تيسير خلف عن نص نزار الثمين "أنا وجدي في شيكاغو": أسرار أبي خليل
أنا وجدي في شيكاغو
بقلم: نزار قباني
ما أغرب مصادفات الزمن!!
فقبل مئة سنة وسنتين أي في عام 1893، جاء جدنا الكبير أبو خليل القباني إلى شيكاغو، وقدم عرضاً مسرحياً غنائياً في المعرض العالمي في شيكاغو. أبو خليل سبقني إذن إليكم، وفتح أمامي الطريق إلى شيكاغو.
هو جاء إليكم في نهايات القرن الماضي، يحمل إليكم نار الفن وحرائق الإبداع. وأنا أجيئكم في نهايات هذا القرن، أحمل إليكم نار الشعر… وجنونه… وتحدياته.
هو جاءكم هارباً من طرابيش العثمانيين، وغيوبة المجاذيب والمسطولين، وتكايا الدراويش وأهل الكهف… وأنا جئتكم هارباً من عصر عربي، أصبحت أوصافه مستعصية على الوصف، وبشاعته أبشع من البشاعة، وهوانه أكثر من الهوان، وسقوطه لا شبيه له في تاريخ السقوط.
***
كان أبو خليل القباني في ذلك الزمن العثماني، أكبر من المكان، وأكبر من بيئته، وأكبر من هويته… ولذلك ركب البحر إلى العالم الجديد، باحثاً عن أفق مفتوح لأحلامه، ومساحة تليق بحريته.
جدي كان فناناً قلقاً ومتمرداً، ورافضا لعصره… وأنا بعد مئة عام، أحمل القلق ذاته، واللوثة ذاتها، والجنون ذاته…
وأنا أحاول بالشعر، أن أزحزح حجارة هذا الكون، وأغيّر عالماً عربياً لا يريد أن يتغير.
***
من دمشق إلى شيكاغو، جاء أبو خليل القباني، رائد المسرح العربي ومؤسسه، حاملاً تحت قنبازه الشامي هم الحب، وهم الإنسان، وهم الحرية.
وأنا أحمل في نهايات هذا القرن البائس واليابس، ذات الهموم التي كان يحملها جدي… علني أستطيع بكلمة حب صغيرة، أن أنقذ الإنسان من غول التكنولوجيا، وأسنان الربوت، وسلطة الريموت كونترول.
***
بالشعر وحده نستطيع أن ننتصر على هذا العصر المضرّج بالبشاعة والمقع والخوف. والذي باع الوردة من أجل صفقة سلاح، وباع القصيدة من أجل سيارة “فيراري”… وباع ليلى العامرية وفينوس وإيزيس وكليوبترا من أجل الرجل الوطواط.
إن الشعر هو آخر واحة نأوي إليها في زمن التلوث… آخر عصفور يطير في سماء الحرية… آخر حب نعيشه، قبل أن يصدر مرسوم بإلغاء الحب… آخر امرأة نعشقها قبل أن ينقرض جنس النساء.
***
في شيكاغو أشعر أنني في بيت أمي وأبي.
أشعر أنني أتمدد على سرير طفولتي.
أشعر أن بحر بيروت يستلقي على ذراع بحر فلوريدا… وأن ياسمين دمشق، يتسلق على أكتاف ناطحات السحاب في نيويورك… وأن قباب بغداد، ونخيل البصرة، وعصافير شط العرب، تسكن معي في فندقي.
***
هذه هي معجزة الشعر.
فهو ذلك الساحر الذي يغير خرائط العالم، وحركة التاريخ، ويجعل البحر أكثر زرقة.. والغابات أكثر شجرا… والقمر أكثر استدارة.. والنساء أكثر أنوثة.
***
كلما حاولت أن آخذ إجازة من الشعر رفض طلبي.
أذهب إلى أوروبا فأجده بانتظاري. وأذهب إلى آسيا فأجده بانتظاري. وأذهب إلى أفريقيا فأجده في انتظاري. وأذهب إلى بلاد الهند والسند، وإلى حايط الصين العظيم فأجده في انتظاري…
فهل الشعر قدر محفور على جبين كل عربي منذ الولادة حتى الموت؟
هل الشعر هو جزء من دورته الدموية، وهورموناته، وجيناته، وصفاته الوراثية؟
***
أعتقد أن الإنسان العربي هو كائن شعري بامتياز.
ومن المستحيل أن نجد عربيا واحداً لا يحفظ بيتاً من الشعر… وإلا فقد هويته وجواز سفره.
كم من المرات نسيت جواز سفريب في البيت، وعندما كنت أصل إلى أي مخفر عربي للأمن العام، ويرون في حقيبتي ديوانا من دواويني الشعرية، كانوا يأخذون لي التحية العسكرية، وينسون جواز سفري الضائع.
هذه هي سلطة الشعر…
أما بقية السلطات الأبوية والبطريركية والزوجية والسياسية والعسكرية، فكلها فقاعات صابون.
***
عندما تلقيت دعوة جمعية تراث الشرق لتقديم أمسية شعرية في شيكاغو، قفز قلبي في صدري كعصفور ربيعي، وأحسست بأني أعود إلى أحضان أمي.
أن التراث هو أمنا التي نزلنا من رحمها. وهل بوسع أي إنسان أن يغير أمه أو يرفضها… أو يشتري أماً أخرى من السوبرماركت؟
التراث العربي هو هويتنا، وجواز سفرنا، وفصيلة دمنا. وبدون هذا التراث نصبح أطفالا بلا نسب.
من أنا دون المتنبي وأبي تمام والبحتري والمعري وعمر بن أبي ربيعة وأبي نواس؟
ولدٌ في ملجأ الأيتام… ونقطة سابحة في الفراغ.
ثم ما هو الغناء العربي دون إسحق الموصلي وزرياب وسيد درويش وبعده الحامولي والشيخ سلامة حجازي ومنيرة المهدية وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب؟
وما هو الزجل والشعر الشعبي دون بيرم التونس، وعمر الزعني، ورشيد نخلة، وميشيل طراد وصلاح جاهين وعاصي الرحباني؟
وما هو الفكر العربي دون الغزالي وابن رشد وابن سينا وابن خلدون ومحيي الدين بن عربي.
هذه هي المائدة الثقافية الكبرى التي نجل عليها منذ خمسة عشر قرناً، ولولاها لبقينا جياعاً. هذه البنايات العظيمة في الشعر والفكر والعلم والفلسفة، من يصونها من التآكل والانهيار؟
والمفارقة الكبرى التي تثير الدهشة، أن الذين يسكنون شيكاغو من المغترين العرب، هم الذين يصونون التراث العربي ويحفظونه ويخافون عليه، في حين أن المقيمين على أرض الوطن يهملون التراث ويبددونه، لأنهم مشغولون بقشور الدنيا، وبريق السلطة، وزبالة السياسة.
***
إنني أعتقد أن المسؤولين عن جمعية تراث الشرق، فكروا بذكاء ونفذوا بذكاء، حين استطاعوا أن يجمعوا في ليلة واحدة هؤلاء الجنرالات الأربعة من المبدعين العرب.
أنا شخصيا لا أريد أن أكون جنرالا، لأنني مصاب بعقدة اللون الكاكي، ومشتقات اللون الكاكي.
أنا مجرد جندي بسيط في جيش هذه الأمة العربية، يحارب القبح حيث كان، والمقع حين كان، ووأد النساء حيث كان، ولا يتلقى الأوامر إلا من سيدة عظيمة تدعى الحرية.
***
إن الجاليات العربية في الولايات المتحدة وفي العالم، يجب أن تظل وثيقة الارتابط بتاريخها الفكري والثقافي والإبداعي، حتى لا تذوب في بحار الاغتراب، وحتى يبقى الأطفال العرب في المهاجر يعرفون لغتهم، وتاريخهم، وأسماء آبائهم.
ومشروع تراث الشرق الذي تقوم به جمعية من العرب الأمريكيين، هو مشروع حضاري تنويري من الطراز الأول، بل هو مشروع قومي كبير، لأنه يستهدف المحافظة على ما تركه العرب من إنجازات جمالية على جبين الكون.
***
وبعد… فهذه ليلة الحب في شيكاغو. ليلة الشعر الجميل والطرب الأصيل والإبداع المتميز.
ليلة التراث بكل ما في هذا التراث من غنى وتنوع، وعمق حضاري وإنساني. ولكم يسعدني أن أقرأ قصائدي في مدينة شيكاغو بعد مئة سنة من زيارة جدي لها وظهوره على مسارحها.
وكما فعل جدي، سوف أكون منتميا لجذوري العربية، وتراثي العظيم، فأنا ولد من أولاد التراث. لا ولد صائع ولا ضائع ومتسكع من أولاد الحداثة، التي لا يعرف ولا المنجمون ولا الجراحون ولا أطباء علم النفس، رأسها من ذَنَبها.
إنني شاعر أنتمي إلى أب وأم وقبيلة ولغة وتاريخ. ولا يسعدني أبدا أن أدخل مغارة الحداثة التي ليس لها أبواب ولا شبابيك… ولا أي مخرج للحريق أو للطوارئ.
شيكاغو 23 أيلول/ سبتمبر 1995
* الكلمة التي افتتح بها الشاعر أمسيه الشعرية في فندق هيلتون شيكاغو بدعوة من جمعية تراث الشرق العربية – الأميركية.
تعقيب: نزار وأسرار أبي خليل
بقلم: تيسير خلف
مدهش ما كتبه نزار قباني عن جد والده أحمد أبي خليل القباني، بشأن شيكاغو، ففي ذلك الوقت كانت الرحلة إلى معرض أكسبو 1893 مجرد شائعة لا يصدقها الكثيرون، ومنهم شقيقه الدكتور صباح قباني الذي قال لكاتب هذه السطور: “ابحث ما شئت أن تبحث، ولكنك لن تجد شيئاً”. وكان الدكتور صباح يتحدث من واقع تجربة خاضها هو، حين كان دبلوماسياً في الولايات المتحدة الأميركية مطلع سبعينيات القرن العشرين. وحتى أكثر الباحثين تدقيقاً تحدثوا عن مشاركة جوق القباني المسرحي في المعرض العالمي، من دون مشاركته هو شخصياً، ولكن بعد نحو 130 عاماً توصلنا إلى أرشيف فرقة القباني في شيكاغو كاملاً، موثقاً بالورق والصور والصوت، وتبيّن لنا بما لايدع مجالاً للشك بأن القباني شخصياً كان هناك، تلاحقه الصحافة وتقارير العسس العثماني. ثمة تفصيل آخر في سيرة أبي خليل تناوله نزار في إحدى قصائده، حين قال في قصيدته المطولة “الوضوءُ بماءِ العشق والياسمينْ” بالمقطع التالي: “مِنْ خان أسعد باشا يخرجُ أبو خليل القباني بقُنْبازِهِ الدَامَسْكُو .. وعمامَتِهِ المُقَصَّبَهْ .. وعينيهِ المسْكُونتينِ بالأسئلَهْ كعَيْنَيْ هامْلِتْ…”. وهذا التفصيل لم يكن أحد يعرفه قبل اكتشافنا نص رحلة الدبلوماسي الفرنسي دي فوغيه إلى دمشق عام 1872 حين تحدث عن مشاهدته في خان أسعد باشا في رمضان المبارك عرضاً تمثيلياً (le spectacle) فيه موسيقيون ومغنون “وهم يروون بنغمتهم الحزينة قصص الحب والحروب والمآسي التي شهدتها الصحراء”. صحيح أن دي فوغيه لم يذكر القباني بالاسم ولكن سياق ملاحظاتهم يتطابق مع ماذكره أكثر من تلميذ له وعلى رأسهم كامل الخلعي الذي حدد انطلاقته في عهد الوالي صبحي باشا. أما التفصيل الثالث الذي ذكره نزار فهو تمثيل القباني لمسرحيات فرنسية لموليير وكورنيه وراسين، وهذا أمر لم نكن نعلمه قبل صدور كتاب المؤرخ المصري الكبير الدكتور سيد إسماعيل عن “جهود القباني المسرحية في مصر” عام 2008. والسؤال الذي يبرز هنا، هل اطلع نزار على مذكرات أبي خليل المفقودة، والتي تحدث حفيده زهير القباني في مطلع خمسينيات القرن العشرين أنه كان يستعد لإصدارها؟ ربما الأمر كذلك.
_____________________________________________
من مقالات العدد السادس من مجلة (العربي القديم) الخاص بالذكرى المئوية لميلاد نزار قباني