فنون وآداب

نصوص أدبية || حلاق الشبيحة والثوار!

قصة قصيرة كتبها: صخر بعث

تلوّنت مواقف أبي أحمد “الحلّاق” بين التأييد المُطلق للنظام والرفض القاطع له،  حسب الزبون.

يعني على “حسب السوق يسوق” أو “حسب الزبون يكون..”.

“وسواس قهريّ” سببه الذات نفسها لأنه يقارن الناس بنفسه.. فيزداد خوفاً وذعراً!  وخبث ظريف يتمتّع به، فيساعده على تجاوز المواقف الحرجة بأساليبَ تبدو لطيفةً أو ليست مزعجةً ” على الأقلّ”.

مع وسواسه وخبثه هذين يقضي ساعات عمله ويدير أساليب أحاديثه وتعابير مواقفه مع الزبائن كلّ حسب “لونه”، ليس ثرثاراً كما يشتهر الحلّاقين، لكن ألسنة الزبائن – هذه الأيّام – أصبحت لا تدخل إلى حلوقهم.

حين يسقط في يده فيصبح الحديث “مُرعباً” لا يبقى أمامه سوى انتظار قدوم زبون آخر، عندها يقترب بسرعة من الزبون القديم.. وبلهفة بادية يهمس في أذنه: اقلب الصفحة..  وعندئذ يفهم الزبون المعارض أن القادم شخص خطير عليه.. أو يفهم الزبون المؤيّد أن الآتي خطَر مُحدق به.. فيتوقّف كل منهما في الحالتين عن الكلام، وتلك غاية أبي أحمد.. فالسكوت أحسن شي.

في الصباح يدخل سعد الدين.. سائق تكسي في الستّين من عمره كأبي كمال.

– ليش امبارح كانوا مطوّقين الحارة يا أبو أحمد ؟

– ليش ؟!

– يا زلمة أنا عمأسألك..

– مين ؟!

– ما بعرف مين؟  أشو رأيك ؟

– ليش ؟!

– لك ما بدّي رأيك.. عمأسأللك مين ؟

– مين ؟!

بين “ليش” و “مين” و “تَغَابي” أبي أحمد .. يتهافت الحوار ويضيع السائل بل يفرّ هرباً من هذه البلادة. البلادة التي يصطنعها أبو أحمد يل يصنعها باحتراف “أمني” تعلّمه ذات يوم أو دائماً . فما عساه يجيب على أسئلة رجل كان منذ خمسة و ثلاثين عاماً ” مُرافقاً ” لواحد من أعظم رجالات المخابرات الذين عرفتهم البلاد ؟! .

يفتح عامر صبيح الباب ويباغت أبا أحمد..

– جرّة الغاز بألفين يا أبو أحمد.

– …

– أشو شيفك سكتت..

– منيح.

– كيف يعني منيح، هاد الحكي بيرضي الله؟!

– قصدي.. منيحة.

– منيحة بمين؟

– منيحة فينا.. نحنا وصّلنا حالنا لهالمواصيل.

– كيف يعني؟

– كان الله سيترنا وميشي الحال..

– إي والله معك حقّ.. يخرب ديارن هالثوّار خربوا البلد.

هنا يتوقّف أبو أحمد عن الحوار متّخذاً أيّة ذريعة.

يتّصل بزوجته: كمان مجدّرة؟ يخرب ديارِك عديار السخّانة، أو يلقي بنفسه خارج المحلّ فيصيح  في “العبّارة” منادياً صانعه: تعا يا جحش شفلي هالجحش.. المقصّ ، وينو المقصّ ؟ يبعتلو القصّ للسينك…

هذا الزبون “مخبر” كما دوَّن “أبو أحمد” ذلك في سجلّه الأمني الخاصّ، لذلك ينبغي التعامل معه بطريقة توحي بإنزعاجه الشديد من  “الثوّار” لأنّهم دمّروا “البلد”، ولا يقتصر هذا على موضوع الغاز، فحين تنطفئ الكهرباء ويكون زبونه نفس الزبون أو زميلاً من زملائه .. لا يجد حرجاً حين يعتذر بأسلوب لطيف قائلاً: والله هالثوّار خجّلونا مع الزباين. وحين يسأله المخبر “مستغرباً فعلاً”: وما علاقة الثوّار بذلك؟  يُجيب: ليش نحنا كانت تنقطع عنّا الكهربا قبل الثورة يا خاي؟!  يخرب ديارن هالثوّار.

يدخل زبون آخر اسمه ياسين، وقبل أن يجلس على كرسيّ القصّ..

– ما دريت ؟!

– لأ..

– لك كيف لأ ؟

– ما بعرف..

– يا زلمي قايمة الدنيا بالناعورة..

– كيف؟

– معتقلين نصّ الحارة..

– أفّ؟!

– لك انت وين عييش؟

– هون..

– يخبديارك..

– بحلقلك دقنك؟

هذا الزبون جاره في ” العبّارة ، يملك متجراً لبيع “السيديّات”، يعرفه منذ خمسة أعوام لذلك صارا صاحبَين، لكن حين قامت الثورة أو حَلّت الأزمة – كما يصف أبو أحمد الواقع وفق الظرف الراهن – ظلّ هذا الزبون الصاحب ينتقد المتظاهرين الذين كانوا يمرّون بعد صلاة العشاء كل يوم في شارع “الضبّيط” متّجهين إلى جامع سعد.. طيلة أربعة شهور.

كان يقول: إي بلا ما يحرقوا الصورة.. والله العظيم عيب، والله ما بيجوز هيك. وحين قُتِل أخوه صار يقول: يحرق قلبن.. الله ياخدُن، والله ما بيجوز هيك.

لذلك أصبح أبو أحمد متردّداً في تحديد الطريقة اللازمة للتعامل مع جاره الصاحب..  فقد كان يسأل نفسه: إي ما حسّ وفهِم لحتّى مات أخوه؟!  فظلّ يعتبره مُعارضاً ” علّاكاً ” .

قبل نصف ساعة من صلاة العشاء يأتي أبو كمال ذو القامة الفارعة والوجه الصبوح، بهدوء وثقة يلِج إلى المحلّ ..

– كيفك أبو أحمد.. كيف العيال انشالله بخير.

– والله الحمد لله يا عمي أبو كمال.. الحمد لله.

– لازمكن شي يا ابني؟

– والله يا عمّي ما بدنا غير سلامتك..

– منشان ابن عمّك إبراهيم لا تاكلوا همّ يا عين أخوك، رقبتنا سدّادة.

– الله يلطف.

– بتهون أبو أحمد.. بتهون يا خاي، احلقلي دقني الله يرضى عليك .. عندي فيقة بكّير .
يحلقها ، وحين يهمّ ” أبو كمال ” بالخروج يلحق به إلى ” العبّارة ” .. يتلفّت ذات اليمين وذات الشمال ثمّ يصيح : الله يخليلنا ياكن .. الله يطوّل عمركن .. الله ينصركن بجاه سيّدنا محمّد .
أبو كمال .. رجل في الستّين من عمره ، موظّف متقاعد .. حقوقيّ .. وكان يرأس دائرةً مهمّةً في مديرية المصالح العقارية .. لم يُعرف عنه سوى ” الصلاح ” ، وحين اندلعت الثورة أو وقعت الأزمة – كما يصف أبو أحمد الواقع ” دائماً ” وفق الظرف الراهن – انجذبت مشاعر أبي كمال نحو الحرّية .. فقدّم ثمناً لها بعد أن انتقلت عدواها إلى أسرته .. اثنين من أفرادها ، ابنه علي وابنه سعد ، وبقي كمال الأكبر معتقلاً فحسب . ولذلك كان لزاماً على ” الحلّاق ” أن يحترم هذه ” الظاهرة ” .. فيتعاضد مع ربّ الأسرة المنكوبة .. مظهراً له الاستياء ، بالدعاء .. بالثناء .. أو بالرياء .
يؤذّن العشاء فيحين موعد الانصراف ..
يغادر أبو أحمد دكّانه ليعود إلى المنزل .. فلا يصل.
كان كلباً .. قال سعد الدين ، كان مُخبراً .. قال عامر، لم يكن لديه مبادئ .. قال ياسين.
وأما أبو كمال فقد قال: رحمه الله.. كان بطلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى