أرشيف المجلة الشهرية

ذكرياتي مع نزار: حين أهدى ديوانه (طفولة نهد) إلى سيد قطب

ذكريات رواها: وديع فلسطين

هذه الذكريات أدلى بها الناقد المصري الراحل وديع فلسطين (1923- 2022) لمجلة (نصف الدنيا) الأسبوعية المصرية عقب رحيل نزار قباني، ونشرت تحت عنوان: “وديع فلسطين أنا أول من كتب عن نزار في مصر”، وهي حافلة بمعلومات تفصيلية هامة عن نشاط نزار الديبلوماسي المبكر، ثم عن لقائه المثير بسيد قطب بعد زيارته له في بيته بضاحية حلوان، ولعل أهميتها تكمن أيضا في أنها تعرفنا بسلوك نزار في الأوساط الأدبية وسعيه للتعريف بنفسه وبشعره، قبل أن يغدو ملء الأسماع والأبصار. (العربي القديم).

عام 1948 دعاني الصديقان السوريان الدكتور (زكي محاسني) وزوجته الأديبة (وداد سكاكيني) – وكانا وقتها يقيمان في القاهرة – لحضور حفل شاي أقاماها لزميلهما نزار قباني، الذي عيّن وقتها ديبلوماسيا ناشئا في المفوضية السورية بالقاهرة. ودعي إلى نفس الحفل عدد من الأدباء والشعراء، لا أذكر منهم سوى (محمد عبد الغني حسن) و(عادل الغضبان).

كان هذا اللقاء بدء تعارف لم يلبث أن أصبح صداقة وثيقة بيني وبين نزار، وكنت ألتقيه كثيراً، وكان وقتها قد قرر أن يطبع ديوانه الثاني في القاهرة، وعنوانه (طفولة نهد)، بينما كان قد طبع ديوانه الأول في دمشق وعنوانه: (قالت لي السمراء)، والذي أثار ضجة كبيرة في سوريا وقامت قيامة الدنيا عليه، لأنه نشر في ذلك الوقت [خارج الديوان] قصيدة عنوانها “خبز وحشيش وقمر” (1) فأثيرت القضية في البرلمان السوري، لأن نزار كان موظفا بالخارجية، فكيف لا يحترم قلمه ووضعه الوظيفي، ويبتعد عن الموضوعات النسائية والنقد الاجتماعي في كتاباته؟! ولكي تهدأ العاصفة تقرر نقله إلى القاهرة ليكون بعيدا عن حملات النواب.  

نعود لديوانه الثاني (طفولة نهد)، وكان مطبوعاً طباعة فاخرة، واللوحات من رسم الفنان (بيكار) وبالألوان، وأهداني نسخة منه، وسألني: ما السبيل لإهداء هذا الديوان للشعراء والنقاد المصريين؟ وكنت بحكم عملي الصحفي في ذلك الوقت، كنت أعرف عدداً كبيراً منهم، ودعوته إلى “دار المقتطف” وجريدة “المقطّم” التي كنت أعمل فيها، لأننا في كل يوم جمعة كنا نقيم ندوة أدبية  يتردد عليها الكثير من الأدباء والشعراء من المصريين والعرب، وفي هذه الزيارة أهدى نزار ديوانه للعديد منهم.

وكان سيد قطب يعتبر من أكبر النقاد في مصر آنذاك، وكان يشار إليه بأنه ناقد مجلة (الرسالة). فرغب نزار أن نزوره لنقدم إليه الديوان، وزرناه فعلا في بيته بحلوان، وعرفته على نزار، وأهدى إليه الديوان، ولكن سيد قطب لم يكتب عنه شيئاً! وفي ظني لأنه كان محافظاً وشعر نزار كان جريئا جداً، وترد به كلمات لم يعتد عليها المجتمع وقتئذ، ولم تستسغها بعد عين الناقد، ولا أذن القارئ.

وأيضاَ أخذته وذهبنا لمنزل عباس محمود العقاد في مصر الجديدة وأهدى له الديوان، والأرجح أنه لم يكتب عنه أيضاً، لموقفه الشهير من الشعر الحر كما كان يسمى وقتذاك.

الخلاصة أن جميع الذين أهدى إليهم الديوان تجاهلوه تماما، ولم يكتب عنه أحد غيري، وكنت أول من كتب عن نزار في مصر. واتفق أن تلقيت ديوان آخر من الشاعر (حسن كامل الصيرفي)، فكتبت مقالا واحدا عن الديوانين معاً، ولما نشر عاتبني الصيرفي قائلا: ” من نزار قباني هذا الذي تقدمه علي؟”  وكان دفاعي – وهو دفاع ضعيف – أنني كتبت عن الديوانين بحسب ورودهما إلي.

وبعدما كتبت أنا، كتب (أنور المعداوي)، وكان ناقدا مشاغبا ومغرورا بنفسه، في مجلة (الرسالة)، وعندما تحدث نزار عن تلك الفترة ذكر المعداوي ونسيني. لكن علاقتي به بقيت طوال فترة وجوده في القاهرة، وكنا نلتقي دائما، وعندما نقل بعد ذلك إلى أنقرة، ظل يكاتبني، وأهداني ديوانيه: (سامبا) وديوان (رامبا)، وكان يكتب في إهداءاته: “حبيب العمر” وظل هكذا إلى أن انتقل إلى مدريد. وهناك عرفته بأخي الفنان (لويس فلسطين) النحات، وكان مقيما هناك، وكان معه طوال الوقت.

وكاتبني من هناك أيضا، وأهداني بعض كتبه، وربطتي عنق، وتردد بعد ذلك على القاهرة كثيرا، وكان قد بدأ ينال شهرة كبيرة، خصوصا بين الفنانين بعدما غنيت له بعض القصائد، فتغيّر إلى حد كبير، ولم يتصل بي إلا مرة واحدة. من ناحيتي لم أحاول أن أتملق رجلا أصبح ذا شهرة واسعة، وعاتبته ببيت من قصيدة له قال فيه: “كاللص يبحث عن طريق نجاة” خاصة أن (نجاة) كانت قد غنت له قصيدة (أيظن)، فقلت له ما قاله في قصيدته.

وأذكر أن أنور المعداوي، حين كتب عن ديوان (طفولة نهد) في مجلة (الرسالة)، اضطر إلى تغيير العنوان إلى: “طفولة نهر” ويقال أن أحمد حسن الزيات، صاحب (الرسالة)، تدخل في تغييره، وذلك لأنها كانت مجلة محافظة، ونزار كان جديدا ومتدفقاً وهادراً في شعره وكلماته، مما صدم المجتمع والنقاد، ويجوز أم يكون هذا سر عدم الاحتفاء به في فترة وجوده بمصر.

هامش:

(1): يبدو أن الذاكرة خانت الناقد وديع فلسطين في هذه النقطة، فقصيدة  (خبز وحشيش وقمر) لا تنتمي لفترة الأربعينات بل الخمسينات، وقد نشرتها مجلة (الآداب)  في آذار/ ماس عام 1955(العربي القديم)

_____________________________________________

 من مقالات العدد السادس من مجلة (العربي القديم) الخاص بالذكرى المئوية لميلاد نزار قباني

زر الذهاب إلى الأعلى