عن الزاد الإنساني في الإبداع الفني: حين وصف محمود درويش الشعراء بأنهم بلا أخلاق
حسن النيفي – العربي القديم
في مقابلة قديمة مع الشاعر محمود درويش أجرتها مجلة (الجيل) الفلسطينية، ونُشرت في عدد مزدوج يعود إلى صيف 1982، أثارت إجابات الشاعر درويش حفيظة شريحة واسعة من مثقفي وأدباء وجمهور اليسار العربي والفلسطيني، وربما عدّها البعض تحوّلاً صادماً في مسيرة محمود درويش الفكرية والأدبية، وربما رأى فيها البعض الآخر ردّة فعل غير مبرأة ممّا تواجهه القضية الفلسطينية آنذاك.
وعلى الرغم من كثرة الأسئلة التي طُرحت على الشاعر فإن ما استوقف الجمهور العام أنذاك هو مضامين بعض ردود محمود درويش على بعضٍ منها، ومن أبرز تلك الردود وأكثرها استفزازاً – وفقاً لكثيرين – هي وصف محمود درويش لأكثر الشعراء العرب بأنهم (بلا أخلاق)، وفي ردّه عن سؤال آخر حول منْ مِن الشعراء المعاصرين ما يزال يحظى باحترام درويش فأجاب مؤكّداً: (عمر أبو ريشة ومحمد مهدي الجواهري)، ثم كان سؤال آخر عن مَثَله الشعري، أجاب محمود درويش: (الشاعر أحمد شوقي، وخاصة في غزلياته).
لعله من الميسور للمرء أن يقف دون عناء على بواعث الاستفزاز لدى جمهور اليسار في أجوبة محمود درويش، إذ إن مضامين الإجابة تُحيل إلى ارتداد مباغت نحو الكلاسيكية الشعرية، كما تحيل إلى انتصار مباغت لقيم الشعر التقليدي التي باتت تواجه هجوماً كاسحاً في أوساط الحداثيين في عقديْ السبعينيات والثمانينيات، ولعل المفارقة الأكثر استغراباً لدى جمهور الحداثة في تلك المقابلة هي أن محمود درويش أحد روّاد الحداثة الشعرية، وأعني بالريادة الجانب النوعي وليس السبق الزمني، وطالما حاجج الحداثيون خصومهم التقليديين بشعره وبحضوره الأدبي وحيازته على مكانة مرموقة في الوسط الثقافي جعلت منه شاعراً يدخل الآفاق العالمية من أوسع أبوابها، وبالطبع فإن ما أنجزه درويش على المستوى الإبداعي أصبح صرحاً يتلطّى خلفه معظم جمهور الحداثة في سعيه لدحر حصون الشعر التقليدي، فكيف سيكون الحال إذا وجد هذا الجمهور شيخه الذي يسير خلفه قد انقلب بالرأي منحازاً للخصم؟ لعل هذا ما دفع الكثير من شعراء ونقاد الحداثة إلى اعتبار ما جاء به درويش خذلاناً كبيراً ليس لجمهور درويش فحسب بل لقيم الحداثة الشعرية أيضاً.
واقع الحال، لست بصدد النظر فيما تضمنته ردود محمود درويش من الجانب الأدبي أو الفني، كما لست بصدد الالتحاق بالجدل الذي ما يزال مستمراً حول الأشكال الشعرية والانحياز لهذا الشكل أو ذاك، ليقيني بأن حصر مفهوم الحداثة الشعرية بالقوالب الشكلية هو تقزيم شنيع لمفهوم الإبداع، وليقيني أيضاً بأن مفهوم الحداثة في الأدب عموماً ذو صلة وثيقة بطرائق التفكير والقيمة المعرفية والبعد الإنساني في النص الأدبي، وهذه السمات لا يمكن اختزالها بشكل شعري دون آخر، ولكن أعتقد أن ما حال دون ظهور أبحاث ودراسات ناضجة بهذا الصدد، هو سطوة المنظور الإيديولوجي على معظم الحوارات الفكرية والأدبية وغياب الحس النقدي المتحرر من النزعة الإيديولوجية التي غالباً ما تكون حاجباً أو عاملاً كابحاً لأي إشعاع معرفي، فضلاً عن تغييب الثمار البحثية النفيسة التي قدّمها علم الجمال والدراسات الفلسفية والاجتماعية التي قدّمت إسهامات رائعة في رفد النقد الأدبي وتطوير الدراسات والمناهج النقدية.
ولكن الذي لا يمكن تجاهله أو تجاوزه في مقابلة الشاعر محمود درويش هو توقيتها الزماني الذي يختزل الكثير من تفسير مضامينها، فلقاء محمود درويش مع مجلة (الجيل) كان على أعقاب الحرب التي شنّها الكيان الصهيوني على بيروت في حزيران عام 1982، إذ حاصر أريل شارون بيروت حصاراً مطبقاً – جوّاً وبحراً وبرّاً – لمدة شهر كامل، وامطرها بوابل من حمم الدمار والموت على مرأى من العالم أجمع، وكما وقف العالم متفرّجاً على مقتلة السوريين تحت وابل حمم الموت الأسدية الروسية، كذلك وقف العرب والعالم آنذاك متفرجين على أطفال فلسطين وهم يواجهون الدبابات الإسرائيلية بسلاحهم الفردي الخفيف، وقد انتهت تلك الحرب بترحيل منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت إلى تونس، وذلك رضوخاً للشروط الإسرائيلية، وقد أعقب تلك الحرب تداعيات كارثية لم تكن أقل إيلاماً من الغزو الإسرائيلي، أعني مجازر صبرا وشاتيلا في إيلول من العام 1982 على يد حزب الكتائب وإسرائيل وجيش لبنان الجنوبي المتعاون مع الصهاينة، وفي شتاء عام 1983 كانت الحرب الأسدية على مخيّمي (البداوي ونهر البارد)، والتنكيل بمن تبقى من الفلسطينيين أو ممن لم يقبل بارتهان القرار الفلسطيني لنظام الأسد.
لعله من الثابت أن حصار بيروت وإبعاد المقاومة الفلسطينية عن حدود إسرائيل الشمالية والتنكيل بسكان المخيمات كان مفصلاً حاسماً ومنعطفاً خطيراً في سيرورة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل كانت كارثة لم تنحصر تداعياتها على الجانب العسكري والسياسي فحسب، بل طالت أيضاً الكثير من القناعات والتصورات والأفكار القارّة في الأذهان آنذاك، الأمر الذي دفع بالكثير من النخب الفلسطينية والعربية إلى إعادة التفكير في أسس المقاومة ومرتكزاتها الفكرية وآليات العمل السياسي، وكذلك إعادة التنقيب في العديد من الشعارات المنبثقة من العويل الإيديولوجي الذي خدع الناس طويلاً بمقولات الوحدة والتضامن والدفاع العربي المشترك، كما يمكن التأكيد على أن تلك الكارثة كانت الفاضح المُبكّر لنفاق شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية الغربية التي لم ير الفلسطينيون منها سوى دعمها للحصار الإسرائيلي أو سكوتها وتجاهلها لصوت الضمير. وعلى ضوء ذلك يمكننا فهم ردود محمود درويش على أنها لا تعكس رؤيته الأدبية أو الفنية، مجرّدةً من أبعادها الفكرية والإنسانية نتيجة الكارثة التي حلّت بشعب فلسطين، فعزوف درويش أو استهجانه لمعظم الشعراء ووصفه لهم بأن أكثرهم (بلا أخلاق) إنما انبثق من معايير أخلاقية تجسّد سلوكهم الإبداعي حيال ما جرى في بيروت، وليس حكماً بلاغيا مجرداً على نتاجهم الشعري، وكذلك إشادته ببعض رموز الشعر الكلاسيكي ربما يضمر موقفاً وجودياً من التناقض الذي تضمره الحداثة الغربية، و التي كان الموقف الغربي من حصار بيروت أحد تجلياتها.
على أية حال، سواء أصاب درويش أو أخطأ في تقييمه أو ردوده أو انحيازه لهذه الفئة من الشعراء أو تلك، فليس هذا مهمّاً بحدّ ذاته، ولكن المبدأ أو الوازع الذي دفع محمود درويش لهذه الانتفاضة بالتفكير هو الصواب بعينه، ذلك أن الشعوب العصيّة على الاندثار والذوبان، والعقول المخلصة لقضاياها العادلة تبقى مستعدّة على الدوام لتحطيم أصنامها وعدم الاستسلام والركون لسطوة الأسماء وخدر الشهرة، ويبقى معيارها الأساس منبثقاً من قضية الإنسان باعتباره محور القيم.
لا أخفي الهاجس الكامن وراء كتابة هذه المقالة الوجيزة والذي يتجسّد بشعور الكثير من السوريين بالخذلان إزاء العديد من الشعراء والنقاد والمثقفين الذين تشدّقوا طويلاً بقيم الحداثة – فكراً وأدباً وشعراً – إلى درجة أنهم أصبحوا أصحاب سلطات معرفية لا بدّ من التبرّك بأفيائها في نظر الكثيرين، ثم جاءت الثورة السورية، لا لتكشف عن هشاشة وزيف الأقنعة التي كان يتوارى خلفها الإبداع الحداثي المزيّف لهؤلاء من خلال انحيازهم لآلة القتل الأسدية ولكل ما هو قبيح ولا إنساني فحسب، بل عن قصورنا المعرفي المتمثل بطواعية انصياعنا لأصنامنا النخبوية أيضاً.