المذكرات السياسية في العهد الأسدي
غسان المفلح – العربي القديم
يشير المؤرخون إلى أن الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر، كان أول مَن كتب مذكرات شخصية. وهنالك من يعيد التجربة الأولى للقديس أوغسطين، ثم لجان جاك روسو، الذي يعتبر أهم من كتب السيرة الذاتية، عبر كتابه الشهير “اعترافات”، وقد استهله بالقول: “أنا أفعل شيئاً، لم يفعله شخص قبلي، ولن يقدر شخص بعدي على تقليده”، بعد أن ظلت “السيرة الذاتية” حكراً على الأدباء والفلاسفة، تلقفها بعد ذلك السياسيون، وناشطو الشأن العام. المذكرات السياسية نوع خطير من الكتابة، غالباً ما يتحرك بناء على دوافع ذاتية، أكثر مما هي موضوعية. هذا ما يثير إشكاليات عديدة؛ لأن كتّابها بوصفهم مسؤولين سابقين غالباً، يحاولون جعل ذاتهم مركزية في هذا النوع من الكتابة، حتى لو كان من يكتب قامت إدارته بأفعال إجرامية، كمذكرات فاروق الشرع، تحت عنوان “الرواية المفقودة”، نائب سابق للأسد، ووريثه لاحقاً، ولايزال على قيد الحياة متقاعداً في منزله في دمشق. لم يتطرق فيها أبداً إلى أية جريمة ارتكبها الحكم الأسدي في الزمن الذي يكتب عنه. وكمثال آخر كتاب “في زمني”، الذي يتناول السيرة الذاتية لديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش. هذا الكتاب أثار قليلاً من اللغط حينها، وليس كما توقّع صاحبه ما سيثيره كتابه، حيث قال وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في الكتاب: “إن كتاب تشيني اعتمد على توجيه “ضربات رخيصة” لزملائه، وقدم تفسيرات غير صادقة للأحداث، مضيفاً بأن فريق الأمن القومي للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، لم يكن يعمل بسلاسة، وأنه نصح بوش بالعمل على حل المشكلة، وقال في حديث متلفز: كانت لدينا وجهات نظر مختلفة، ولم يكن من الممكن التوفيق بين وجهات النظر”*.
هنالك في سورية ظاهرة كتابة المذكرات، عند قادة حزب البعث الحاكم حتى اللحظة، حاكم بالاسم كواجهة للأسدية منذ ستة عقود تقريباً. تحضرني مذكرات أكرم الحوراني، وصلاح الدين البيطار، وسامي الجندي على ما بينهم من خلافات. أكرم الحوراني مثلاً تم اعتقاله، ونفيه بعد انقلاب آذار 196٣، بينما بقي صلاح الدين البيطار في قيادة البعث، وتم تكليفه من قيادة الانقلاب بتشكيل عدة حكومات، خلال فترة زمنية قصيرة، ثم بعد انقلاب شباط 1966، تم نفيه، أو هروبه من دمشق، ومات بعملية اغتيال أسدية، نُفذت في باريس 1980، من قبل مخابرات حافظ الأسد، أمام مكتب مجلة الإحياء العربي الحديثة الصدور، وكان هو صاحب مشروعها. أما سامي الجندي، فقد بقي من ضمن طاقم السلطة، حتى أتى انقلاب حافظ الأسد 1970، وهرب إلى بيروت، ثم عاد بعدها ليكمل بقية حياته في مدينته سلمية. الملاحظ في هذه المذكرات أن كلاً منهم أراد أمرين:
الأول: تبرئة ساحته من نظام عسكر البعث، الذي دمر سورية، وهم كانوا على رأس عملهم في هذا البعث، وقيادتهم له، حتى أتى انقلاب صلاح جديد- حافظ الأسد شباط 1966، حيث هرب أغلب مؤسسي البعث من دمشق إلى الخارج. سامي الجندي عُين سفيراً للانقلاب في باريس.
الثاني: إنهم كانوا ديمقراطيين، ويسعون للديمقراطية، ولكن كانوا عصاميين، للأمانة أيضاً أن الرجال الثلاثة عرض عليهم الأسد الأب العودة إلى مناصب سياسية ورفضوا، لكن من خلال هذه المذكرات، وغيرها نجد أن عسكر البعث ممثلاً، بما كان يُسمى باللجنة العسكرية، التي حكمت سورية فعلياً، أو كان لها دور رئيسي فيها منذ عام 1958؛ لأن هذه اللجنة هي من فرضت الوحدة مع عبد الناصر، لإفشال التجربة الديمقراطية السورية الوليدة، بينما بقي قادة البعث، ومؤسسوه المدنيون عبارة عن واجهة لعسكره*.
من جهة أخرى يمكن العودة إلى هذه المذكرات وغيرها، لمعرفة كيف تم تناول تدمير مدينة حماة، وقتل أهلها، سواء في عام 1964، حيث كان منهم في قيادة البعث والحكومة، ثم المجازر وتدمير أحياء كاملة في أحداث الثمانينيات التي قامت بها قوات الأسد. من المعروف أن مدينة حماة لها وضع خاص في تاريخ سورية، حيث إنها معقل سياسي للتيارات كافة، بما فيها التيارات اليسارية. كانت مدينة تضج بالحراك السياسي، حتى أنهاه الأسد الأب عام 1980، وما بعدها، حتى على مستوى حزب صغير كحزب العمل الشيوعي، الذي تأسس باسم رابطة العمل الشيوعي من عدة حلقات في مدن سورية، كانت حلقة حماة هي الأبرز، والأكثر حضوراً في مدينتها.
من جهة أخرى، إن كتابة المذكرات السياسية، لا يعده كثر من المؤرخين تأريخاً، أي ليس ضمن ما يعرف بكتابة التاريخ؛ لأن كتّاب المذكرات لا يغطون سوى التاريخ الذي تكون ذاتهم محوره، هذا بشكل عام.
أيضاً هنالك مؤشرات أخرى للحكم على المذكرات السياسية، الكتابة في ظل نظام ديمقراطي مثلاً تختلف عن الكتابة في ظل نظام ديكتاتوري، وسورية مثال على ذلك. يمكن ملاحظة الفارق بين مذكرات بشير العظمة، الذي تولى مناصب في عهد الوحدة بين سورية ومصر 1958-1961 وفي مرحلة الانفصال، وبين بقية المذكرات.
البعث والأسدية تحكم سورية فعلياً، وبشكل كامل منذ عام 1963. يلاحظ أن كتاب المذكرات، كانوا كلهم خارج سورية، وتراجعت كتابة المذكرات السياسية بعد عام 1980 إلى الصفر تقريباً، وما كتب من قبل رموز الأسدية عبارة عن تسويق للأسدية ذاتها.
يقول الناقد المغربي نجيب العوفي في مقالته التي تحمل عنوان “موجة المذكرات السياسية والسّيَر الذاتية في المغرب: سرْد الأنا.. الثأر الرمزي للذات”: إن “البوح” “الأوتوبيوغرافي” المغربي أضحى يشكل في نسخته السياسية ظاهرة أدبية- سياسية، تحتاج إلى قراءة وتأويل”، موضحاً أن “القراءة الأولية والبديهية لهذه الظاهرة تشير إلى أن “كمامات” تاريخية، نُزعت عن أفواه النّخب المغربية، وأن “الحُبسة” المخزنية المضروبة على هذه الأفواه، قد فكّت نسبياً، فانطلقت من عِقال، لتنفّس عن ذات نفسها في هذا الاتجاه أو ذاك”. يشير الكاتب هنا أن تكميم الأفواه، لا يمكن أن ينتج حقلاً من كتابة المذكرات السياسية. لهذا نجد أن ما انتشر في سورية في العقدين الأخيرين، وخاصة بعد الثورة 2011، كان ما يعرف بأدب السجون، أو الرواية السجنية.
في ذاكرتي أن من افتتح هذا الحقل في سورية، كان الكاتب المبدع عبد الرحمن منيف في روايته “شرق المتوسط الآن وهنا”، حيث كان قد أصدر روايته الأولى” شرق المتوسط”، التي كانت الافتتاحية في هذا الحقل عن النظم الديكتاتورية في المنطقة، أما الجزء الثاني، فكان عن سورية. الآن ينتشر هذا النوع من الأدب بشكل كبير. الصديقة ميسون شقير في مقال لها بعنوان “أدب السجون السوري: سرديات الأسرار الذائعة.. ووثائق اللحم والدم” في موقع المدن. تكتب: “تقول الكاتبة كيت ميشيل، إن الرواية تقدّم “معنىً جديداً للأحداث الماضية، من خلال جمعها بين ما يُرى على أنه حقيقة، وبين ما كان يُمكن أن يحدث، وذلك من خلال تناولها السجلات المفقودة في التاريخ”، حيث يخفي السياسيون الحقائق التي تدينهم أخلاقياً، ويقدم المؤرخون ما يستطيعون الحصول عليه، لكن توثيقهم يأتي على شكل هياكل عظمية، في حين أن الرواية قادرة على اختراق المحظورات السياسية والدينية والاجتماعية، وعلى تقديم الحقائق بلحم ودم، وعندما نتكلم عن قدرة الرواية على “تقديم السجلات المفقودة من التاريخ”، لا يمكن لنا إلا أن نتذكر روايات السجون السورية؛ لأن التاريخ السوري الحديث، هو تاريخ السجلات المفقودة من التاريخ بكل امتياز؛ الأمر الذي جعل الشاعر السوري ومعتقل الرأي فرج بيرقدار يقول: “سيرشحنا المستقبل كأكبر تراث عالمي في أدب السجون”.
حتى يمكننا إيراد ملاحظة سريعة على ما يقدم من الدراما التلفزيونية الأسدية، مثالاً على كم الأفواه وتشويه التاريخ. لا يمكن إنتاج مذكرات سياسية، في ظل القمع المعمم أسدياً، تتابع شقير: “إن الأهمية التي اكتسبها أدب السجون في سوريا، جاءت من كون البلاد، وطوال 40 عاماً من حكم آل الأسد، لم تعرف مصدراً للأخبار سوى وكالة “سانا”، الرسمية التي تأسست العام 1965، كما أن الصحف الثلاث الحكومية الصادرة، كانت تعيد تكريس مبدأ القائد الواحد والحزب الواحد، وبعد استلام الوريث بشار الأسد، الحكم، ظهرت صحف خاصة، لكن الأمن السوري أغلق معظمها، لتظهر مكانها صحف خاصة تابعة للنظام، كما ظهرت قناة “الدنيا”، المملوكة لمحمد حمشو المقرب من الأسد”.
كم هي أعداد الذين تعاقبوا على أن يكونوا مسؤولين في إدارة الأسدية للبلاد؟ أعتقد بالآلاف. كم واحداً منهم تجرأ، وكتب مذكراته السياسية بحد أدنى من الموضوعية؟ ومنهم كتاب أيضاً، ومع ذلك لم يتجرأ أحد منهم.
لايزال هذا الحقل في العهدة الأسدية ضامراً وسيبقى. إنه الخوف ومملكته الأسدية.
* الكاتب المصري خالد غازي.
* تقرير عن أكرم الحوراني وبصوته أيضاً.
_________________________________
من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024