الرأي العام

تفاصيل | أم علي الشهابي تتظاهر أمام قصر حافظ الأسد

بقلم: غسان المفلح.

*إلى علي الشهابي (1) المغيب في سجون الأسدية منذ 17 – كانون الأول/ ديسمبر 2012.*

هذه الزاوية خاصة وأتت قبل موعدها ربما؛ لأن لعلي الشهابي وسمعته كمناضل يساري ضد الأسدية، كانت حاضرة لدينا نحن الذين في نهاية المرحلة الثانوية في المخيم والتضامن، انخرطنا في العمل السياسي. التقيت بعلي في معهده بالمخيم بعد خروجي من المعتقل 1999.
التقيته مرتين في المعهد نفسه. الانطباع الأول أنه لايزال مصراً على الاستمرار في مسيرته المعارضة. تناقشنا حول كتيّبه “البنية الجديدة للعالم” الذي وصلنا إلى سجن صيدنايا وقرأته هناك. كتبت عن علي سابقاً عدة مرات، لكن في هذه الزاوية سأكتب عن أم علي، وعن أمي قليلاً. المناسبة هو اللقاء المصور الذي أجراه الأستاذ مروان محمد مع الصديقة غادة الشهابي أخت علي التي حاولت بالمقابلة أن تُظهر علي الإنسان خارج المعتقل. حول معاناة أهل المعتقل وحديثهم عن حياته في الخارج، كما عرفوه عن قرب قبل اعتقاله من قبل عصابة الأسد.
كما سمعت عن علي في ذلك الزمن سمعت عن أمه. أم علي كانت أماً مثلها مثل بقية أمهات المعتقلين تعيش عذاباتها وخوفها على ابنها بصمت، وربما بصراخ يسمع أو لا يسمع. هذه المعاناة غالباً الأمهات لا تريد نقلها كاملة لأبنائها وبناتها. سأروي ثلاثة حوادث عن أم علي. أكتب الآن عن أم عاشت حياتها، وهي تتابع علي في اعتقالاته الكثيرة، وهروبه المتكرر من المخابرات. علي الذي اعتقل ثلاث مرات ولايزال مغيباً منذ عام 2012.
في فترة السبعينيات كانت المخابرات تداهم بيتهم؛ من أجل اعتقال علي، عندما لا يجدونه في البيت كانوا ينتظرونه في الطرف الآخر من الشارع، كانت أم علي تحبو على درج بيتها؛ كي لا يراها المخابرات على سطحه، كي تصل إلى مكان تستطيع من خلاله الوقوف وانتظار علي؛ لكي تحذره دون أن يراها المخابرات. يومياً كانت تحبو بجسدها على الدرج كي تصل هناك. تبقى مطلة برأسها فقط وهي تجلس القرفصاء، كانت تضطر أحياناً أن تبقى هكذا لساعات، تحت المطر والبرد، وفي عتم الليل. في تلك العتمة نكاد نجزم أن لا أحد يستطيع أن يتعرف على علي من بعيد إلا أمه، ولا أحد يستطيع أن يسمع ذلك الصوت بطريقة الهمس المرتفع المحذر إلا ابنها علي.
أم علي ليست فقط أماً تعاني، بل أماً شرسة في الدفاع عن ابنها المعتقل ورفاقه. فهي تقريباً قادت تجمعات أمهاتنا أمام القصر الجمهوري في دمشق مطالبة حافظ الأسد بإطلاق سراحنا. تكررت التظاهرات ثلاث مرات، وأم علي موجودة، وأمي معها في المرة الثالثة. في التجمع الثاني كان يقف بضعة رجال يشاهدون ما يحدث، فهذه نادرة أن تتجمع نسوة أمام قصر المقبور. سأل أحدهم: “من هؤلاء النسوة وشو قصتهم؟” فرد عليه آخر: “هؤلاء سيدي أولادهم محبوسين أبصر شو عاملين؟”. سمعتهم أم علي، عادت له واقتربت منه قائلة:

“يا خالتي يا حبيبي احنا ولادنا كلهم شباب مثقفين ومتعلمين أقل واحد فيهم ابني معه ليسانس أدب إنكليزي، إحنا ولادنا مش محبوسين، المحبوسين بتقولها للي سرق للي قتل للي ارتشى، احنا ولادنا اسمهم معتقلين سياسيين، كل شي عملوه حملوا قلم”.
عندما قررت أمهاتنا الخروج في التظاهرة، والتجمع أمام القصر، جاء أحد الرفاق في حزبنا حزب العمل الشيوعي، وقابل أم علي، واقترح عليها أن تحمل أمهاتنا لافتات تطالب بإطلاق سراح المعتقلين، ومطالب أخرى تخص هذا الأمر. فكان جواب أم علي التالي: “يا ابني نحن فقط أمهات، ونحن حتى لا نقبل أن تخرج معنا بناتنا، فإذا حملنا لافتات ستقول المخابرات إن هنالك جهة تقف خلفنا ونحن لا نريد”. هذه أم علي أيضاً.
هنالك مفارقات محزنة، في اعتقال علي الأول نهاية عام 1974 اعتقل معه خاله بالتهمة نفسها، صارت مصيبة أم علي مصيبتين، ابنها الذي تحبه بجنون وأخيها (2) أمها تذهب لفرع، وابنتها تذهب لفرع، للسؤال عن ابنها ومحاولة زيارته.
أم علي كانت تعيش يومياتها بالحزن والبكاء أحياناً أثناء اعتقال علي، لكنها تتحول إلى امرأة قوية عندما يأتي وقت زيارة علي في السجن. كبقية أمهات المعتقلين. ما يجمع أم علي مع أم غسان أن طلبات علي مهما كانت لها الأولوية، لدرجة أن أخي قال لي: قبل الزيارة يستنفر البيت وجميعنا واقفون على رجل واحدة؛ لتجهيز ما يلزم لزيارتك. هكذا كانت أم علي وهكذا كانت أمي.

قبل ذلك بعدما خرجت من السجن قالت لي أختي: “يا خوي عندما كنت في السجن كانت أمي تجلس بالقرب من شجرة الليمون في باحة دارنا بالقرية، أميت بدي أشوف غسان فايت من باب الدار؟”. يذكر رفاقي مرة عندما أنزلونا من سجن صيدنايا إلى محكمة أمن الدولة في عين الكرش لمحاكمتنا كإرهابيين!! كان الطقس صيفاً في دمشق، وقبل بدء الجلسة رأيتها أمام باب قاعة المحكمة محاطة ببعض رفيقاتنا، ومنهن سميرة خليل، وفاطمة خليل وغيرهن. الحزن على وجهها كاد يقتلني، لكنني ابتسمت لها. عندما سمح لها القاضي بالدخول حضنتني، ولم تذرف دمعة واحدة، لكن في حر الصيف أنا من النوع الذي يتعرق وجهه، وهي تقوم بمسح عرقي براحة يدها، لكن هذا يزيد العرق، كان الرفيق أصلان عبد الكريم يقف بعيداً عنا خطوتين ويراقبنا مع أهالينا، فخطر ببالي تغيير الجو، وأن أرتاح من العرق هههه، فقلت لها مشيراً إلى أصلان: هذا هو السبب في ما نحن فيه هههه. ابتسم أصلان دون أن يعلق. فما كان من أمي إلا أن قالت لي: “يلعن أبو يلي خلفوك دشر الزلمة بحاله ههههه”.

سأعود في زوايا قادمة لمعاناتك أم غسان عندما كنت معتقلاً.
الله يرحم أم علي وأمي، وكل الصحة والعافية لأمهات المعتقلين جميعهم، وهن في سورية على أقل تقدير مئات الآلاف، وربما أكثر، ملايين دون مبالغة في ظل هذا النظام المجرم.
____________________________________

هوامش
(1) علي الشهابي:
 كاتب وناشط سياسي فلسطيني ولد في العام 1955، مدرس لغة إنكليزية متقاعد، عمل بالتدريس لصالح منظمة الأونروا، وكان له معهد خاص بالتدريس في مخيم فلسطين باسم معهد الخيام، اعتقل أواسط شهر ديسمبر من العام 2012، من قبل فرع فلسطين العسكري، ولا يعرف عنه شيء منذ اعتقاله، ما يثير المخاوف على حياته، وكان الشهابي قد اعتقل في العام 1975، وأمضى في المعتقل حوالي العام، ثم اعتقل مرة ثانية في العام 1982، بتهمة الانتماء لحزب العمل الشيوعي، رغم أنه كان قد ترك الحزب، بعد خروجه من السجن في العام 1991، أصدر كتابه الأول في العام 1992، بعنوان ”البنية الجديدة للعالم”، وكتابه الثاني ”سوريا إلى أين؟” في العام 2005، كما نشر عشرات المقالات والدراسات. واعتقل للمرة الثالثة حين تم استدعاؤه من قبل أمن الدولة في دمشق في العام 2006، حينها تعرض للضرب والإهانة والتعذيب بكافة أشكاله، وبعد شهرين تم تحويله إلى القضاء، بتهمة تأسيس حزب مناهض للدولة، والتوقيع على إعلان بيروت – دمشق.
(2) في نهاية عام 1974..

 (3) بوست من صفحة زوجتي الفيسبوكية كندا الشهابي:
“طرقت ستي كل أبواب الأفرع الأمنية لتأتي بخبر عن ابنها المعتقل.. وبعد عناء ومشقة علمت أي باب هو.. أيام وأيام، وهي تذهب من الصباح الباكر علّها تحظى بزيارته، أو حتى خبر عنه لكن عبث. ذلك الحارس دائماً يخبرها إنها لا تستطيع الدخول، وإنه غير مسموح لها، وبعد أن طالها التعب واليأس، حمّلت ذلك العسكري والتي لا تعلم أنه حتى هو لا يستطيع الدخول رسالة ينقلها إلى المسؤول متأملة أن يرقّ قلبه قالت فيها:
ثلاث غزلان يرعو قش يابس
ولولج بالدمع والريق يابس
قولوا لعلي دوبا فكّاك المحابيس
يفك شبيب ما يطيق العذاب
بكت ستي وبكى معها ذلك الشاب، وهو يقبل جبينها..
عادت إلى ذلك الباب في اليوم التالي، ورجعت بقلب ملؤه القهر والدموع..
لا أعلم كم من الأيام قضت ستي صيفاً وشتاء، وهي تنام على الحصيرة فقط رافضة أي شيء تحتها يقي جسدها النحيل صلابة الأرض وبرودتها، لتعلن تضامنها مع ابنها، بعد أن أيقنت أن ذلك اللا إنسان الذي يحجب أماً عن ابنها لن يكون رحيماً، بحيث يقدم له فراشاً..
ااااااااه يا قهر الأمهات..”

زر الذهاب إلى الأعلى