(أصوات الأمل من غزة) وثائقي الجزيرة مباشر الذي يطرح إشكالية حضور الأطفال في الإعلام!
محمد منصور
عرضت قناة (الجزيرة مباشر) في الثالث عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، فيلما وثائقيا قصيرا بعنوان: (أصوات الأمل من غزة) أعد له السيناريو وأخرجه الناشط السوري المقيم في اسطنبول عمران عكاشة.
مخرج الفيلم، حصل على المادة المصورة من مصوّر في جنوبي قطاع غزة، حيث نزح أهالي شمال القطاع. وقد اختار الفيلم إجراء مقابلات مع الأطفال تحديداً في أحد مراكز الإيواء، لرؤية أثر الحرب عليهم، وانعكاساتها على مشاعرهم وأحوالهم ورؤاهم.
إشكالية استخدام الأطفال في الإعلام وفي أفلام من هذا النوع، تطرح نفسها بقوة منذ البداية، ظهور الطفل وهو يتحدث عن الحرب يثير التعاطف تلقائيا، وبالتالي يحرم المتلقي من وضع حديثه في ميزان المحاكمة النقدية العقلية، إذ تطغى العاطفة الإنسانية وتضعف أمام براءة الأطفال وتلقايئتهم والشعور أنهم ضحايا حرب قاسية تحرمهم من طغولتهم، كما أن من الخطورة هنا، محاولة دفع الطفل لتبني أو التعبير عن موقف سياسي، حتى لو كان سليما ووطنياً فإنه سيبدو ناتجا عن حالة تلقين أو تأثير خارجي، في المحصلة هو ليس موقفا ذاتيا محضا، وهو غير مسؤول، نظرا لأنه دون السن القانونية التي تخوّله مسؤولية اتخاذ مواقف من هذا النوع.
ضمن هذه الإشكاليات، سار فيلم (أصوات الأمل من غزة) في حقل محفوف بالألغام، ولهذا بدا حذرا وواعياً إلى حد كبير في دفع الأطفال بعيدا عن منطقة الموقف السياسي. وكانت البداية في الابتعاد عن تحديد هوية أطراف الصراع أو ذكرهم، رغم وضوحها في خلفية الفيلم وفي صور القصف والاعتداء. وهكذا اختط الفيلم مساره بعيداً، جاعلا من الحرب حدثا شخصيا حوّل مسار حياة أبطاله وبدلها من حال إلى حال، وخرق سكونها وعاداتها وألعابها المألوفة.
يقول أحد الأطفال إنه كان يلعب قبل الحرب مع “اولاد دار أبو دان” عندما جاءت الحرب استشهدوا.
يبدو إعلان الشهادة أشبه بصدمة غير متوقعة، فهم لم يتفرقوا، ولم يتشردوا ولكن: استشهدوا. استشهدوا جميعا ما يعني أنه ضمن سجل العائلات التي استشهدت بأكملها أو جل أفرادها. يعم الصمت للحظة وكأنها حالة حداد عابرة لكنها ضرورية، ثم يستأنف الفيلم مساره ولهذا يبدو الموت قريبا من أحاديث هؤلاء الأطفال عن الحرب. إنه صنو الخوف، الخوف الذي يعيش معهم فيألفونه بعض الشيء، ثم يستيقظون فجأة على فداحة العيش في ظله.
من الواضح أن الأسئلة عن الخوف كانت أحد محاور هذا الفيلم، حتى غدا بطلا له. يتجلى في نظرات الأطفال وفي نبرات صوتهم التي تحاول أن تخفيه ولا تستسلم له. وربما كان العنوان الأدق للفيلم (أصوات الخوف) لا أصوات الأمل.. لكن يبقى العنوان خيارا لصانعي الفيلم لأنه يرتبط ارتباطا كبيرا برسالة الفيلم، لكن يبقى لافتا قول أحد أطفال الفيلم إنه يشعر بالأمان أكثر حين يسير وحده في الخلاء، لأنهم لن يضيّعوا صاروخا ثمنه 36 ألف دولار عليه وحده، إنهم يستهدفون التجمعات.
قد يبدو هذا الكلام أكبر من عمره، لكن من قال أن أعمار أطفال غزة، أو أطفال الحروب عموما، تماثل عمرهم الفيزيولوجي فقط، فالخوف والنكبات والتهجير والقصف ورؤية الدمار والأشلاء تزيد من معرفة الأطفال بالقدر الذي تنال فيه من طفولتهم. الطفل نفسه يقول عندما يسأل عن الحياة قبل الحرب، يقول مخالفاً أقرانه الذين أجمعوا أنها كانت أحلى: “حلوة… بس مش أحلى حاجة لأنها في غزة” عبارة تحمل كما هائل من المفاجأة، لأنها تكشف عن بؤس الحياة في غزة حتى ما قبل الحرب. وربما تقول لنا ببلاغة لا يمكن تخيلها على لسان طفل: لماذا قامت هذه الحرب!
فنياً ابتعد الفيلم عن أسلوب الميلودراما والاستجداء البكائي في التعامل مع الصورة واستخدام الموسيقى التصويرية، فبدا في هذا المنحى يقاوم اتجاها سائدا في جعل الأطفال عنوان التفجع الميلودرامي في مقاربة موضوعات الحروب، لكنه أحسن في الوقت نفسه التركيز على ملامح الأطفال وتعبيراتهم، ولحظات الصمت الخاطف في أحاديثهم، للتأكيد على التلقائية التي تحدث بها هؤلاء الأطفال، بعيدا عن أي مؤثرات أخرى. وربما كان التعليق الصوتي رغم سلامته الفنية واللغوية، بعيدا قليلا عن روح الفيلم، لأنه نحى منحى تقريرياً لا يشبه روح الفيلم الحكائية. فقد كان الأطفال يروون حكاية الحرب. حكايتنا وحكايتهم.
فيلم (أصوات الأمل من غزة) محاولة بسيطة وشفافة لكنها لافتة، لمقاربة الحرب في عيون الأطفال، وسط طوفان الضخ الإعلامي التي تطالعنا كل يوم. يستحق التوقف، ويستحق التأمل والتحية لصانعيه.
لمشاهدة الفيلم