تفاصيل سورية | حافظ الأسد السجّان العام
يكتبها: غسان المفلح
السجن لدى حافظ الأسد هو عبارة عن نقل الانسان من حالة اللاعقاب المشروط بالولاء، إلى حالة العقاب الدائم حتى الممات. في تاريخ العقاب أقله القانوني، يكون الهدف من العقاب هو الإصلاح. اصلاح الفرد. بينما لدى الأسد هو إنهاء الفرد رمزيا وماديا حسب الحالة. هذا نموذج لم نشاهده في نظم ديكتاتورية أخرى. هذا النوع من العقاب موجه أساسا للجمهور السوري. درسا اسديا في قضية الولاء والبراء وكأننا أمام دين جديد. بالنسبة للأسدية حتى لو أعلنت الولاء لا يؤثر كثيرا على قرار السجان الرئيسي والعام، وهو هنا حافظ الأسد ولاحقا وريثه. ماذا يعني السجان العام؟
قبل ذلك لابد من القول إن السجّان العام يقابله مباشرة السجن العام من جهة والسجين العام من جهة أخرى. إذا كان السجن بديلا للانتقام الذي كان سائدا قبله، حيث الانتقام عبارة عن ولادة جديدة للمجرمين وليس نهاية للجريمة. الانتقام مرتبط بالسلطة الفردية قبل الولادة العسيرة لما يسمى “الدولة” و”دولة القانون” التي ما تزال البشرية في أكثريتها لا تعيش في كنف هذه الدولة التي يتم التغني بها! سورية مثلا التي لم يعرف السوريون فيها، منذ انقلاب البعث والأسدية كيف تُعاش دولة القانون هذه، خلال ستة عقود تقريباً. يوجد فيها سلطة أحادية ديكتاتورية لا تملك أية مؤسسة من مؤسسات القانون أية إرادة قانونية يمكن أن تخالف بها إرادة الأسد بوصفه ديكتاتورا.
لست بوارد الحديث عن تاريخ السجن وولادته، لكن من الضروري معرفة أن السجن الذي اخترعه المصريون، هو عبارة عن تطور في التعامل مع مفهوم الانتقام الطبيعي من الإنسان عندما يقترف ذنبا. بقي في الغالب مفهوم الانتقام مفهوما تحكمه دوافع أغلبها ذاتي. أو حتى موضوعي صرف، كأن تنتقم الطبيعة من إنسان بشكل مفاجئ لا على التعيين. كأن يخرج في عز الحر ليمشي في الصحراء مثلا.
في الحقيقة لو أردنا المضي قدما في هذا البحث عن السجان العام، فلابد من التأكيد أنه علينا العودة لكتابات المفكر السوري ياسين الحاج صالح عن السجان الأسدي العام، وقد أمضى حاج صالح ستة عشر عاما في السجن، منها عاما واحدا في تدمر. وأخص بالذكر كتابه “بالخلاص يا شباب”. ومقدمته للترجمة اليابانية للكتاب. ثم مادته الأهم برأيي والتي تحمل عنوان: ” تدمر كسياسة: عن المصنع السري للدولة الأسدية”. في هذه المادة استطاع ياسين حاج صالح أن يؤرخ لهذا السجان العام وسجنه العام أيضا. يعرفه ويبني عنه “نموذجاً نظرياً ومعرفيا” لم يتطرق إليه أحد من قبل، حسب متابعاتي لهذا الملف. يقول ياسين موضحا الهدف من مقالته هذه: ” «معنى» سجن تدمر، وتربط بين بنيته وعالم الممارسات التدمرية، وبين بنية النظام وعالم ممارساته”.
الإبادة السياسة الفكر الانتقامي الاسدي، الدرس التدمري السوري، كي نصل إلى نتيجة واحدة واضحة” السجان العام هذا هو مجزرة لاتزال مستمرة حتى كتابة هذه المادة. حيث سورية تحولت من خلاله إلى” سجن تدمر كبير”. يكتب ياسين أيضاً: “هاتان الخاصيتان المتاهية والبانوبتيكية تضعان السجناء في موقع ضائع منسحق. وهما فيما يبدو لي خاصيتان جوهريتان للدولة الأسدية: فبنيانها هي ذاتها متاهي، لا يجيد التحرك في قطاعات منه غير مالكي مفاتيح هذه القطاعات من سادة الدولة الباطنة. ومجموع أجهزة هذه الدولة المتصلة عمودياً بحافظ الأسد، دون اتصال نسقي منظم بينهما، يعطي حافظ موقعاً إشرافياً كلياً (بانوبتيكيا) حيال المجتمع السوري ككل. يراه من فوقه دون أن يكون مرئياً من قبله. إنه السجان العام في سورية المحالة إلى تدمر كبيرة، يراقب سكانها من فوقهم، يراهم ولا يرونه. وموقع «قصر الشعب»، المرتفع والمنعزل، يعطي إلماعة عن موقع السجان العام حيال سجنائه/محكوميه”. ثم يتابع ياسين بالقول” لتدمر الباطنة ثلاثة أركان. أولها الإرهاب، التعذيب والتجويع والإعدام والإذلال؛ وثانيها كونه حيز التقابل الطائفي الأكثر حدة وعدائية؛ ويحيل الركن الثالث إلى العلاقة بين الاعتقال والمال”. يشرح ياسين هذه الأركان بشكل مفصل في هذه المادة.
يمكن للقارئ الكريم العودة لهذه الكتابات وغيرها مما كتبه ياسين عن السجن والاعتقال، وخاصة مواده عن التعذيب والاختفاء القسري، و”ثقافة الخوف” كما أسماها الدكتور عبد الرزاق عيد. تبقى كتابات ياسين الحادج صالح – برأيي – هي الأهم في هذا الحقل المحدد لبنية وطبيعة وتاريخية السجان الأسدي العام، فيما يكون الأساس بالقول إنها عماد: “سورية الأسد”. هذا المصطلح الذي كانت الأسدية تعرف نفسها فيه. من باب التفاخر! ومن باب الملكية العامة والخاصة معا لهذه السورية.
هل كان يعي حافظ الأسد بوصفه سجانا عاما، ما نكتبه الآن ونفكر فيه كمهتمين سوريين وغير سوريين؟ في الحقيقة الجواب عن هذا السؤال من الصعوبة بمكان. لكننا سنحاول مقاربة الإجابة من خلال بعض القصص التي انتشرت بين السوريين، ومن خلال بعض الوقائع.
استطاعت زوجة أحد المعتقلين اليساريين، أن تصل لمقابلة حافظ اسد من أجل إطلاق سراح زوجها. استقبلها الرجل لمدة دقائق وتحدث معها بأمور أخرى لا علاقة لها بموضوع زيارتها. وختم حديثه وهي تهم بالمغادرة بالقول لها: “تزوجي غيره!”
حافظ الأسد منذ انقلابه في ت2 عام 1970 وضع قيادات السلطة السابقة في المعتقل. مع بداية التسعينيات، حاول ان يركب موجة انهيار السوفييت، فأطلق سراح بعضهم، ومنهم محمد رباح الطويل. الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية في العهد السابق. لسبب ما أرسل خلف الرجل بعد أن أطلق سراحه كي يقابله شخصيا، والجدير بالذكر يحكى أن الرجل كان صديقا للأسد منذ أيام الدراسة الثانوية في اللاذقية. عندما جاء الرجل ليقابله، عانقه حافظ الأسد فورا وقال له بعتب صفيق: وين هالغيبة يا رجل؟
سنتابع في زاويا لاحقة هذا الملف قدر الإمكان والمعلومات.. لهذا لن أعلق الآن على القصتين أعلاه.