البندول والصراعات: تعبيرات إنسانية شتى
م. آمال عبد الصمد
ما هو البندول؟ كرة معلقة بخيط تتأرجح جيئة وذهاباً.
ومن هذه الحركة المستمرة استُخلص مصطلح البندول الفكري أو الطاقي.
فالبندول الفكري اسم يُطلق على أثر كل جدال مستمر، أو صراع فكري تخوضه، وتعيده في عقلك بلا توقف، أي أنه مكون غير مادي، لا يظهر للعيان، ولكن أثره واضح على الأشخاص الذين يدخلون في مجاله.
فعندما ينشأ أي اتجاه فكري، أو صراع طويل الأمد على أرض الواقع (كالقضية الفلسطينية مثلاً) . يتشكل بمحاذاته ما يُسمى “البندول” الذي يتكون من مجموع طاقات، وأفكار الأشخاص الذين يتبعون هذا الاتجاه الفكري، أو ممن يركزون عليه في حياتهم.
والأمثلة هنا كثيرة كالتعصب لقومية ما، أو احتقار طائفة معينة. بندول المرأة والرجل، الموالاة والمعارضة، العنف والسلام.
محور صراع متكرر
باختصار، أية فكرة تتحول إلى محور اهتمام شديد ونقاش، أو صراع متكرر يمكن تسميتها بندولات، وهذه البندولات تتغذى من الصراعات والتكرار، حتى تتضخم وتجر أصحابها إلى مجهول قد لا يرضيهم.
والأهم أن رفض الفكرة له نفس قوة تأييدها، فكل منهما يمنحها القوة ويعيدها إلى الحضور بقوة في المحيط، كما نلاحظ في كل (ترند) يملأ مواقع التواصل الاجتماعي
ولكي نفهم الفكرة أكثر لدينا المثل الشعبي المعروف:
قل لي من تصاحب أقل لك من أنت.
فلو كنت تراقب نفسك ستجد أنك شخص مختلف بين مجموعة وأخرى، فأنت بين مثقفي الفكر مثلاً تتحدث بطريقة مختلفة عن حديثك مع التجار، ولا تشبه ربات البيوت أو الفنانين. أنت أنت ولكنك لا تتصرف بطريقة مماثلة، فلدى كل مجموعة عدوى ما ستصيبك بها عندما تقترب منها.
وأقرب فكرة لتأثير البندول هي المشادات الكلامية، فعندما تشهد عراكاً ما وتنفعل معه، قد تجد نفسك بعد قليل تصرخ، أو تتحدث كلمات نابية أو حتى تضرب؛ بسبب تأثرك بطاقة الصراع التي وضعت نفسك فيها.
يجر الجموع إلى أفكار أخرى
إذاً، إن تركيزك القوي على فكرة ما (من حيث القبول أو الرفض)، ونسب نفسك إلى جماعة مع هذه الفكرة قد يجعلك جزءاً من المساهمة بالأذى والتخريب، من حيث لا تدري، فمشكلة البندول أنه قد يجر المجموع إلى أفكار أخرى، أو تصرفات قد لا يوافقون عليها بالضرورة، ولكن تأثرهم بالفكرة والتحيز القوي معها أو ضدها يجعلهم منجرفين مع الأمر متأثرين بطاقة هذا البندول شاؤوا ذلك أم أبوا.
فالبندول يتشكل مع الفكرة أو الصراع، ثم يصبح طاقة لها قوة من مجموعة أفكار، ونوايا ومبادئ، وقيم الأشخاص المتصارعين مجتمعين، ويكون في البداية تحت السيطرة، ولكن أثره يكبر ويزداد كلما زاد عدد المتفاعلين بقوة مع الفكرة، حتى يتضخم ويصبح خارج السيطرة، بحيث يبلغ أثره القدرة على تغيير الوعي الجمعي، فقد يشمل لاحقاً من هم خارج هذا الصراع لمجرد كونهم في المكان ذاته.
وحتى لو كانت الفكرة المصاحبة للبندول خيّرة في البداية، ولكن الناتج النهائي غير مضمون بالاتجاه الذي تريده؛ لأن الجو مشبع بأفكار الشر والحروب والدمار، فلا يمكنك ضمان نتائج هذه الدوامة.
اللهم إلا إذا كنت تملك معرفة كيفيه تحريك البندولات وبرمجة الجماهير، وهو فن تتقنه قوى الظلام، وتستثمره بمهارة فائقة، ولكن دعاة السلام للأسف لم يكتسبوا بعد هذه المهارة.
الانفعال القوي تجاه فكرة
إذاً، ليست المشكلة في التأييد فقط، بل في الانفعال القوي تجاه فكرة، سواء أكان معها أو ضدها، فالرفض الشديد له الأثر نفسه؛ لأنه تركيز لها، حتى ولو كان بشكل معاكس، لأنه يساهم في تعزيز حضور البندول.
سأتحدث عن بندول غرقنا فيه لفترة طويلة في سوريا. خفّ أثره لفترة، ولكنه يظهر كل حين، وهو بندول (موالاة/ معارضة)، دخل فيه كل من كان موالياً بشدة للنظام ومن يرفضه أيضاً بشدة.
أول أثر لهذا لبندول يتجلى في التسمية المقابلة (شبيح/مندس)، فقد يكون هناك شخص ما، له موقفه مع الحكومة؛ بسبب فكرة ما مقتنع بصحتها تماماً. وهو شخص محترم في مجتمعه، وملتزم أخلاقياً، ولكن عندما يُسمّى (شبّيحاً)، فقد تصيبه لوثة من أفعال الشبّيحة عموماً، وكذلك الأمر مع آخر مثقف وأخلاقه عالية، وملتزم بمبادئه الرفيعة، ووقوفه ضد الحكومة سيسميه (مندساً)، وستندرج عليه كل أفعال المندسين الوضيعة.
الانفعال الشديد تجاه ما يحدث كغضب مبالغ فيه وتوتر وخصومات حادة، وقد يصل الأمر إلى الحقد والأذى الفعلي، فكم من مرة شهدنا دمار منزل، أو تكسير سيارة لشخص، لمجرد موقفه السياسي! وهو فعل قد توقفه العقلانية أحياناً، ولكن الذين يدخلون بهذا الصراع يصبحون متأثرين بطاقة البندول، وتسحبهم معها إلى حيث لا يريدون.
هل يعني هذا ألّا يكون لديك موقف؟
بالطبع لا، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، ولكن عندما تتخذ الموقف، تذكر أن تأخذه بشكل عقلاني، وعدم التطرف الشديد معه بانفعالاتك وتفكيرك أكثر مما يحتمل الأمر .
فالفكرة شيء، وتفاصيل الواقع شيء آخر، وأي انفعال مبالغ فيه سيستدعي رد فعل مقابل؛ ليتوازن وردّ الفعل هذا قد لا يعجبك نهائياً.
ما مشكلات البندول؟
إذاً المشكلة مع البندول:
1- إنك عندما تنفعل كثيراً مع صراع، وتدخل مجال تأثير البندول، ستدخل نفسك في مجال عنوانه العريض (صراع)،
2- بما أن الجو حولنا مشبع بشتى أنواع الصراعات، فالدخول بالبندول يعني أن تتأثر بكل أنواع الصراعات؛ لأن شعورك عندها يشبه شعور كل المتصارعين، بشتى انتماءاتهم وسيسهل اشتراكك، فيما يخوضون فربما تلتقط طاقة المتصارعين على السلاح، أو تجار المخدرات مثلاً، أو المتصارعين على المال. فهل أنت جاهز؛ لتصبح مشابهاً لسلوك هؤلاء؟
3- الأخطر أن تشترك مع أولئك الذين يشتغلون ليل نهار على برمجة الجماهير واستغلال طاقاتها، عبر إبقاء الإنسان بحالة خوف وغضب؛ ليمرروا خططهم الجهنمية، وهو أمر قد يرفض بعضهم تصديقه، ولكن بقليل من التفكر، ستجد أنه ليس مصادفة أن تنجر كل الجماهير وراء فكرة خاطئة تماماً، ومهما حدثتهم عنها لا يقتنعون؛ لأنهم عالقون في مصيدة قادة كبار يتقنون فن التلاعب بالجمهور، وإقناعه بما يريدون عبر أساليب لازالت حكراً على النخب السياسية.
والمثال الأكثر وضوحاً لبرمجة الجماهير هو بندول كورونا، فرغم أنه مرض له خطورة متوسطة قياساً بأمراض أخرى أكثر فتكاً وتكراراً كسبب للموت، قدم كورونا كرعب، لمجرد تبني جهات معينة هذا الإعلان، وشاعت فكرة الموت وعمت الأرض من أقصاها إلى أقصاها. وعندما تكون بحالة الخوف ستسهل السيطرة عليك، ويسهل جرك إلى أية فكرة أخرى، وما الحرب الأوكرانية إلا إحدى نتائجها، ولا زلنا ننحدر إلى الخوف العميم شيئاً فشيئاً.
كيف تحمي نفسك من الأثر السلبي
ما هي إذاً الطريقة الصحيحة للتعامل مع البندولات، وكيف أحمي نفسي من الأثر السلبي لها؟
بداية علينا الوعي بالبندولات التي علقنا بها ومحاولة الخروج منها بأسرع ما يمكن، وبعد الوعي بها يصبح من السهل معرفة الطريقة الصحيحة للتعامل معها.
والفكرة الثانية بسيطة ممتنعة، وهي عدم الانفعال العاطفي مع أي فكرة، سواء بالرفض الشديد أو الدعم الشديد، فكل ما في الكون له الحق بالوجود وله دوره الخاص، ورفضه هو رفض لجزء من الطبيعة.
فدمار الحرب جزء من البناء بطريقة ما، ولو كنت تكره الحرب بشدة مثلاً يصبح أثر شعورك مشابهاً لأثر المتمسك بالحرب والمستفيد منها، حتى لو كان مختلفاً بالاتجاه . لذلك لو وجدت فكرة معينة ترفضها، ولم تستطع إيقافها، بإمكانك التوقف عن التفكير فيها والابتعاد عن الحديث عنها والجدال حولها، أي إضعافها بالتجاهل فقط لأن أي فعل آخر يقويها،
أما الهم فهو الوعي بتأثير نشرات الأخبار.
إنه المصدر الثابت والمتجدد لإبقائك ضمن البندول، وربط تفكيرك به، وخاصة أنها تعتمد مبدأ التخويف، فهي تركز على أخبار العنف والموت، مما يبقيك في حالة الخوف التي تعتبر أكبر مصدر لتغذية الصراعات.
بإمكانك اتخاذ الموقف الذي تريد وتلتزم بما يتطلبه بأفعال تناسبك، وتدعم مبادئك،
أي تنفذ كل ما تريد فعله، ولكن دون الكثير من الكلام أو التفكير، ودون تفاعل عاطفي قوي، أي الإبقاء على حياد مشاعري، والاكتفاء بالفعل المناسب فقط.
وعندما لا تستطع حل مشكلة، توقف عن التفكير فيها، فالانفعال أو الكلام الذي لا يترجم بفعل لا يفيد أحداً، سوى التوتر والإرهاق، بينما يبعث الفعل على الراحة التامة.
ببساطة انتقل من طاقة التفكير العاجزة إلى طاقة الفعل المؤثرة.
ثالثاً العالم مليء بالأشياء الجميلة، كما هو مليء بالأمور المرهقة، وكل ما تركز عليه يزداد في عالمك، مهما نضبت مصادر الوفرة في عالمك ستبقى مالكاً للطبيعة حولك للأطفال الجميلين مثلاً.
يمكنك أن تستبدل متابعة نشرة الأخبار بالنظر إلى السماء عشر دقائق يومياً، فهذا كفيل بإزالة نصف همومك. ابحث عن الجمال وعن الأشياء الطيبة ستلاحظها، بدل التركيز على المعاناة والأوقات السيئة، فكل حدث مهما كان مؤلماً أو مفرحاً سيزول أثره، بعد يوم أو اثنين، وأنت من تغذيه باستمرار التفكير فيه. يمكنك أن تتخذ قراراً قوياً، بأنك ستختار الأشياء التي تضيع وقتك عليها، وماذا تفيدك أو تفيد العالم حقاً.