نظريَّة الجُزر المُتباعدة: كيف ظهر الإنسان الأنانيُّ؟
مهنَّا بلال الرَّشيد
اكتشف إنسان الهومو إيريكتوس النَّار في الطَّبيعة عن طريق الصَّدفة قبل حوالي 300000 سنة من وقتنا الرَّاهن على وجه التَّقريب، وراح يُحاكي الطَّبيعة، ويقلِّدها في إشعال النَّار عن طريق احتكاك الحجارة وأغصان الشَّجر، وتحكَّم بالنَّار، ووظَّفها في الطَّبخ والتَّدفئة والسِّهام المشتعلة، فتغيَّرت خصائص جسده عندما تحوَّل إلى تناول الطَّعام المطبوخ، وزاد التَّصحُّر في الأرض بعد احتراق كثير من الغابات والأراضي المزروعة، حين اعتمدت القبائل البدائيَّة المتصارعة على سياسة الأرض المحروقة خلال الحروب الطَّويلة للسَّيطرة على مصادر المياه والعشب بجوار الأنهار؛ ولم يكن أمام البشر إلَّا الصِّراع أو الهجرة أو اكتشاف طرُق جديدة لتأمين طعامهم وشرابهم.
حروبٌ طويلة وهجراتٌ متلاحقة واختراعات بدائيَّة:
تحاربت القبائل، ومات كثير من البشر، واخترع آخرون السِّهام والنِّبال والقسيَّ؛ فاصطادوا بعض الحيوانات، وأسهموا مع تصحُّر الطَّبيعة في انقراض بعضها؛ كانقراض الماموث وكثير من أنواع الطُّيور، ولم يعد أمام البشر في جُرهم الأولى (شمال شرق أفريقيا) و(الجزيرة العربيَّة) أن يهاجروا إلى أماكن أكثر خصوبة من مواطنهم الأصليَّة، وكانت خصائص الإنسان الأصليِّ في شبه الجزيرة العربيَّة تختلف عن خصائص الإنسان الأصليِّ في شمال شرق أفريقيا بسبب اختلاف المناخ والطَّبيعة أو اختلاف لون الطِّين أو طبيعته الأولى الَّتي خلقها الله منها، وعندما وصل المهاجرون الباحثون عن الماء والعشب إلى أماكن جديدة التقوا بسكَّانٍ أصليِّين في الجُزرة الجديدة، وهم كذلك مخلوقون من طينة تلك الجزر المختلفة عن طينة المهاجرين، ولم يكن أمام المهاجرين والسُّكَّان الأصليِّين إلَّا أن يقتتلوا أو يتعارفوا ويتعاونوا، وعندما اقتتلوا أفنى بعضهم الأوَّل بعضهم الآخر؛ وعندما وصلوا إلى مرحلة (عُنق الزُّجاجة)؛ أي حين صارت البشريَّة مهدَّدة بالانقراض، وصار عدد السُّكَّان قليلاً جدًاً على سطح الكرة الأرضيَّة خضع الجميع للسَّلام؛ فتصالحوا، وتعارفوا، وتزاوج أفراد من قبائل متباعدة وطين وألوان مختلفة؛ وهنا حدثت أكبر حتميَّة تاريخيَّة على وجه المعمورة.
تعارُفُ البشر… كبرى الحتميَّات التَّاريخيَّة الَّتي غيَّرت وجه العالم:
بعد الصُّلحِ بين المتصارِعين وإحلال السَّلام والتَّعايش السِّلميِّ تزاوج بشر مخلوقون من طينتين مختلفتين وفي سياقات زمانيَّة ومكانيَّة وخصائص وراثيَّة متباعدة؛ وتحقَّق تعارفُ البشر؛ كبرى الحتميَّات التَّاريخيَّة، الَّتي غيَّرت وجه التَّاريخ والأرض، فقد قال سبحانه وتعالى: (يا أيُّها النَّاس إنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير) [الحجرات 13]؛ فماذا نتج عن هذا التَّعارفِ والتَّزاوجِ؟ وكيف تغيَّر وجه العالم خلال آلاف السِّنين؟
نتيجة لهذا التَّزاوج اختلطت أعراق بشريَّة قادمة من طين الأرض الأسود في أفريقيا ومن ترابها الأبيض والأحمر في آسيا والأناضول، ومن جُزُرها المتباعدة بين سيبريا وأفريقيا؛ وبهذه الطَّريقة يتَّضح فهمنا لرواية الحافظ ابن كثير ولطريقته المعضلة في استعمال اللُّغة؛ وقد تحدَّثنا عن معضلة استعمال اللُّغة وتأويلها، أو معضلة ديكارت في مقال سابق، وهي معضلة شائعة لدى المفكِّرين والمفسِّرين أكثر من شيوعها لدى عامَّة النَّاس، وبدت هذه المعضلة جليَّة في تأويل ابن كثير الحرفيِّ لأمر الله-سبحانه وتعالى-ملائكتَه: (ميكائيل وجبرائيل وملك الموت) بأن يجبلوا بشراً من طين الأرض الملوَّن بألوان متعدِّدة. وبهذه الطَّريقة من طُرق التَّعارف والتَّزاوج امتزج الطِّين، واختلطت الأعراق، وتعارَف البشر، واختلفت ألوانهم وطباعهم، لا بطريقة التَّأويل الحرفيِّ لخلط التُّراب وخلْق البشر بحسب رواية ابن كثير؛ وفي نتيجة أخرى مذهلة من نتائج هذا الاختلاط والتَّعارف والتَّزاوج حصلت طفرة وراثيَّة كبرى؛ كان لها أثرُها الكبير جدّاً في تاريخ البشريَّة وظهور الإنسان العاقل (الهومو سابينيز)، الَّذي يتميَّز من آبائه من (الهومو إريكتوس) و(الهومو نياندرتال) بصغَرِ رأسه، وبروز جبينه مقارنة بالجبين المسطَّح لدى إنسان (الهومو إريكتوس) و(إنسان النِّياندرتال)، وفي هذه المنطقة من النَّاصية أو الجبين البارز تقع منطقة (بروكا Broca)؛ وهي الجزء الأماميِّ من دماغ الإنسان، وهذا الجزء من دماغ الإنسان العاقل أكبر من الجزء نفسه عند (إنسان النِّياندرتال) و(إنسان الهومو إريكتوس)، ومنطقة بروكا هذه هي المسؤولة عن عمليَّة اكتساب اللُّغة والذَّكاء اللَّفظيِّ وكثير من مهارات الخطابة والحِجاج والإقناع؛ وبهذا يكون نموُّ المنطقة المسؤولة عن اكتساب اللُّغة عند الإنسان العاقل أبرز نتائج الطَّفرة الوراثيَّة النَّاتجة عن تعارف البشر أو تزاوج بشر من طينتين مختلفتين.
الانتخاب الطَّبيعيُّ وظهور اللُّغة:
يقودنا هذا الحديث إلى تساؤلات جديدة أخرى تقول: كيف وظَّف الإنسان العاقل منطقة بروكا هذه؟ أو كيف استفاد من ذكائه اللُّغويِّ؟ أو كيف حوَّل خلاياها العصبيَّة إلى خلايا لغويَّة؟ وكيف علَّم الله آدم الأسماء كلَّها قبل أن يعرضها على الملائكة؟ هل اللُّغة وحيٌ وإلهام وقفيٌّ أو هي تطوُّر طبيعيٌّ أو تواضع واصطلاحٌ بين البشر أو تقليد لأصوات الطَّبيعة أو هي تطوُّرٌ لخلايا عصبيَّة ومَلَكةٌ ذهنيَّة يرثها الأبناء من الآباء؟ ولماذا تعدَّدت لغات البشر؟ هذه أسئلة منطقيَّة تتعلَّق بمعضلات اللُّغة أو إشكاليَّاتها الخمس؛ وهي: (إشكاليَّة هومبولت Humbolt’s Problem) أو إشكاليَّة ما تتضمَّنه معرفة اللُّغة، وتتعلَّق الإشكاليَّة الثَّانية بكيفيَّة اكتساب تلك المعرفة (إشكاليَّة أفلاطون Plato’s Problem)، وتتعلَّق الثَّالثة بكيفيَّة استعمال تلك المعرفة (إشكاليَّة ديكارت Descarte’s Problem)، الَّتي أشرنا إليها، وتتعلَّق الرَّابعة بالآليَّات ذات العلاقة، الَّتي يوظِّفها الدِّماغ (إشكاليَّة بروكا Broca’s Problem)، وتتعلَّق الخامسة بكيفيَّة تطوُّر تلك المعرفة لدى الجنس البشريِّ (إشكاليَّة داروين Darwin’s Problem)، وسنتحدَّث عن ذلك عندما نقرأ قوله تعالى: (وعلَّم آدم الأسماء كلَّها ثمَّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) [البقرة 31]، وقبل ذلك كلِّه لا بدَّ لنا من أن نسأل: هل حصل تعارف بشريٌّ بين شعوب وقبائل أخرى في جُزر العالم الأخرى أو جاء نسل الإنسان العاقل كلُّه من هذا التَّعارف أو التَّزاوج الوحيد؟ وهل بقي سكُّان بعض الجزر منغلقين على أنفسهم، ولم يتعارفوا مع شعوب أخرى أو يتزاوجوا معها؟ وما نتيجة هذا الانغلاق؟ وماذا حلَّ بالآباء والأجداد ونسلِهم القديم ممَّن لا يتمتَّعون بخصائص هذه الطَّفرة الوراثيَّة لدى جيل التَّعارف الجديد؟
يبدو لي وجود أكثر من تعارف؛ فالتعارف بين مجموعتين بشريَّتين من جزيرتين منفصلتين عن بعضهما داخل أفريقيا أنتج جيلًا جديدًا أعلى من جيل الآباء، والتَّعارف بين سكَّان جزيرة أفريقيَّة مع سكَّان جزيرة آسيويَّة أنتج جيلًا جديدًا آخر، والتَّعارف بين مجموعة من جزيرة آسيويَّة مع سكَّان مجموعة من النِّياندرتال في أوروبَّا أنتج جيلاً جديداً أيضاً، ثمَّ توالى التَّعارف والتَّزاوج بين قبائل الأجيال الجديدة، وظلَّت دائمًا نِسَبُ التَّزاوج بين الشُّعوب المتقاربة مكانيّاً أعلى من نسبتها بين شعبين متباعدين مكانيّاً، وعلمُ تحليل الأحماض النَّوويَّة في وقتنا الرَّاهن ونتائجه المنشورة في الموقع المختصَّة والمعاصرة تثبت ما نقوله يومًا بعد آخر، وبعد كلِّ هذا بقي لدينا سؤال أخير:
مَن نحنُ؟ أبناء الإنسان العاقل أم أبناء الإنسان الشِّرِّير؟ وكيف ظهر الإنسان الأنانيُّ؟
استغلَّ الجيل الجديد من أبناء التَّعارف أو أبناء الطَّفرة الوراثيَّة طفرتهم الجديدة هذه، وحرموا آباءهم وأخوتهم الَّذين لا يتمتَّعون بذكاء هذه الطَّفرة من خيرات مجالهم الحيويِّ؛ حرموهم من الطَّعام والشَّراب ومصادر الطَّاقة تماماً مثلما يحرم بعض الأخوة الأشقَّاء الجَشِعين شقيقاتهم العاقلات وأخوتهم الضُّعفاء أو المجانين أو المتخلِّفين عقليًّا من ميراث أبيهم في وقتنا الرَّاهن؛ ونتيجة للحرمان مرَّة والقتل المباشر مرَّة أُخرى انقرض أخوتهم وأبناء عمومتهم من سلالات النِّياندرتال والهومو إيريكتوس قبل (35) ألف سنة من وقتنا الرَّاهن؛ أي بعد ظهور الطَّفرة الوراثيَّة لدى الإنسان العاقل بوقت قصير، وما هذا الانقراض إلَّا بسبب الحرمان والقتل ودخولنا في معركة غير متكافئة مع أبناء أجدادنا وأخوتنا وعمومتنا البسطاء، الَّذين قضينا عليهم بدل أن نتعايش معهم؛ كيلا يكونوا خصومنا الحيويِّين، ولا ينافسونا على الطَّعام والشَّراب ومصادر الطَّاقة الأخرى.
لم يقف الإنسان العاقل عند جريمة الأولى، الَّتي تمثَّلت بالخلاص من آبائه وأبناء عمومته، بل راح يبتدع في كلِّ مرحلة تاريخيَّة أسبابًا جديدة للصِّراع والقتال؛ كنظريَّات التَّمييز العرقيّ العنصريَّة ونظريَّات التَّمييز الدِّينيِّ الطَّائفيَّة، وصار يرسم الحدود السِّياسيَّة الوهميَّة، ويشعل الحروب لحماية الحدود بدل احترام الحدود الطَّبيعيَّة، وراح المنظِّرون يتحدَّثون عن الأحقِّيَّة التَّاريخيَّة؛ فما الجذور السُّوسيولوجيَّة الكامنة خلف هذه النَّظريَّات؟ وأيُّ جذور سيكولوجيَّة تتسبَّب بمثل هذه الصِّراعات؟
يُرجع توماس روبرت مالتوس (Malthus Thomas) (1766-1834.م) معظم هذا النَّوع من قضايا الصِّراع ونظريَّاته إلى الصِّراع على المجال الحيويِّ بسبب الاكتظاظ المطلق أو ما يُعرف باسم الأزمة المالتوسيَّة، ويبدو أنَّ نظريَّة مالتوس هذه قد أثَّرت في كلٍّ من هربرت سبنسر (Spencer Herbert) (1820-1903.م) وتشارلز روبرت داروين (Charles Robert Darwin) (1809-1882.م) بما فيها من نبوءة مخيفة عن مستقبل الجنس البشريِّ، فقد وجد سبنسر أنَّ ضغط السُّكَّان، الَّذي يسبق على الدَّوام زيادة موارد العيش، هو السَّبب القريب للتَّقدُّم؛ إذ يُرْغِمُ النَّاسَ على تعمير أراضٍ جديدة، وعلى التَّخلِّي عن عادات القنص الوحشيَّة، وتعلُّم حِرَفِ تربية الحيوانات والزِّراعة، وتحسين أساليب الإنتاج، واتِّخاذ المواقف الأخلاقيَّة الَّتي تحفظ الأمن والنِّظام الجماعيَّ. ومع ذلك فإنَّ السُّؤال المُلِحَّ هو ما إذا كان التَّقدُّم التَّدريجيُّ لصراع الفرد في سبيل البقاء، وهو الصِّراع المتولِّد عن الزِّيادة المستمرَّة في السُّكَّان. وعلى أيِّة حال فإنَّ نظريَّة سبنسر القائلة بمسار شبه دائريٍّ، لا توحي بإجابة تفاؤليَّة صريحة، والحقُّ أنَّنا سنكتشف يومًا بعد يوم آخر أنَّ التَّطوُّرات والاختراعات المتلاحقة لم تجلب إلَّا مزيدًا من الحروب والصِّراعات والضَّغط النَّفسيِّ والكآبة بدل أن تجلب السَّعادة للبشر، وبات من المؤكَّد أنَّ بشر الكهوف من البدو الصَّائدين الجامعين كانوا أكثر سعادة من فلَّاحي مجتمعات الثَّورة الزِّراعيَّة، وكان هؤلاء الفلَّاحون أكثر سعادة من عمَّال مجتمعات الثَّورة الصِّناعيَّة، وعُمَّال الثَّورة الصِّناعيَّة من آبائنا وأجدادنا كانوا أكثر سعادة منَّا نحن جيل الثَّورة الرَّقميَّة ومرحلة ازدهار الذَّكاء الاصطناعيِّ.
وفي نهاية المطاف يمكننا أن نسأل، ونقول: مَن نحن؟ هل نحن الباقون من أبناء الحمقى أو الطِّيِّبين (الهومو إيريكتوس والهومو نياندرتال كما يسمِّيهم الغربيُّون) أو (الحنِّ والبنِّ والطَّمِّ والرَّمِّ كما يسمِّيهم علماء المشرق) ممَّن انغلقوا على أنفسهم، أو لم يتعارفوا على أحد أو نحن من أبناء الإنسان العاقل (آدم أو الهومو سابينيز)؟ أيستحقُّ الإنسان العاقل هذه التَّسمية الاصطلاحيَّة ما دامت الأنانيَّة دفعت جدَّه العاقل الأوَّل إلى الخلاص من آبائه وأخوته وأبناء عمومته (كما في قصَّة قابيل وهابيل في القرآن الكريم)، للحصول على مزيد من الطَّعام أو متعة الزَّواج؟ وما دام الطَّمع والجشع والأنانيَّة ينمو فينا جيلاً بعد جيل على مبدأ الانتخاب الطَّبيعيّ؟ ربَّما تميلون معي إلى أنَّ مصطلح (الإنسان الشِّرِّير) أو مصطلح (الإنسان الأنانيِّ) أكثر دلالة علينا نحن البشر الأشرار الَّذين نعيش في الوقت الرَّاهن؛ نحن الَّذين نحتكُّ مع أشرار آخرين؛ نؤذيهم ويؤذوننا عن قصد أو دون قصد كلَّ يوم؟ ثمَّ نختم، ونقول: هل عرَضْنا في هذا المقال شيئاً من الجذر الاجتماعيِّ للشَّرور البشريَّة؟ وهل هناك أسباب سيكولوجيَّة وثقافيَّة أخرى؟ آمل أن أقدِّم للقرَّاء الكرام في المقالات القادمة أسئلة وأجوبة مهمَّة؛ وآمل أن تروي الإجابة على هذه الأسئلة كثيراً من شغفهم العلميِّ وحبِّ المعرفة عندهم!