فنون وآداب

نصوص أدبية || طريق الهداية! (قصة قصيرة)

محمد صخر بعث

أغلقتُ المحلّ وعلّقتُ على بابه لوحةً زعمتُ فيها أنّه مغلق بهدف “الإصلاح”، والحقيقة بهدوء لا ببساطة أنّني أفلستُ تماماً، ومرّت أسابيع بل وشهور، وبفلس واحد لم أستطع بيع قطعة واحدة من بضاعتي، بل لم يرمقنا لا أنا ولا البضاعة أحد طوال تلك المدّة، لا داخل المحلّ ولا من الخارج، لا التفتت زبونة إليها أو إلينا أو دخل زبون إلى هذا المكان، وما عالجني مارٌّ بسؤال أو عاجلني عابر بتحية.

فقدتُ السيطرة على أعصابي كما فقدتُ تجارتي وأفلست، ثمّ ماذا وما عساي أفعل أصلاً؟، قرّرتُ الإغلاق.

محلّي واسع وواقع في منطقة “حيوية” من هذي البلد، منطقة مزدحمة مكتظّة بالناس، وبضاعتي جيّدة بل ممتازة ومن أفضل ما ترغب به النساء، تشكيلة واسعة من الملابس و”الإكسسوارات”، فلقد كان ذوقي رفيعاً وأصلاً أو أصلاً رفيعاً في أمرين: الانتقاء والإصغاء!.

وأمّا أنا فاسمي “خليل”، كنتُ في الأربعين حين كتبتُ هذي الحكاية، ومرّت قبلها عشرة سنوات منذ اتّخذتُ تلك الصنعة، وجرتِ الأمور بخير، حتّى وصلتُ إلى هذه الحال..

قيل لي: منع رجال البلدة زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم وأمّهاتهم وخالاتهم وعمّاتهم وبناتهنّ من دخول محلّي لأنّني “أزعر”، ثمّ قالوا: لا.. ليس لهذا السبب أبداً فأنت مشهود لك بحسن التربية والأخلاق، لكنّك لا تصلّي يا “خليل” ولا تُغلق باب محلّك وقت الصلاة، هذا فُسوق يا “خليل”!. قالوا وقيل وقللّوا من قيمتي كثيراً وأنا ساكت صامت صابر، حتّى أتى صديقي المعتوه السافل “أبو الخضير” ليواجهني بالحقيقة: أنتَ يا “خليل” لا تبيع بالطريقة المُثلى، تلزمك الدراية بأساليب التحايل والمراوغة والمساومة، النساء يلحظن جفاف المعاملة، أنت من الآخر فظّ يا “خليل”، كان ينقص أن يقول: وغليظ القلب، لكن الرسالة وصلت.. أنت جحش يا “خليل”!.

وعلى سيرة النساء، واحدةٌ من قريباتي النساء همست همساً في أذني اليسرى: يا “خليل”، واحدة من النساء زبوناتك أو غيرهنّ عاملتلك عمل، لا بدّ أن تبحث عنه، ونصحتني بالذهاب إلى “الشيخ عُلعُل”، ليفكّ العمل أو ليعطيني “حجاباً!.

احتار “خليل” -أنا يعني- ماذا يفعل أو أفعل؟، لكنّما وبكلّ تأكيد كان علينا “خليل” و”أنا” أن نعرف سبب وقف الحال كي نوقفه عند حدّه، فلقد أصبحتُ وفي محلّي مثل أمين مستودع في دائرة حكومية، لم أعد تاجراً أبداً، بضائع بالجملة مكدّسة وأنا أتفرّج فقط!، أو ليسَ ذا ظُلماً يا “عُلعُل”؟.

“الحاجّ عمران” الذي استندتُ منه مرّتين بالفائدة يرمقني باستخفاف كلّ صباح حين يلج إلى محلّه مقابل مستودعي، لا يخرج “الحاجّ” إلّا إلى الصلاة، ويبيع بضاعته وكأنّه بائع بالجملة، وسامي جاري الآخر الذي أغلقت مديرية التموين محلّه ثلاث مرّات بسبب التزوير في مواصفات الألبسة ومصدرها وأسعارها، لا يكلّ ولا يملّ من استقبال الزبونات والزبائن، محلّه صغير وأذواقه بشعة، غزالات البلدة تشتري من محلّه، وتغزل العناكب خيوطها في محلّي.  

ببساطة.. التغيير مطلوب، التغيير حاجة ملحّة، أساسية وملحّة مسألة التغيير وينبغي اتّخاذها حلّاً ومنهجاً قلتً لنفسي أنا “خليل” أو أنا و”خليل”، كلّ شيء يحتاج إلى التغيير، ولا بدّ من الإرغام، ولادي صاروا تلاتة وأمّهم إلهام!.

 سأغيّر الطعام، بل حتّى طريقة الطعام، أوقات النوم والاستيقاظ، الناس.. الأصدقاء الأقرباء والغرباء، النمط، الشكل، اللحية، الشعر، الحذاء، السلطة بفتح السين، الأشياء الأخرى بضمّ الهمزة، حتّى الكلب ابن الكلب جارنا الواطي أبو سعدة سأدوس على رأسيهما معاً، سأضع “باروكة” أيضاً وسأصنع أسلوباً جديداً في المشي والجلوس، ولن أقول لأحد “مرحبا”، بل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هكذا كاملةً، أعرفها أصلاً وأحفظها، فلِمِ لا أقدّم التحية بواسطتها لأبي سعدة الكلب ابن الكلب؟.   

الصوم والصلاة أساسيّان، وإغلاق المحلّ عند الأذان شأن مقدّس، هكذا قال “مصطفى” النجّار الذي أدين له بسبب كرسي انكسر مباشرةً عندما جلست عليه “إلهام”، “إلهام” التي لا تزن أكثر من ستّين كيلوغراماً كسرت كرسيّاً متيناً يا “خليل”، لكنّ “مصطفى” في الحقيقة لم يطالبني بشيء، أمّا “إلهام” فلقد قالت وبالحرف: هدول زبوناتك النسوان ما تعطيهن ريق حلو، ماذا يفعل “خليل”؟، “إلهام” تريد المال لكنّما بريق مرّ!، صانعي الفهمان “خيرو” كان له رأي آخر تماماً، قال: معلّم الحلّ في “التكنولوجيا” والتجديد، نغيّر “ديكور” المحلّ، نشتري حاسوباً لطيفاً ونوظّف آنسة ظريفة، وأمّا أخي الأصغر الملقّب عائلياً وأسريّاً بالمصروع، فأرشدني مباشرةً إلى تاجر من معارفه مهرّب ألبسة ومخدّرات، ثمّ وجّهتني “أم راكان” العاهرة سابقاً نحو الاهتمام ببيع حجابات الرأس للأخوات الطاهرات في البلدة، قالت: أنت أبو تفريعات وما تفريعات وكلاسين وما ستيانات، يا عيب الشوم عليك بسّ!، بالله.. ماذا يفعل أو نفعل “خليل” وأنا؟.

احترنا “خليل” وأنا ماذا نفعل، حتّى جاء “أبو رياض” مثل ملاك نازل من السماء هادفاً الهداية الموجّهة، صديق عمري هذا الملاك البريء اللطيف “أبو رياض”، مباشرةً قال لي أو لنا”: ولك يا “خليل” اتّقِ الله يجعل لك مخرجاً، ويرزقك من حيث لا تحتسب.

  • ولك يا أبو … ، صديقي العزيز يعني، ايمتى شفتني ما متّقي الله، ولك يا حقير؟.
  • يا “خليل” إنّ الناس في البلدة يحترمونك، ولكنّك لا تحترم مشاعرهم، فأنت لا تُصلّي ولا تصوم، ولا تحجّ ولا تقوم، لا تشارك الناس أحزانهم، لا تأبه بأفراحهم، لا تهتمّ بمشاكلهم، ولا تخوض في أحاديثهم. لا تنادمهم يا “خليل”، لا تصاحبهم، لا تخالطهم، لا تعاشرهم، لا تجاملهم، ولا تكترث لأحوالهم، ولا تتابع أخبارهم، وليس يخطر في بالك يوماً أن تستثمر أيّام الأعياد في التودّد والتواصل بقضاء الزيارات وصلة الأرحام.

أكّد وجهة نظري .. قلت لنفسي!.

  • يا أبا رياض .. والله ليس لديّ وقت لهذا، أنا أعلم أنني مقصّر ولكن ليس لديّ وقت، بيت وعمل وقضاء حوائج ومشاكل يومية لا تنتهي، لا تكاد ساعات اليوم تكفي لمنادمة إلهام خمس دقائق، وتريدني أن أصاحب وأخالط وأعاشر وأجامل؟. صار لي أسبوع أريد أخذ “إبراهيم” إلى الحديقة فلا أجد وقتاً، إجازة السَوق منتهية، نحتاج الكثير من الأغراض في المنزل، اعتذرتُ عن استقبال أختي مرّتين، لم أحضر عزاء بيت الفلونجي، تأخّرت في لقاح الصغيرة، لم أشتر البازلاء والفول ماذا أقول؟، فقدتُ حصّتي من المازوت لأنّني لم أستطع الذهاب طيلة أشهر من أجل إحضار الشيكات، لا أدفع فواتير الهواتف إلا غصباً عني حين يقطعون الخطوط، لم أتغدّى مع إلهام وأولادها الثلاثة منذ أيّام، الوقت ليس كافياً يا أبا رياض ، عن أيّة صلة رحم وزيارات تتحدّث؟، ثمّ ما علاقة الصلاة والصوم بحالي يا سافل؟.
  • أنا واحد من الناس الذين يفضّلون أن تدخل ابنته للشراء من دكّان “الحاج عمران” على أن تدخل إلى دكانك.
  • أُف، ماذا تقول يا أبا رياض .. لماذا؟.
  • أقصد لو أنّني لا أعرفك جيّداً.  
  • ولكنّك تعرفني، وتعرف أنّك أنت من توسّطت لاقتراض المال من “عمران” الزفت العام الماضي ، وتعرف كم قبض دينته، وتعرف.. .
  • حسناً حسناً، أنا أعرف ولكن الناس لا يعرفون، والناس لهم بالظاهر والمظاهر يا “خليل”، هل أخبرت زوجتك بالمائة ألف التي منحتَها لمركز الأطفال؟، فضح الدنيا عمران الهرّ بالخمسة آلاف التي تبرّع بها لترميم سقيفة الجامع، وتقول لي لا علاقة للصلاة بالعمل؟.
  • ما علاقة زوجتي بالمائة ألف يا صديقي؟ وما علاقتي بسقيفة الجامع رمّمها عمران أم هدمها؟، أتريدني أن أتبرّع للجامع؟، الحكومة تبنيه وترمّمه أو تهدّه وتستبدله بواحد جديد مزخرف أو مشغول بماء الذهب، مالي أنا بالتبرّع للجوامع؟، أنت تذكر لماذا تبرّعت بهذا المبلغ؟، ذلك الطفل أبكى “إبراهيم” أسبوعاً من إشفاقه عليه، إبراهيم سألني يومها: (لماذا يا بابا لم أُخلَق مشلولاً؟)، سألني السؤال معكوساً يا أبا الروض! ، عادةً يسألون: لماذا خُلق فلان على هذه الشاكلة؟، تبرّعت بالمبلغ “فدوى” لإبراهيم، قل ما شئت، وإيّاك أن يعلم أحد بهذا الأمر، فقد انتهى في حينه.
  • يا أبا إبراهيم .. أنت ما في منك والله، ولكنّني أريدك أن تنتبه، فالناس الذين لا يعرفونك على حقيقتك يظنّونك واحداً مختلفاً، أنت لا تُصلّي ولا تصوم، وتصعد يوم الخميس إلى المنزل في الوقت الذي ينزل فيه الآخرون إلى الصلاة، الناس كلّهم يعرفون عنك هذه الأشياء، ولا تعرف “إلهام” عنك سوى جنونك وهذا الضياع!.
  • أتريدني أن أنافق يا محمّد.. يا أبا رياض؟.
  • لا تسمه نفاقاً، أسمه ارتجاعاً إلى الله..
  • وهل تجدني ” غير مرتجع ” إلى الله يا كلب؟.  
  • لك العمى اضّربك .. ولك جرّب، ما بتخسر شي..
  • وقناعاتي؟
  • يقنعك أبو ملعون.. روح علّق قناعاتك على باب الدكّان لنشوف..

أشبعني بهدلة وتوبيخاً وانصرف، وبقيتُ ساعةً أنظر نحو غرفة الملابس التي خصّصتُها كي يضع “أبو معروف” بسطته عندما يريد العودة إلى منزله، هذه الغرفة ما وطأتها قدم أنثى منذ شهرين، هل ستعود البنات لتجريب الملابس فيها إن ضلّيت أو صلّيت؟.  

في المساء، مساء اليوم الذي تحادثنا فيه بكلّ هذا اللطف والمودّة والتفاهم والاحترام “أبو رياض” و”خليل” و”أنا”، كان الطقس مُناسباً للغاية، فلم أتردّد على الإطلاق، ومضيت!.

سكرتُ سكرةً ما قبلها سكرة ولا بعدها سكرة، سكرة ما مثلها سكرة، سكرة لا تقوم قائمة بعدها ولا يمكن لها أن تفعل، فرطتُ كعنقود، بركتُ كناقة، همدتُ كصخرة غرقى في قاع سحيق، ذبلتُ حتّى اليباس، زاغ النظر، التوى الحنك، ازرقّت الشفاه، احمرّ الأنف، واسودّت الدنيا في العيون، سكرة بالألوان أنتجت على الفور اتّصالاً هاتفياً بمكتب “طريق الهدى” أو الهداية أو البشارة أو النور، لا أذكر، لكنّني حجزتُ مقعداً في الصفّ الأوّل من رحلة فجر الأربعاء أو الخميس، لا أذكر أيضاً وطبعاً، لكنّني أذكر إلى أين.. إلى “طيبة” و”أمّ القرى”، كما أذكر أنّني صرخت بعدها فوراً في وجه “إلهام” قبل أن أسقط أرضاً: لبّيك يا طريق، حيّ على الفلاح، وسقطت.

لم تكن “إلهام” عند استيقاظي قد وضّبت غرضاً واحداً من أغراضي، لكنّ النشاط والسعادة والأمل أصبحت عناوين حياتي، وخلال ساعة انطلقت، تغرغرت وتمخمضت وتعلوكت كي لا ألفظ -عفواً أنفث أنفاسي الآثمة في وجوه رفاق الطريق، وصعدتُ إلى الحافلة، سارت بأمان الله ورعايته، وصلت ببركته وحمايته، فاعتمرنا بمشيئته وإرادته، ثمّ عدنا بتوفيقه وعنايته.. إلى البلدة!.

رفضت “إلهام” بشراسة فكرة الحجاب الكامل، أوسعتُها ضرباً فغادرت إلى منزل ذويها، طلبت الطلاق لكنّني لم أطلّقها، عذّبتها في المحاكم سنوات ثلاث ثمّ أعدتُها مشكوراً مسروراً إلى “عيالها” في حلّة سوداء، ألبستُها “المانطو” و”البُرقع” وتزوّجت عليها ابنة “الحاجّ عمران”، فأنجبت لي بعد عام واحد توأم صبيان أسميتهما “عبد الرزّاق” و”عبد الغفور”.

شاركتُ حماي في التجارة، غيّرت اسم المحلّ ليصبح “الملبوسات البيضاء للمحجّبة الحسناء”، اشتريت دكّان سامي المزوّر وجعلته فرعاً للملبوسات القطنية الداخلية والخارجية البيضاء، وضعتُ أموالي في البنك الأبيض، أعطيتُ عمّي “الحاجّ عمران” جزءاً منها ليبيّضها في الأسواق البيضاء، اشتريت أربع بيوت وثلاث سيّارات كلّها بيضاء، خصّصتُ واحداً منها كي يؤويني عند الزعل أو للفرفشة، أصبحتُ أحبّ اللون الأبيض كثيراً ما أحلاه!.

غيّرتُ سقيفة الجامع كلّها، تبرّعت ببرّادي ماء وخمس سجّادات وخمسين مصحفاً، ثمّ وبمائتي ألف ليرة لترميم المأذنة، استقمتُ في الصلوات، ما انقطعتُ عن دروس الدين، عدتُ فاعتمرتُ مرّتين وحججتُ مرّة، ابتعدتُ عن رفقة السوء الذين كانوا صحبةً أيّام الضلال، وكلّما حاول الشيطان إغوائي لأتناول شيئاً من “السمّ الهاري” أتّصل بأبي رياض ليجلب لي سجائر الحشيش التي حلّلها لي الشيخ “عُلعُل” حين زرته لفكّ السحر عن ابني الجديد “عبد الرزّاق” بعد تأخّر أسنانه بالنموّ.

في خمس سنوات فقط، حقّقتُ كلّ هذا النجاح، سبحان الله يا “خليل”، يا خليل فقط.. إذ لم يبقَ سوى خليل، وانقلعت من حياته أنا.

أصبح “إبراهيم” ابن “إلهام” وابني في الحادية عشر..

ذلك المساء وجدته يبكي في غرفته وحيداً، سألته: ماذا؟. فأخبرني أنه يريد زيارة مركز الأطفال المعوقين.

ذكّرني بأمر كنتُ قد نسيته تماماً.. قلتُ لنفسي: لا بأس غدا أزور المركز وأتبرّع لهم “بخمسة آلاف ليرة” وآخذ منهم وصلاً، هكذا أصبح يفكّر “خليل”.

ذهبنا في الصباح، استقبلني المدير بحفاوة كبيرة، وبعد أن جلسنا أخبرني أنه يحتفظ بشيء ما لي منذ خمس سنوات، كان شهادة تقدير أرادوا تقديمها لي عندما تبرّعت وقتها بمائة ألف ليرة ” فدوى لإبراهيم “، ما نسيته تماماً، نعم.. نسي “خليل”، فارتبكت نيابةً عنه أنا، تذكرت أنّني كخليل أتيت اليوم لأتبرّع بخمسة آلاف نفاقاً وأريد وصلاً بها.

في هذه اللحظة نفذ صبر ابني “إبراهيم” فسأل المدير: عمّو .. أين “كرم”؟.

كرم .. الطفل المقعد الذي جاء إبراهيم لزيارته.

بتأثر بالغ أجاب المُدير: والله يا عمّو إبراهيم.. ” كرَم مات “.

زر الذهاب إلى الأعلى