قصد السبيل | برهان غليون المطلوب الأول
د. علاء الدين آل رشي-
في استفهام يبعث على التحدي ينفي د. غليون أبدية الأنظمة القمعية، وأن حتمية الزوال قادمة وقائمة… هل يحكُم الوضع على المجتمعات العربية بالبقاء في قبضة النظم القهرية والفاسدة والاستبدادية الى الأبد؟
ثم يجيب بثقة المؤمن بسنن الله في التاريخ ومن ثم بإرادة الشعب فيقول: ( بالتاكيد لا) لكن مع هذا يفرض على الطبقة الموجهة التفكير المهام المرتبطة بدور النخب المثقفة والسياسية، في التأثير في مستقبل كفاح شعوب المنطقة ومآلات ثوراتها وانتفاضاتها، التي لم تكن ثورات العقد الثاني من هذا القرن سوى الدفعة الأولى على حسابٍ كبير وعسير، بين النظم وشعوبها.
وللأسف فقد لعب الاعتقاد السائد عند معظم عناصر هذه النخبة المُحدثة في أن فشل التغيير ناجم عن تخلّف الشعب، ومن ثم أن من العبث الاستثمار في مشاريع التغيير قبل أن يتطور الشعب ويتغلب على أميّته وجهله وتخلّفه، ولا يزال هذا الاعتقاد، يلعب دورا مدمّرا في تعميق الهوة بين الطرفين، ويساهم في إيجاد الفراغ السياسي، ودفع الجمهور إلى تسليم قياده إلى أناس بسطاء أو أصحاب مصالح أو إلى فتوّاتٍ ضيقي الأفق. وهذا ما يحرم الحركات الاجتماعية الكبرى من قيادة تعي، إلى حدٍّ أو آخر، تعقيدات السياسة وتقلبات الأحداث ودروس التاريخ وثقل الجغرافيا.
إحدى أعقد الفترات التاريخية المؤسسة لميلاد سوريا بلا آل الأسد، بدأت منذ عام 2011 والتي مازالت آثارها متحكمة إلى اليوم في الفكر السياسي للعقل السوري بل في نسج شبكة جديدة من العلاقات بين المكونات السورية. ولا شك أن الدكتور برهان غليون يعد من الشخصيات البارزة الذين قادوا العمل السياسي في سوريا منذ، بواكير الحراك السوري وكان له دور كبير في توجيه مسار العمل السياسي . لذلك، فإن استكناه تجربته والقيام بمراجعة لما خلص إليه سيكون بمنزلة الضوء الكاشف لخريطة الخلاص وحزمة وعي مستنيرة تسهم في استئناف العمل في الوطني الرشيد بحكمة ووعي وفي المقابل الاستمرار بالمطالب العادلة للشعب.
الدكتور برهان هو أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون بباريس، وأول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، ومن أبرز مؤلفاته كتاب “عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل”، الذي مثّل شهادة شخصية للدكتور برهان على أهم أحداث الثورة السورية ومجرياتها وتطوراتها، والفاعلين المحليين والدوليين فيها، وأحدث جدلًا واسعًا بين السوريين..
يعتقد كاتب المقال أننا في استقراء التجربة البرهانية يمكن أن نرى كيف يقيم د. غليون العمق والخلل و المطبات والعثرات التي وقعت فيها الثورة السورية، وكيف يتم التعامل مع صناع القرار في المشهد العالمي. إنه يضرب بفأس الخبرة والواقعية حالة التصحر والتصلب مرحبا في الذكرى 13 للثورة السورية، إنها تذكير بأن الحكمة والوعي هما المفاتيح لاستمرار الحركات الثورية بشكل ناجح ومستدام.
في عالم أصبح شديد الترابط والتداخل في المصالح والمصائر، من المستحيل ألا تثير ثورة أي شعب، مهما كان ضعيفاً وهامشياً، شهية الدول الإقليمية الأكبر، بل والقوى الكبرى ذاتها لاستغلالها، سواء بالاستثمار فيها لتحقيق مصالح خاصة بها، من زيادة نفوذ، أو بتحطيمها لتقويض نفوذ (ومصالح) الدول الاخرى التي يمكن أن تستفيد من انتصارها، وذلك بصرف النظر عن مصالح أصحاب الثورة وتضحياتهم.
بقي د. غليون مشدودا إلى الأمل بالسنن التاريخية التي تحكم حركة التاريخ حيث يرى أن ( الثورة تعدّ ناجحة في اللحظة التي يكسر فيها الجمهور جدار الخوف، ويعلن نهاية عهد القهر والاضطهاد) .( وأن الأنظمة تخسر رهانها منذ اللحظة التي يصبح فيها العنف غير قادرٍ على ردع الجمهور وإجباره على الاستمرار في الخضوع والطاعة، وبالتالي استحالة عودة الأمور إلى الوراء ثانية).
لكنه يبين أن ( إسقاط النظام لا يعني تلقائيا قيام نظام جديد، ولا يوجد مثل هذا النظام جاهزاً لا في عقل الجمهور ولا في شروط الواقع. هذه معركة أخرى تحتاج إلى قوى سياسية وشروط اجتماعية وجيوسياسية مختلفة).
وهذا رد على رأس النظام عندما استهزء بالثورة وخلوها من المثقفين.
يهجو غليون الأفكار العلبة والحلول المحنطة ويطمح إلى رفع الوعي الذاتي واستعادة دور النخب التلاقي على القضايا الكبرى ( ليس إسقاط النظم السياسية المنافية لروح العصر وحقوق الإنسان الأساسية هو الذي يشكّل اليوم التحدّي الحقيقي والأكبر لمستقبل المجتمعات العربية ولنخبها الواعية، فتكفي نظرة سريعة على إنجازاتها لندرك أنها خسرت الرهان بالفعل، وأصبحت نظما ساقطة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
التحدّي الحقيقي والأكبر للشعوب والنخب القيادية فيها هو اليوم وضع الأسس اللازمة لإقامة نظم سياسية واجتماعية تعكس مصالح الناس، وتردّ على تطلّعاتهم الإنسانية إلى المساواة والعدالة والحرية والكرامة والرضى والسعادة. ولا يمكن ذلك من دون انخراط النخب الاجتماعية والمثقفة، في هذه المعركة التاريخية، مع الشعب ومن أجله، والتي هي معركة تحرير الفرد والمجتمع بمقدار ما هي معركة تحقيق ذاتها الذي لا يمكن أن يكون خارج الشعب ولا من باب أوْلى ضدّه.)
يفند غليون باقتدار الحالة السورية ويعلن فرادة الثورة السورية عن سابقيتها التونسية والمصرية حيث إن
( تدخّل القوى الإقليمية والدولية لم يأت بعد سقوط النظام للحيلولة دون قيام نظم ديمقراطية تخضع لإرادة الشعب والناس، وإنما جاء منذ بداية الثورة، ومع خطط جاهزة لإجهاضها والقتال إلى جانب النظام لدحر القوى الشعبية وتدميرها بأي ثمن. وفي هذه الحالة، لم يكن من الطبيعي والمنتظر أن يعرقل التدخّل الأجنبي تقدّم الثوار أو يقتصر أثره على القضاء على القوى القيادية في الثورة فحسب، وإنما مكّن النظام القائم من استهداف الحاضنة الشعبية ذاتها).
ويتوسع د. برهان في تفصيل ذلك فقد (تحوّلت الثورة المضادّة المدعومة بالقوى الخارجية، وفي مقدّمها مليشيات طهران العراقية واللبنانية والأفغانية والباكستانية الطائفية، إلى حرب إبادة جماعية حطّمت المجتمع وشرّدت نصف الشعب، ودمّرت الاقتصاد والمرافق العامة، تماماً كما يحصل في غزّة اليوم، وقسّمت البلاد إلى إمارات حرب تسيطر عليها المليشيات التي تعمل تحت إشراف الدول الأجنبية ولحسابها، وتضمن لها سيطرتها ومناطق نفوذها).
يبين د. غليون تشابك الحراك الداخلي مع النظام العالمي )فالتغيير في نظم الحكم في هذا البلد أو ذاك لا يمسّ التوازنات الاجتماعية والسياسية الداخلية فحسب، ولكنه يهدّد بتغيير التوازنات الإقليمية، وربما، في منطقة حسّاسة جيوسياسية، يؤثر على المعادلات الدولية القائمة أيضا).( لا يزال الموقف على حاله منذ 13عاماً، ولم تسمح لا طهران ولا موسكو بتغييره بل، أقلّ من ذلك، بتعديلٍ، ولو جزئي، في سياسة النظام العدوانية تجاه شعبه وإصراره على الاحتفاظ بآلاف المعتقلين السياسيين في المعتقلات، واعتقال المزيد منهم وحرمان ملايين المهجّرين من العودة إلى مناطق سكناهم، عدا عن تعطيله كل المحاولات العربية والدولية لفتح نافذة على الحل السياسي والقبول بتسوية سياسية تنهي معاناة السوريين، التي وصلت إلى حدّ لم تعد المنظمّات الدولية تستبعد معه حصول مجاعة قريبة في البلاد).
ويلفت د. غليون جهد النخب إلى ضرورة فهم أنه( لا توجد ثورة على نظم قهرية تمتلك سلفا عوامل انتصارها من وعي بالمشكلات والتحدّيات وتنظيمات سياسية فاعلة).
كما أن عقد وحفرعهود الانحطاط ليس من السهل التخلص من عقابيلها ولا تملك الثورة عصى سحرية ومن دون مواربة يصرح. د. غليون( نجاح الثورة على نظام قائم فقد شرعيته وقدرته على الردع في مواجهة ملايين البشر الغاضبين، لا يعني قدرتها بجرّة قلم على وضع أسس نظام جديد يستجيب لتطلّعاتها. فليس من السهل، بل إن من المستحيل على الجمهور الثائر الذي توحّده إرادةٌ مشتركةٌ بسيطةٌ لتغيير النظام أن يكتشف أو يطوّر بسرعةٍ عهداً اجتماعياً ورؤية مشتركة للمستقبل، بل حتى خطة واستراتيجية واحدة لمواجهة القوى المضادّة، فهذه الثورات العفوية لا تملك قيادة سياسية حقيقية، ولا خططا واضحة للثورة، ولا يمكنها المراهنة على نخبٍ تفتقر هي نفسها للرؤية الواحدة والتنظيم والخبرة السياسية، بل تكاد تكون غير موجودة أو عديمة الوزن وشديدة الانقسام)
يؤكد د. غليون على أهمية دور النخب المثقفة والسياسية في تأثير مستقبل كفاح شعوب المنطقة ومآلات ثوراتها وانتفاضاتها. ويشدد على ضرورة تحرير الفرد والمجتمع من خلال مشاركة النخب في هذه المعركة التاريخية، والتي لا تمكن من دون انخراط النخب الاجتماعية والمثقفة، وبناء نظم سياسية واجتماعية تعكس مصالح الناس وترد على تطلعاتهم الإنسانية وتحقق المساواة والعدالة والحرية والكرامة والسعادة. ويختتم د. غليون بدعوة إلى الوعي والتنظيم والتضامن لبناء مستقبل أفضل للشعوب العربية وللنخب المثقفة والسياسية في المنطقة.
وحتى لو نجحت الحكومات العربية في تجاوز خلافاتها مع الأسد على أمل تحقيق بعض المصالح الخاصة، مثل الحد من تجارة المخدرات أو التخفيف من ضغط موجات المهجّرين، فإن نظامه تفكّك ولم يعد قابلًا للإصلاح، وتحول حكمه، كما مرَّ ذكره، إلى غطاء لمشاريع المافيات المختلفة.
ولن يستطيع بمؤسساته المهترئة ورجاله الفاسدين وأصحاب السوابق الذين يحتلون المناصب الرئيسية فيه، ويفتقرون لأي مفهوم للسياسة أو الإدارة أو العمل العام، ولا تحركهم إلا مصالحهم الشخصية ونواياهم الاجرامية، أن يستعيد، مهما فعل، صفته السياسية ويتغلب على طابعه الجنائي.
هناك طريق واحد للخروج من المحنة الراهنة التي لم تعد سورية فحسب، إنما صار لها انعكاسات خطيرة على أمن وسلامة الأقطار العربية الأخرى. هو العمل على تطبيق القرارات الدولية وتحقيق الانتقال السياسي، أي وضع حجر الأساس لنظام جديد يقطع مع سياسة التسلط والعنف الأعمى وثقافة الاستبداد وشرعنة النهب والتمييز الاجتماعي والطائفي، ويرسي قواعد دولة القانون التي كان تدميرها الشرط الأول لاستمرار النظام القائم.