أرشيف المجلة الشهرية

ابن محافظة إدلب الذي سجن 27 عاماً: خالد سليمان.. الشاهد الوحيد على مجزرة سجن تدمر

بقلم: حسن النيفي

كان يمكن لأبي مدين (خالد عقلة سليمان) أن يكون مجرّد خبر، يقبع في ذاكرة عدد محدود من عائلته أو ذويه، وحصراً في ذاكرة زوجته، وولده الوحيد الذي لم يتجاوز عمره ثلاثة أشهر، حين اعتُقل أبوه في (22 إيلول 1977)، ولكن يبدو أن القدر كان له وجهةٌ أخرى جعلت من أبي مدين حكايةً كلّما دثّرها الإهمال والنسيان، تبعثها يقظة الضمير لدى مَن لم يتبق لهم مكان في هذا الوجود، سوى في حيّز الضمير ذاته.

التقيتُه في أحد مهاجع سجن تدمر الصحراوي في خريف 1998، وذلك على إثر حركة تنقلات، ودمج بين المهاجع، كانت تقوم بها إدارة السجن كل بضع سنوات، وكان قد أمضى آنذاك في السجن واحداً وعشرين عاماً، ثم علمت في ما بعد أنه كان، ضمن الدفعة الأولى من السجناء الذين دشّنوا سجن تدمر في شهر نيسان عام 1980، حين ساقهم فرع أمن الدولة من سجنه الكائن في منطقة كفر سوسة بدمشق إلى سجن تدمر، ثم علمتُ أيضاً منذ الساعات الأولى للقائه، بأنه كان أحد الناجين من مجزرة تدمر التي نفّذتها سرايا الدفاع التي أسسها، وقادها رفعت الأسد، ليلة السابع والعشرين من حزيران عام 1980، وأسفرت عن مقتل أكثر من (800) سجين، تم دفنهم في مقبرة جماعية تُدعى (وادي عويطة) في صحراء تدمر.

ولم أُخفِ استغرابي – حينها – من بعض أطوار هذا الرجل، فهو من القلائل الذين ليسوا من عداد الإسلاميين، باعتبار أن النسبة العظمى للمعتقلين في سجن تدمر آنذاك كانوا من تنظيم الإخوان المسلمين، أما صاحبنا فكان قوميَّ التوجّه، وقد وُجّهت له تهمة الانتماء إلى حزب البعث الموالي للعراق آنذاك، وقد سبّب له ذاك الاتهام المزيد من المصاعب، والمشاحنات الناتجة عن عدم التجانس بينه وبين أقرانه من السجناء، وقد زاد من وتيرة تلك المصاعب طبعه الرافض للمجاملات والمسايرات، مهما كانت النتائج، فضلاً عن ثقته الزائدة واعتداده بنفسه، ونزوعه الشديد نحو التحلّي برباطة الجأش وعدم الانكسار، حتى في أشد لحظات السجن قسوة ووحشيةً، إلى درجة أنه حين كان يروي لنا التفاصيل الدقيقة للمجزرة المشار إليها، وكيف نجا هو، ومجموعة من زملائه من الموت، كان يروي كل تلك التفاصيل بدرجة من التجرّد والموضوعية، بعيداً عن الانفعالات، وكأنه يروي قصةً باتت في ذمة التاريخ فحسب، ولم تترك في كيانه ذاك الأثر المُتوقّع، في حين كانت قلوبنا – نحن المتحلّقين حوله، والمستمعين إليه – تعلو وتهبط مع سيرورة الحكاية وتفاصيلها.

 لم يكن خالد سليمان من أصحاب الشهادات العليا، ولكنه كان أرشيفاً دقيقاً للسياسة السورية، منذ عهد الاستقلال، كما كانت ذاكرته تحفظ بدقة عالية مجمل النشاط الحزبي، والصراعات الاجتماعية والسياسية في سوريا، فضلاً عن نباهة وتوقّد في الذهن عاليين، ويمكن الذهاب إلى أن بنيته الذهنية كانت مُستَلهمَةً من تربيته البدوية بجانبها الفطري والنقي، ممزوجةً بنزوع وطني فيه الكثير من العفوية والشفافية، ولعلّ هذه السمات جعلته ذا مزاج شديد الصرامة، لا يؤْثر المجاملات، ولا يميل إلى المناورة في علاقاته وبناء مواقفه، أضف إلى ذلك العفّة، ونزاهة النفس اللتين جعلتاه يعتقد أن الهوية السياسية للمرء، أيّاً كان، لا يمكن فصلها عن المعين الأخلاقي الذي يبقى هو الموجّه الحقيقي للسلوك البشري.

مساء العاشر من حزيران عام (2000)، ولد شعور لدى سجناء تدمر كافة، بأن ثمة فرصةً أخرى للحياة، يمكن أن تتحقق خارج السجن، بل لعلها الفرصة الوحيدة، وأعني بذلك موت حافظ الأسد، وساد الاعتقاد لدى الجميع، بأن الرئيس الجديد للبلاد لا شك أنه سيصدر قراراً بالإفراج عن المعتقلين كافةً، وخاصة أمثال أبي مدين الذين كان القاضي اللواء (سليمان الخطيب) رئيس المحكمة الميدانية آنذاك، قد أصدر بحقهم حكماً بالسجن المؤبّد، ولكن ذاك التفاؤل قد انقلب إلى شعور شديد بالإحباط، حين اكتفى الأسد (الابن) بالإفراج عن (600) معتقل فحسب، صبيحة السادس عشر من تشرين الثاني عام 2000، في ذكرى الحركة التصحيحية، ولكن الحاكم الجديد استدرك قراره بقرار آخر، وهو إفراغ سجنَيْ (المزة العسكري، وسجن تدمر)، وجَمْع كل المعتقلين في سجن صيدنايا، وتجدّد الشعور بالانتعاش لدى السجناء جميعاً؛ لأن مجرّد الخلاص من سجن تدمر يعني الخروج من الجحيم، فضلاً عن أن سجن صيدنايا آنذاك، كان بمنزلة فندق للسياحة والاستجمام، قياساً إلى سجن تدمر. وهكذا في مساء (11 آب 2001) كنّا من ضمن آخر شحنة من السجناء مؤلفة من ثمانين سجيناً تغادر سجن تدمر باتجاه صيدنايا، وكان من ضمن هذه المجموعة أبو مدين الذي همس بأذني – حين أقلعت الحافلة – قائلاً: لقد كنتُ ضمن الدفعة الأولى من المعتقلين الذين دشنوا سجن تدمر عام، وها أنا ضمن آخر دفعة تغادره، بعد مكوثي فيه مدة (21 عاماً).

في سجن صيدنايا لازمتُ صديقي أبا مدين ثلاثة أشهر فقط، لأنني – آنذاك – كنت قد أتممتُ خمسة عشر عاماً في  السجن (من 9 – 11 – 1986 – إلى 11 – 11 – 2001)، وهي مدّة الحكم الذي أصدرته بحقي محكمة أمن الدولة العليا الاستثنائية بدمشق.

بعد خروجي من السجن بيومين فقط، اتجهتُ من مدينتي (منبج) شرقي حلب، إلى ريف معرة النعمان الشرقي، وتحديداً قرية (خيارة) قاصداً بيت صديقي أبي مدين؛ للقاء أسرته المؤلفة من زوجته وابنه الوحيد، وبعد استدلالي إلى بيته، (وتلك قصة أخرى فيها الكثير من المفارقات، وتحتاج إلى وقفة مستقلة)، كنت بمواجهة زوجته على باب المنزل، كانت امرأة خمسينية، ترك الحزن على مياسم وجهها طابعاً لا يمكن إخفاؤه، وكان واضحاً أنها تستعير تماسكها، ورباطة جأشها من كبريائها، ونضارة وجعها فحسب، وبادرتني بالقول (بعد إلقاء التحية عليها): أهلاً وسهلاً أخوي تفضل، (وذلك جرْياً على عادات أهل الريف)، كانت وحيدة في المنزل، بادرتها بالحديث فوراً، وأخبرتها أني خارج من السجن قبل يومين، وأحمل معي تفاصيل عن زوجها، وأنه بخير، وبإمكانها أن تزوره في سجن صيدنايا، بعد حصولها على الموافقة من قيادة الشرطة العسكرية في دمشق – حي القابون، وأسهبت بالحديث عن تفاصيل أخرى، إلّا أنني فوجئتُ إلى حدّ الذهول، حين أحسستُ أن السيدة التي أحدّثها لا تكترث بكلامي بالمطلق، بل تكتفي بالاستماع، من باب المجاملة فقط، في إيحاء منها بأنها لا تصدّق مجمل ما أحدثها به، ويا له من حرج كبير بالنسبة إليّ!

علمت في ما بعد أن موقفها هذا نابع من يقينها، بأن زوجها قد قُتل في مجزرة تدمر، هكذا وردهم الخبر، وعلى إثره، قام أهله بإقامة عزاء له في القرية، وانتهى خبره بقراءة الفاتحة على روحه، ومنذ ذلك الحين عانت زوجته معاناة كبيرة من كثرة المحتالين واللصوص، من مخابرات السلطة الذين يحملون إليها أخبار زوجها؛ بقصد الابتزاز المالي والاحتيال، وبالطبع، لن أكون إلّا واحداً من هؤلاء من وجهة نظرها في تلك اللحظة توقفتُ عن الكلام لبضع دقائق، في موقف لا أُحسد عليه، أفكّر في كيفية الخروج من هذا المأزق، وراح لساني يلهج بقصص، وتفاصيل دقيقة عن حياة صديقي أبي مدين، كان قد حدّثني عنها طويلاً في السجن، وتطال تلك التفاصيل خصوصيات دقيقة عن عائلته، وخاصة قصة حبه لزوجته، والمشاكل التي أفضى بها هذا الزواج مع أقاربه، وتفاصيل أخرى عن حياته، لعله من العسير أن يعرف بها سوى زوجها حصراً، وبينما أنا أسرد بحالة من الاستسلام الموجع، قاطعتني بصرخةٍ وصل صداها إلى أقاصي القرية صائحةً: (يا ابني يا مدين، تعال، أبوك عايش، تعال، وينك)، على الفور خرج من الغرفة المجاورة شاب تجاوز العشرينيات من عمره، بثياب النوم، وهو يفرك عينيه، طويل القامة، أبيض البشرة، شديد الشبه بأبيه، رمى نفسه عليّ معانقاً، وكأنه يعانق أباه الذي كان يسمع به فقط، دون أن يراه.

حين انطلقت الثورة السورية في آذار 2011، كان أبو مدين منخرطاً، مع أحفاده الشباب في المجالس المحلية، والهيئات المدنية للثورة، وقد جعل منزله مقرّاً للإعلاميين، والناشطين المدنيين الذين يتوافدون إلى منطقته، وكانت الهيئات المدنية بدورها تحرص على تواجده، ضمن صفوفها في مواجهة تجاوز الفصائل العسكرية، والجماعات المتطرفة على عملها؛ نظراً لاعتباره الأخلاقي والاجتماعي، وكذلك نظراً لنفوذه العشائري الذي يحدّ من تجاوز الجماعات العسكرية على الناشطين.

في عام 2018 نزح أبو مدين مع أهالي قريته إلى منطقة سرمدا، بعد توغّل قوات النظام واحتلالها لمنطقته، وبعد فرض جبهة النصرة سيطرتها على إدلب، نزح أبو مدين مرّةً أخرى إلى مدينة عفرين، حيث يقيم إلى الآن في مخيم النازحين. الامتياز الوحيد الذي حازه في المخيم هو حصوله على (كرفانة)، أي غرفة مسبقة الصنع، أهدتها له إحدى المنظمات الإنسانية، وحين التقيت به في آذار عام 2020، أثناء زيارة لي إلى عفرين، استضافني في خيمته مع أفراد أسرته، وحين سألته عن الكرفانة، ولمَ لا يسكن فيها، أجابني: “موعيب عليّ أسكن بكرفانة، وباقي الناس تسكن الخيام الممزقة”، وأبلغني أنه جعل من تلك الكرفانة مضافة عامة ومشتركة لجميع أهالي المخيم، ولكنه علّق بالقول مازحاً: “مضافة خلّبية أخوي، ما فيها لا قهوة مرة ولا حلوة”.

ما دعاني للكتابة عن هذا الرجل، وبتلك الطريقة هو يقيني بأن إنصاف المرء، وهو على قيد الحياة، أجدى وأنفع له من الحديث عنه بعد الموت، وكذلك ليقيني لو أن هذا الرجل كان ذا عباءة (يسراوية)، بتعبير ياسين الحافظ، لجعل منه اليسراويون غيفارا عصره، ولو كان ذا عباءة إسلاموية، لجعل منه الإسلامويون سيد قطب جديداً، ولكنه كان مواطناً سورياً طيباً، ومناضلاً وطنياً مخلصاً فحسب، ولعل في حياة أبي مدين الكثير، مما يجب على السوريين عموماً أن يعرفوه، ولكن هذا يحتاج إلى حيّز آخر يتجاوز حيّز هذه المقالة.

بقي القول: إن الصديق خالد سليمان خرج من سجن صيدنايا بتاريخ 18 تموز عام 2004، ويكون بذلك قد أمضى في السجن (27 عاماً)، علماً أنه من مواليد 1944، ولعله الآن هو الشاهد الحيّ الوحيد الناجي من مجزرة رفعت الأسد في تدمر عام 1980، وما يزال يكابد مرارة النزوح مع أقرانه السوريين إلى هذه اللحظة.

__________________________________________

من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024

زر الذهاب إلى الأعلى