عن نزار وتداعيات عدد العربي القديم
بقلم: صخر بعث
ملأ “نزار “حياتي وشغلها بل وخرّبها مُذ كنتُ فتىً يافعاً وناصعاً غير صانع، حين استولى على وقتي الخطير وأمسك بتلابيب قلبي وعقلي معاً، حتّى أوشكتُ على حفظ جُلّ ما فرّده وغرّده من “الشعر الجديد”.
الشعر الذي أنشأه “نزار قبّاني” لم يكن شعراً جديداً فحسب بل كان حديثاً طريفاً لطيفاً بسيطاً عذباً وجزلاً أيضاً، كان شعراً لم يحدث أن سمعنا مثله قبلاً، لكنّما كنّا نعرفه ونحسّ به ونقترب منه أو نريد أن نقوله أو نعبّر عن الكثير ممّا تضمّنه، فلا نستطيع، وجاء الرجل ففعل وتمادى!.
تمادى “نزار” كثيراً في “الشعر العربي”، الشعر العربي الذي لم يكن لأيّ من لغات العالم ولأكثر أممه ثقافةً وحضارةً أن تُلامس أطراف بلاغته وحُسن سبكه وروعة أسلوبه، وبالطبع طرق نظمه وبراعة قوافيه وتنوّع موسيقاه.
تمادى “نزار” في التجديد وفي التسديد، في تجديد الإنشاء والمبنى وفي دقّة الوصول إلى المعنى، ثمّ وفي تسديد ما جدّد فيه مباشرةً من هذا التراث الإنساني العجيب العظيم إلى مجتمعاتنا بكلّ أحوالها وثقافاتها، إنّما كسهم ينطلق بمسار قوس قزح ورقّته وبهاء ألوانه، فيصيب عين الشمس أي عين الحقيقة.
قلتُ أنّ شعر نزار قد استولى على وقتي الخطير، لأنّ الوقت كان خطيراً بالفعل، وقت دراسة وإعداد لامتحانات الثانوية العامّة، فقضيتُ الساعات والساعات وأنا أخبّئ دواوين “طفولة نهد” و”الرسم بالكلمات” و”يوميات امرأة غير مبالية” وغيرها في ثنايا كتب الفيزياء والرياضيات، وما عسى أن أفعل وأنا أحبّ الشعر وأكره معادلات “نيوتن” ومثلّثات “فيثاغورث”، وبين يديّ جاذبية شعر “نزار” وخطوطه الخارجة عن الزوايا والحدود؟.
كيف يمكن مثلاً الإجابة بوضوح وتركيز ومحبّة عن تساؤلات ابنة الجيران المستمرّة: لماذا لا تقول لي “أحبّك”؟، بردّ أجمل من:
أخافُ أنْ أقولَ للتي أحبُّها: أحبُّها
فالخمرُ في جرارِها تخسرُ شيئاً
عندما نَصُبُّها!.
وللتعريف بقيمة الحبّ وعظمته وضرورته وضرورة أن تلتفت إليه وإليّ زميلة من زميلات الدراسة، هل ثمّة أحلى وأذكى وأسهل وأبسط من هذا الاستهلال الموجّه والاستغلال الأناني المباشر للشعر في سبيل الحبّ وكُرمى له ولي:
أليسَ الحبُّ للإنسانِ عُمراً داخلَ العمرِ؟
لماذا لا يكونُ الحبُّ في بلدي طبيعياً؟
كأنّهُ زهرةٌ بيضاءُ
طالعةٌ من “الصخرِ”؟
طبيعياً، طبيعياً..
كلقيا الثغرِ بالثغرِ؟.
ما لي أنا ولكتب الفيزياء والكيمياء وقوانين “ماندل” في الوراثة والجينات ولديّ من الأدوات السحرية ما يكفي لصعود الشابّ الحنون ذي البلاغة الأدبية والرومانسية الوجدانية؟، الحبّ أوّلاً والبقية تأتي!، خرب بيتي “نزار”!.
الجولة التالية مع “شعر نزار” كانت في السياسة طبعاً، فما كان لنزار وشعره غرض أهمّ من شأنين: الحبّ والثورة، حبّ المرأة وثورتها، وحبّ الوطن وثورته، ولقد استمرّ الشباب مع هذين الشأنين ونَمَتِ المدارك وتشكّلتِ المعارف، وكان من المنطقي والطبيعي أن أنتقل مع نزار إلى “العالم الجديد” عالم السخط والتمرّد والرفض، العالم الذي كشفت فيه نشراته الشعرية المستقلّة الصادقة عن أحداثنا وأحوالنا وخيباتنا وسقطاتنا العربية التي لم يكن مسموحاً أو ممكناً لجلّنا أو لجيلنا بالذات أن يتابعها بالبثّ المباشر.
كانت دواوين نزار الصغيرة متناثرةً في مكتبتي الصغيرة وفي الأدراج وتحت الأرائك وعند الأصدقاء اللصوص، حتّى اقتنيتُ المجلّد الأحمر الكبير الذي ضمّ معظم أعماله في شعر الغزل والمرأة والوجدان، ثمّ استطعتُ اقتناء المجلّد الأبيض “الأعمال الشعرية السياسية الكاملة”، فغرقت مجدّداً بالقراءة والتفكير، وعاد “نزار” ليخرّب ويرتّب عقلي وحده هذه المرّة، فلا أشعار حبّ لابنة الجيران ولا أبيات غزل بزميلة دراسة، بل سيّاف وديك وإمام وسلطان وسجّان وعرب ويهود وجنود، وعروبة وهزيمة وطغيان ونكسة وخِيمة وخيام، والجهل والكبت والزور والحقد والحاكم السافل الوغد، أين كنّا وأين صرنا؟، وما الذي لن يفعله على هذا النحو الجديد “ضوء القمر”، الذي كان يفعله بنا نحن العرب وأمثالنا؟.
ما الذي يفعلُه ضوءُ القمر..
فنضيعُ الكبرياءْ؟
ونعيشُ لنستجدي السماءْ
ما الذي عند السماءْ
لكُسالى ضُعفاءْ..
يستحيلونَ إلى موتى إذا عاشَ القمر!.
بالفعل.. ما الذي عند السماء لكُسالى ضُعفاء؟، وما كلّ هذا الضعف أصلاً، ولماذا ومتى وكيف وكلّ أدوات الاستفهام والاستعلام والاستهجان، ومن ساقَ إلينا كلّ هذا القمع والبطش والظلم والإذلال؟، نقلني “نزار” وقتها من التفكير بابنة الجيران إلى التفكير بابن عمّي وابن عمّتي وسواهما وسواهم من المعتقلين السياسيين:
أوقفوني..
وأنا أضحكُ كالمجنونِ وحدي..
من خطابٍ كانَ يُلقيهِ “أميرُ المؤمنينْ”
كلّفتني ضحكتي عشرَ سنينْ!.
لم أكنْ أعرفُ أنَّ الضحكَ يحتاجُ لترخيصِ الحكومهْ..
ورسومٍ وطوابعْ
لمْ أكنْ أعرف شيئاً..
عن غسيلِ المُخِّ
أو فرمِ الأصابعْ!.
لا الأوراق تكفي ولا الأوقات تفي للحديث عن شعر نزار والأهمّ عن “الفكر في شعر نزار”، فمع كلّ هذه الجداول العذبة التي تدفّقت من رقّة الإحساس ودقّة الصنعة، كانت تنهمر من فضاءات راقية سامية أمطار نزار الشعرية بكلّ أشكالها منذ الرذاذ إلى الغيث وحتّى الوابل، فتبلّل الوجوه الناعسة وتسقي القلوب اليابسة وتضرب الضمائر البائسة، فاستمرّ وظلَّ نزار صاحب الجداول والأمطار، وإن غاب:
سأظلُّ أحترفُ المحبّةَ مثلَ كلِّ الأنبياءْ
وأظلُّ أحترفُ الطفولةَ والبراءةَ والنقاءْ
وأنا وأرجو أنْ أظلَّ كما أنا..
طفلاً يُخربشُ فوقَ حيطانِ النجومِ كما يشاءْ
حتّى يصيرَ الحبُّ في وطني بمرتبةِ الهواءْ.
مرّت سنين وسنين من المشاغل والمشاكل والأنواء، ومضى معها ما مضى من العمر وشعر “نزار” الأخّاذ اللمّاح بعيد عن البال غائب عن الخاطر، حتّى عاودتُ إليه أو أعادني عدد مجلّة ” العربي القديم” الأخير الذي اختصّ بالحديث عن “نزار قبّاني” في ذكرى ميلاده المائة، شعره وحياته وما بينهما ممّا ملأ وشغل قرّاءه ومحبّيه، وبدا لي أنّني لستُ من ندرة القوم الذين يتذكّرون أشياءهم وأحوالهم الجميلة وإن مرّ الزمان، وكان ما قرأته في هذا العدد الجميل من هذه المجلّة الفريدة في غاية الدقّة والتركيز والتنوّع والتمحيص، مثلما ينبغي للصحافة المسؤولة المحترمة أن تكون، وإن منعني عن الكتابة حول نزار في نفس العدد الصادر عنه عدم درايتي بذلك قبلاً، لكنّني قد أستدرك الآن، وعلى روح نزار ولشعره السلام.
_____________________________________________
من مقالات العدد السابع من مجلة (العربي القديم) كانون الثاني/ يناير 2024