الجدال طوال الليل. المشكلة أن والدي كان يعرف صوتي وإمكاناتي، لذلك كان يخاف أن يظهر الأمر، قبل أن أكمل تعليمي، كان يحاول إقناعي بأن الفنان من دون علم يهان.

في اليوم التالي جاء مصباح سلام، وذهبنا على الموعد، فوجدنا عند عبد الوهاب طوابير طويلة من الناس. بعد فترة جلسنا معه وسألني: عندك كم سنة؟ قلت: 12 ونصف. لكن والدي أجاب: لا 12 بس. سأل: خلّصتِ تعليمك؟ قلت: لا، بعد. قال: تحبي تغني إيه؟ في ذلك الوقت كان يعرض له فيلم “لست ملاكا”، فغنيت من أغنياته: “عمري ما ح انسى يوم الاتنين”، ثم “إنت وعذولي وزماني”، “خايف أقول اللي في قلبي”، “حسدوني وباين في عينيهم”، وكان بين الأغنية والأخرى يصدر حركة معينة من فمه، ويقول: الله الله. استغربت وسألته معتقدة أن صوتي لم يعجبه. لكنه قال: ياعبيطه ده لما الواحد ياكل أكلة جميلة يعمل كده، ويقول يا سلام. وسهرنا معاً، وفي النهاية قال لوالدي: شوف يا محيي الدين، كل مائة سنة لما يطلع فنان له شخصية بصوته. يعني تفتح الراديو تقول ده عبد الوهاب، أو تقول ده فريد، دي نجاح. إنت بتكون مجرم إذا حجرت على البنت، ثم إن البنت مش متعلمة فنياً، لكنها تغني بالفطرة، لها رأي فيما تقوله، غنت أغنياتي وأضافت، من دون أن تعرف ما تفعل، لكن إضافتها جميلة جداً”.

رقة حسنك وسمارك

حملت نجاح سلام النغم الشامي الأصيل في بداية انطلاقتها، ولذلك لا عجب أن تتألق في بداياتها من خلال ثلاثة ألحان سورية قوية:

  • الأول: (حوّل يا غنام)، وهي من التراث الشعبي البدوي، وقد غنتها على مسرح الشهبندر في حلب، في بداياتها الأولى في أربعينيات القرن العشرين.
  • الثانية: (رمانا بحبو يا قلبي اللي مالو قلب) التي كانت أولى ألحان الملحن السوري الناشئ آنذاك سهيل عرفة.
  • الثالثة: (رقة حسنك وسمارك) وهي من ألحان أمير البزق الملحن السوري محمد عبد الكريم، وقد سُجلت في استدويوهات إذاعة دمشق عام 1948 وحققت شعبية، وانتشاراً كبيراً نقلت نجاح سلام إلى مصاف المطربين الكبار، واُعتبرت حتى بعد عقود أجمل ما غنّت في مسيرتها الغنائية.

وفقد سجلت نجاح سلام عام 1949 أغنيتها  “حوّل يا غنام”، و “يا جارحة قلبي” لصالح أسطوانات بيضا فون الشهيرة آنذاك، ما ساهم في انتشارها قبل أن تغني، من ألحان ملحني مصر الكبار أمثال رياض السنباطي الذي لحّن لها:  “النيل مقبرة للغزاة” عام 1956، بعد العدوان الثلاثي على مصر، ثم “عايز جواباتك”، و “أمة الحق”، “يا ظالمني”، و “الشهيد”، ومحمد الموجي الذي لحّن لها أغنيتها الشهيرة “يا أغلى اسم في الوجود”، ثم “ليه كل قلبي ما يصفى لك”، و “ما أحلى الغنا”، “يا أرض يا أم الخير يا طيبة”، وسيد مكاوي غنيت “الله يا ليل”، و “يا مفرحة قلبي” للأم  “آخر حلاوة”، كما غنت لبليغ حمدي خمسة ألحان أبرزها: “حاسب ما تلومنيش”، و “على إيه حاسدني”، و “لما بتنام المدينة”، ولعبد العظيم محمد “بالسلامة يا حبيبي”، و “يا عايدة يا ختي يا فلسطينية”، وغنّت من ألحان أحمد المحلاوي، وفؤاد حلمي، وغيرهما من ملحني مصر.

وفي بداية عام 1950 عادت إلى لبنان، لتسجيل بعض الأغاني، لصالح الإذاعة اللبنانية. وعُرفت الفنانة الراحلة بأداء الأغاني الوطنية والأدعية الدينية.

في سنة 1974، جرى تكريمها في القاهرة، بمنحها الجنسية المصرية، ما مكّنها من الإقامة في مصر، خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية التي تتذكرها بالقول:

” في عام 1974 كانت بداية الأحداث، سُرق بيتي في منطقة سن الفيل، وكنت في القاهرة أقوم بتصوير فيلم “عنتر يغزو الصحراء” مع فريد شوقي، اضطررت للبقاء في القاهرة، وفي ذلك الوقت مُنحت الجنسية المصرية، وبقيت هناك حتى عام 1986، حيث جئت إلى بيروت لإجراء لقاء في الإذاعة اللبنانية مع محمد حجازي، وإذ بأحداث عاصفة مفاجئة تحاصرني في الإذاعة التي بقيت فيها 45 ساعة متواصلة، عدت بعدها إلى القاهرة، وبقيت حتى انتهاء الحرب”.

وعندما تسلّم الرئيس اللبناني إلياس الهراوي، رئاسة الجمهورية اللبنانية، قام بزيارة القاهرة، وكانت نجاح سلام أول المستقبلين له في مبنى السفارة اللبنانية في القاهرة، فبادرها بالقول إنها ثروة وطنية، وحثّها على العودة إلى لبنان، فعادت إلى لبنان، وقدمت “لبنان درة الشرق” كلمات الشاعر صالح الدسوقي، وألحان زوج ابنتها الكبرى سمر الفنان أمجد العطافي، وقد كرّمها الرئيس الهراوي، بمنحها وسام الاستحقاق من مرتبة فارس.

بين التطريبي والشعبي

يمكن اختزال نجاحات المطربة نجاح سلام، في مجال الأغنية الشعبية في بلاد الشام، بنفس القدر الذي نجحت فيه بتقديم الأغنية التطريبية  السنباطية ذات النمط الكلثومي وتفوقت فيها، ولعل في هذا الجمع وجهاً من وجوه ثراء إحساس، وأداء صوت هذه المطربة الواسع، والقادر الذي لامس الأذن العربية بصفاء واتزان، مثلما داعبها بحيوية وفرح، سواء من خلال الأغاني التي قدمها لها ملحنون لبنانـيون في مقدمتهم أستاذ الأغنية الشعبية فيلمون وهبي في أغنيتيه: (شب الأسمر)، و (برهوم حاكيني)، وسامي الصيداوي في (ميّل يا غزيل)، من دون أن ننسى الألحان الشعبية التي قدّمها لها ملحنون سوريون، أمثال عبد الغني الشيخ، وعدنان قريش، وسهيل عرفة، وعلى الأخص في “ولله لانصب تلفون”، و “روق يا عم”، و “الله الله يا سعدو”، من دون أن ننسى أيضاً غناءها الشعبي الرائع، من التراث السعودي (يا ريف وادي ثقيف) ألحان طارق عبد الحكيم، والتي تفوّقت فيها على المطربين السعوديين الذين غنّوها.

بغياب نجاح سلام، يغيب عصر من الغناء، وتتوارى أناشيد المدّ القومي التي صدحت بها هذه الحنجرة القوية، فألهبت الحماس لـ “سوريا حبيبتي” التي ستعيد لي هويتي، وتعيد لي كرامتي. تلاشت الهوية، وسُلبت الكرامة، ومزّقت “سوريا يا حبيبتي” البراميل المتفجرة، وبقيت “رقة حسنك وسمارك” الذكرى الأصدق، والأجمل والأعذب، من صوت نجاح سلام وفنّها.

زر الذهاب إلى الأعلى