فصول من المذكرات | اعتقال على الهامش
حسيبة عبد الرحمن – العربي القديم
التاريخ: 16آذار. العام: 2011. الساعة: الثانية عشرة ظهراً.
مجموعة من مثقفي وكتاب ونشطاء سياسيين وحقوقيين سوريين، اعتصموا أمام وزارة الداخلية ساحة (المرجة)، حملوا صور بعض المعتقلين (دعوة عن طريق النت)، سبقتهم إلى المكان الأجهزة الأمنية لمراقبة الحشد وفض الاعتصام.
بعد أقل من عشر دقائق، اخترق جهاز أمن الدولة التجمع، اعتُقل بعضهم وحمّلوا إلى (البوكس)، مع شتائم وتهديدات للبقية. اقترب مني العميد (المسؤول) في (أمن الدولة)، محاولاً إبعادي عن المكان، رفضت الانصياع له، هددني بالاعتقال، ووضعي ب(البوكس)، ضحكت: عم تهددني شو ما بعرف (البوكس) جديد علي مثلاً!
أدار وجهه عني، وأكمل صراخه بوجه المعتصمين (لا قرار عنده باعتقالي)، وفي حركة التفافية وتشويشية قام ومن معه بالهتافات المؤيدة للنظام. غادرت المكان، أوقفني حراس وزارة الداخلية نتيجة مكالمة تلفونية، صرخت في وجهوهم: ليكو ضابط الأمن، روح لعندو.
طريقة صراخي وجوابي دفعهم لتركي، ظناً منهم أنني مسؤولة أو مسنودة. مشيت، ومع كل “دعسة” قدم تماوجت خيالات الاعتقالات، وتهافتت سلاسل الذكريات كأمواج بحر، لتتدحرج كحبات رمل، تقاذفتها الرياح العاتية، لتهوي في قاع لج، وفج عميق، وأنا أحاول الهروب منها، ومن ثقلها دون جدوى، فها هو الاعتقال الأول يمثل أمام عيني، وكأنه حصل للتو بساعاته وأيامه وشهوره، وإحساس غامض ملتبس تلبسني، تحول إلى شعور متناقض ما بين خوف وشجاعة، ذهول ويقظة، إنه الإحساس ذاته الذي قبض على روحي لحظة اعتقالي الأول؛ شريط ذلك الفيلم الطويل يأبى التوقف والانتهاء، (رغم اعتقالاتي المتكررة)، وكل ما ظننته تطاير في هواء ما يسمى “الحرية”! حضر وبالتفاصيل المرّة، وكأنه وقع بالأمس، وعادت الصور تلح علي، وتفجّر ذاكرة ثاوية، تعود إلى تاريخ بعيد لشهر تشريني من (1979).
الاعتقال الأول
أنا العنزة العنوزية ذات القرون الصغيرة الحدودية، المتكورة، حول نفسي خوفاً من الغولة، لكن نواجذها اقتربت مني، لاكتني، وابتلعتني في جوف مظلم. أنا مسوخ المواطنة (حسيبة عبد الرحمن) البالغة من العمر عشرين عاماً، وأنا العنزة _بطلة حكاية أمي_ أقف عند بوابة الحدود اللبنانية السورية، وإذ دورية أمن قرب السيارة، عناصرها يراقبون الركاب الأربعة، يفتح أحدهم باب السيارة، ويوجه الكلام إليّ، وكأنه على موعد مع عودتي! أو إنه فتح الرمل، ورآني أتصفح جريدة ممنوعة وسرية، توجه نحوي مباشرة: افتحي حقيبة اليد!
كنت أجلس في المقعد الخلفي، أنظر نحو العناصر الأمنية شاردة الذهن، لا أصدق ما يجري، كأني أمام لقطة فيلم سينمائي غامض النهاية لبطل أو بطلة أخرى، وليس واقعاً يطوقني، يفرض علي، وأعيشه حالة استغراق.. وكأن ما يحدث يخص شخصاً آخر، وأنا أتفرج، وهذه الحالة ربما سيطرت علي، لتعوّدي السفر الأسبوعي (الجمعة) إلى لبنان كناقلة بريد لتنظيم (رابطة العمل الشيوعي) رسائل وأدبيات (الراية الحمراء النشرة الداخلية البروليتاري وسواهما)، هي المهمة التي كلفت بها من قبل قيادة الحزب، منذ ما يقارب العام. كثرة أسفاري وتكرارها طمأنتني زيادة عن اللزوم، لم أعد أشعر بالخوف عند تجاوز الحدود (ذهاباً، إياباً)، رغم امتلاء حقيبتي بالجرائد السرية الممنوعة، والضريبة التي سأدفعها حال انكشاف أمري اعتقالاً وتعذيباً، (نقلت البريد مرة واحدة إلى مدينة حلب)، ومع ذلك أضحت المهمة بالنسبة إليّ رحلة أسبوعية ترفيهية عن النفس إلى بيروت (الغربية) التي تعج بالمقاومة الفلسطينية، والقوى الثورية والمعارضة من أنحاء العالم العربي، قوى سياسية تطبع المجلات والكتب والنشرات السرية المربوطة بأشرطة غنائية ل(لشيخ إمام)، أشعار (أحمد فؤاد نحم)، وإلى جانبها أشرطة مارسيل خليفة بصوته الحنون مرنماً أشعار (محمود درويش)، يضاف إليهما سخريات الفنان (زياد الرحباني)، ضمن برنامجه الإذاعي “بعدنا طيبين قولوا الله” في إذاعة “صوت الشعب”، ومعظم النقد الساخر لزياد موجه ضد النظام السوري والأمريكان والكتائب اللبنانية! وعند نقطة التفتيش الحدودية، وقبل وصولي ببضعة أمتار، خبأت الرسائل الحزبية الصغيرة والرقيقة الملفوفة (أوراق صغيرة مغلفة بلزيق شفاف)، وجوازات سفر لبعض الرفاق بين البنطلون وثيابي الداخلية، كنوع من الاحتياط والحذر. اقترب الأمن وطلب فتح حقيبتي الشخصية وتفتيشها، وأخذت أكلم أحد رجال الأمن كي أنسيه الحقيبة، لكنه أصر على فتحها. فتحها، وهي حبلى بالجرائد السرية (القديمة)، يعني لا ضرورة لحملها!
أنزلوني من التاكسي، وقادوني إلى سيارة الأمن ومنها إلى مقر(أمن الدولة) في ( كفرسوسة) الحي الذي أقطنه، وسط البساتين الباذخة بأشجار المشمش، والتوت الشامي، والجوز والتين.
صور التعذيب والتحقيق كانت لاتزال ضبابية وهلامية، تُختزل بما قرأته في الروايات، وما سمعته عن التعذيب فترة انضمامي للتنظيم، وسؤال ألح علي: هل سأتحمل التعذيب ؟! علي أن أتحمله! كي أستحق لقب معتقلة، ومن ثم مناضلة! كانت تلك الفكرة تستحوذ على تفكيري، وفي الوقت نفسه أرقب الطريق إلى دمشق، وإحساس غامض بغبّ الكثير من الهواء الحرّ، وإشباع نظري من الفضاءات السماوية ومفردات الحياة، ولعل الجو التشريني الغارق بوريقات شجره الصفراء أغدقني حزناً وترقباً وجملاً تتداخل عن التحقيق والتعذيب، وسؤال مكرر طوال الطريق نفسه: هل يمكنني التحمل؟! وهل سأصمد، أم أنهار؟! لم أحس بالوقت، ولا الدرب إلى أن وصلت مبنى أمن الدولة (الحديث النشأة)، طلبت مباشرة دخول (الحمام)، مزقت جوازات السفر والرسائل، وصببت الماء، وعلق (جلد) الجواز في جورة “التواليت”، ولا أدري لحظتها، ماذا فعلت ورائحة البراز تعمي أنفي، وتدفعني إلى التقيؤ؟! وكاد أن يغمي علي، وأنا أعاود الكرة لطمس ما بحوزتي في تلك الجورة اللعينة! وعليّ إنجاز العمل بسرعة دون ترك أثر، قبل أن يتنبه الضباط إليّ. أمضيت دقيقة، أو خمس دقائق، أكثر أو أقل لا أعلم! لكني أنجزت مهمتي، بعد أن خرجت من الحمام، قادوني إلى(سجن الحلبوني)، والسجن هو بيت الشيخ الإشكالي (تاج الدين الحسني) الرئيس السوري أيام الاحتلال الفرنسي. دخلت السجن، أو بيت (تاج الدين الحسني) مخفورة ليلاً، وبدأ التحقيق معي بعد أخذ الهوية الشخصية من قبل رئيس الفرع، وهو من بلدة (الزبداني) غرب دمشق، والسؤال الأول: ماذا كنتِ تفعلين في بيروت، ومن رأيتِ هناك؟ والأهم مواعيدك مع أعضاء التنظيم والقيادات، من تعرفين؟ أدخلني الدولاب، وبدأ جلدي بالخيزران حتى الصباح وأنا أصرخ ملء صوتي وفمي، أيقظت الحي الهادئ من نومه والجلد مستمر، والأدعية تخرج من فمي وكذلك الشتائم. كلما شتمني رئيس الفرع، كنت أنده بعلو صوتي يا (الله) يا (علي)، ظناً مني أن النداء سيرفق بحالي، بينما النداء تسبب بزيادة ضربي وجلدي، لا أدري إن كان انتقاماً من انتمائي السياسي أو غيره؛ لأن ابن أخته (الذي يخدم الإلزامي)، هرّب في ما بعد السجناء الإسلاميين من سجن (كفرسوسة) في حادثة هي الأولى وربما الأخيرة من نوعها، أثناء حكم (حافظ الأسد)، وضرب عليه النار، فأصيب بكتفه من قبل الجهاديين.
أخرجني من الدولاب، وطلب مني الركض كي لا تتورم قدمي، وكنت أقفز كالبهلوانات، أو القردة والخيزران ينزل على جسدي مرواحاً ومجيئاً، وذلك الركض عبارة عن فواصل بين الدولاب والدولاب، ثلاثة أيام وأنا أُجلد ليلاً حتى الصباح، وصراخي المبحوح يسرق الهواء والهدوء من حولي، ثلاثة أيام من الجلد بالخيزران، ويا لها من أداة تعذيب! (سوف تتحول إلى مزحة أمام وسائل التعذيب اللاحقة)، كانت أقدامي متورمة ومدماة، ولا أستطيع المشي عليها، رغم إجباري على الركض بعد كل دولاب، إذ يقف عنصران وبيدهما خيزران يلسعني، ويلاحق جسدي في الساحة الضيقة للجناح الأيمن من السجن، وكلما انقضى يوم تعذيب، سلم بانقضائه رفيق من رفاق لجنة العمل (مكتب سياسي)، ممن لدي مواعيد معهم، وهم (نهاد نحاس، زياد مشهور).
عرضوني على الطبيب ليضمد أقدامي، وأودعوني الزنزانة في القسم الموازي لمهجع (رفاقنا وقريبة) من باب الجناح (كما يسمى)، وأعطوني للمرة الثانية الورق الأبيض، لأكتب اعترافاتي، وكل صباح ومساء، أُهدى ورقة بيضاء، لأسجل اعترافاً جديداً دون جدوى! ورقة بيضاء أخرى، وأخريات كل صباح وظهر وليل . وكلما رأيت التفاح “الدوسير”، قذفت به، وخفت من الجلد، والمسكين التفاح تحول من فاكهة لذيذة إلى “أم أربعة وأربعين”، تنتظر أن تنقض علي نتيجة حالتي النفسية والجلد المتواصل، كرهت التفاح، وتوقفت عن أكله، حتى بعد انتهاء التحقيق، وذات مرة أعطاني السجان ثلاث تفاحات، رميتها: أكره التفاح، أتشاءم منه!
كانت المنفردة صغيرة، لكن جدرانها تشي ببشر أقاموا هنا، وها هي خُطا من رسموا أسماءهم، وتواقيعهم، وأشعار(محمود درويش)، وجمل وأقوال مأثورة لمعتقلين سمعت بهم من قبل، سجلوا اسمهم وتاريخ اعتقالهم، وكأنهم يخافون نسيانه، وبقيت كلمة محفورة بذاكرتي، كلمة شفافة، هي (القبرة)، وسجلت اسمي وتاريخ اعتقالي، شكلت قراءة التعليقات أولى التسليات، أغمض عيني، وألقي مقاطع الشعر مما أحفظه، أو أقرؤه عن الجدران، وكأنها تدريب للذاكرة.
أجلس على العازل المرصوص بألم السجناء، وفوقه باقي البطانيات العسكرية، وأنتقل من قراءة لأخرى، وأصيخ السمع لأقل حركة، وأنا لا أستطيع النهوض من الكتل الزرقاء والورم بأقدامي، والتسلية الثانية: أصوات السجّانة (أغلبهم يخدم الإلزامية) تسليني، وتكسر الصمت القاتل، ومعظمهم تعاطف معي، ولم يروا مبرراً لضربي. بعد أيام فتحت كوة الفرح والفرج معاً، حين سمعت أصوات (صبايا) في الباحة، ما لبثن واقتربن مني، وكانت أجمل لحظات السجن، وعرفت أنهنّ الرفيقات اللواتي مازلن معتقلات منذ عام ونيف، وكن: (نجود اليوسف، روزيت عيسى، رنا سيور، سناء الكردي)، سبق وأفرج عن (فيروز خوري، راغدة عساف) بعد ستة أشهر، بينما أطلق سراح (ليلى نحال) الأم لطفلة رضيعة بعد(تسعة أشهر)، في حين خرجت كل من (هالة، وخلود العبد الله، وصباح عبدلكي)، بعد عام من الاعتقال، وكانت تلك المجموعة من الصبايا، قد دشنّ الاعتقالات الجماعية للنساء ببقائهنّ زمناً داخل السجون السورية، وجلّهنّ ينتمي إلى الطبقة الوسطى المتعلمة، بينما كنت أفقرهن اقتصادياً، وتليني مباشرة (سناء الكردي)، التي روت لنا عن سكنهم المشترك مع عائلات في بيت عربي واسع متعدد الغرف، يسمى (قصر شمعايا) بحارة اليهود (دمشق)، وهي مفارقة أخرى (فلسطينيون هُجروا من أرضهم بفلسطين على يد صهاينة، ليسكنوا في حارة من تسبب بهجرتهم، ولو نظرياً)، وسكنها يتشابه مع سكني كثيراً.
أرسلت (الرفيقات) الرائعات طعاماً وبعض الثياب مع أحد السجّانين، وحاولن الكلام معي، ومنحي القوة اللازمة لمواجهة التحقيق والاعتقال.
حكم علي مدير الفرع بالانفرادي عقوبة على كذبي، بقيت شهراً ونيف في المنفردة، ولأنها التجربة الأولى، فقد كانت قاسية جداً، رغم كسرها بالأصوات والكلام مع الرفيقات، عند خروجهن للتنفس في ساحة السجن (الدار).
دخلتُ دوامة الملل والإرهاق، بعد تماثل أقدامي للشفاء، وتوقف تعذيبي، فالتعذيب يشعل الجملة العصبية وقوداً، يُذكي حالة الاستنفار والاستفزاز حتى النهاية، ويستحوذ الخوف على السجين من جولة تعذيب وتحقيق قادمَين، ما يحرمه النوم إلا غصباً؛ ولأنني أواجه التحقيق لأول مرة، يمثل أمامي الأبطال الثوريون، ممن قرأت عنهم تلك المرحلة الزمنية، وضرورة التمثّل بهم، بينما الوجع والألم يدفعانني إلى هاوية الاعتراف التي تتوقف عند لحظة ما، أشعر فيها أني أخون! وهنا أتراجع مع صراخ يشق آذان السجناء، ويحرمهم غفوة مسروقة وسط عويلي!
بعد أسابيع قليلة ضقت ذرعاً من المنفردة، وأضحى وضعي النفسي سيئاً للغاية، إثر نقلي إلى الطابق الثاني، لم أعد أسمع أصواتاً، سوى دقات الباب عند خروج الرفيقات للتنفس، أو فتح الباب من قبل السجانة، وغناء(وليد توفيق) القادم من البيت المجاور معلناً استيقاظ صبية البيت (أبوكي مين يا صبية وساكن فين يا عينيّ). كنت ألعب بعيدان الكبريت، والمفاجأة الرائعة هي زيارة الرفيقات لدقيقة واحدة بعد سرقتهنّ المفاتيح من السجان، لحظات لن أنساها بحياتي، وهن يدخلن الغرفة علي، وكأنه عيد، أو عرس مضفور بزغاريد فرح .. حضور بهي لصبايا بهيات الطلعة والضحكة، وأحسست أنهن ملائكة نزلن من السماء، وبالسرعة نفسها التي دخلن بها غادرن، وتركوني للملل ثانية، قررت إجبار رئيس الفرع على نقلي، وضعت على رأسي قبعة، ولبست جوارب مع “شحاطة زنوبا” التي قدمت بها من بيروت وبيجاما قصيرة، وطلبت لقاءه، وعندما رآني استغرب المنظر، وسألني ما بك؟ أجبته: أرى كوابيس لا أنام! ضحك: الكوابيس تهرب منك! أصريت على ملاحقتي بالكوابيس.
ظن أنني على وشك مرض نفسي، فنقلني إلى مهجع الرفيقات، (وبالأحرى غرفة في الطابق العلوي)، استقبلوني بفرحة كبيرة، أدخلوني الحمام، وألبسوني ثياباً من عندهم، سهرنا حتى الصباح، واستغربن ضربي بهذه الطريقة ووضعي هذه الفترة في المنفردة، فهنّ تعرضن للضرب ببعض الخيزرانات والكفوف عند اعتقالهنّ (1978 أخذت الأيام منحى جديداً معهن، كنا ننزل إلى باحة السجن أو(أرض الدار)، نركض، نشم رائحة النارنج والأزاهير في الباحة، نتبادل السير الذاتية، ولأن (الرفيقات)، مضى زمن على اعتقالهن، وحفظن تفاصيل بعضهن بعض، ولذا كلما روت إحداهنّ حادثة سرعان ما يُثار الضحك لدى البقية، ويرددن معاً (مئة أو مئة وواحد)، أي أُعيدت القصة وتكررت.
وبحكم وجودنا في الطابق الثاني، وشبابيك مهجعنا تطلّ على الباحة، كنا نلمح الرفاق عن بُعد في ممرات الجناح، ونؤشر لهم عبر أصابع اليد المرتبطة بالأحرف الأبجدية، لنوصل لهم خبراً، أو نطلب شيئاً منهم، وقد طلبت (هبول، تين يابس)، ونراهم بشكل واضح عندما يخرج أحدهم من أجل الزيارة أو رمي القمامة، عندئذ نرفع أصواتنا كي يسمعنا ويرانا، ومن ثمّ يبتسم لنا . وإذا وجدنا الرفيق (باسل حوراني)، ندفع بسناء الكردي خطيبته، (تزوجا فور إطلاق سراحنا) إلى الواجهة، وكذلك نفعل مع نجود في حال كان زوجها (أمجد كلاس). سبق وقدّمت كل من (نجود، خلود) طلباً لزيارة زوجيهما في السجن، إثر نقلهما من (سجن المزة العسكري)، ووافق رئيس الفرع على طلبهما. كانتا تذهبان إلى الزيارة بأبهى حلّة، تصر ( خلود) على ربط شعرها ربطتين، بحيث تهفوان سريعاً نحو (جورج ديب)، مذكرة لاعب كرة السلة زميلها في كلية الصيدلة بفترة تعارفهما، أثناء دراستهما الجامعية، تلك الربطتان اللتان أثارتا إعجابه منذ رآها أول مرة وأحبها، وكلما خرج لرمي الزبالة خارج الجناح، نظر إلى نافذتنا المطلة على الباحة باحثاً عن وجه (خلود)، وطيف جدائلها، بعد أن افتقد طلتها وزيارتها، وربطَتي شعرها.
والمفاجأة زيارة والدي خلال فترة قصيرة، وهو دامع العين، حاولت في الزيارة إضحاكه، كي لا يستمر ببكائه عليّ. سألني رئيس الفرع بعد مغادرة والدي: من أين يعرف والدك رئيس الفرع (محمد ناصيف؟). ابتسمت: وما أدراني من هو؟ لم أكن أعرفه! وعندما أُطلق سراحي، سألت والدي عنه، ضحك، وهو يصف كيفية حصوله على الزيارة. كان المقدم (محمد ناصيف) وراء مكتبه في الفرع الداخلي _ الفرع الأهم من فروع تحقيق أمن الدولة خصوصاً ما يتعلق بتنظيمنا، فقد استطاع وبجدارة تركي علم الدين فك شيفرة التنظيم (١٩٧٨) _ ذهبتُ إليه لطلب الزيارة، وعرف أنك معتقلة، وقف وراء مكتبه، ورفع صوته: ابنتك رابطة عمل شيوعي؟
_لا أعلم!
ثم عاود الحركة مرة واثنتين وثلاثاً، حتى ضقت ذرعاً. نظرت إليه: هل تريد إعطائي ورقة الزيارة أم أذهب؟ رد: سأعطيك.. سأعطيك.
وعاد للازمته: ابنتك رابطة عمل شيوعي، وهو يضرب المكتب بيديه قائلاً: هاد الكان ناقصنا! ردة فعله الغريبة لم أفهمها إلا لاحقاً فالنساء من (منطقتنا)، لم يعتدن على وجودهنّ بالمعتقل حتى ذلك الحين، وهناك حالة واحدة اعتُقلت من (ريف اللاذقية) على يد(فرع التحقيق العسكري)؛ لذلك استغرب اعتقالي تلك الفترة! وسجلي البعثي، أضاف غرابة أخرى! لم أكن أنتبه إليها! ففي إحدى جولات التحقيق هددني رئيس الفرع: ألا تعرفين أن ازدواجية التنظيم ممنوعة، وهناك قانون يجرم ذلك، ويحكم المتهمين بالمؤبد، أو الإعدام؟! أجبته: تركت حزب البعث.
_مازلت فيه؛ ولذا ينطبق عليك هذا القانون!
وهو القانون (الهدية) من التقارب البعثي (العراقي_ السوري)، فترة حكم الرئيس العراقي الراحل (محمد حسن البكر)، و(حافظ الأسد) المشروع الوحدوي الهلامي، الذي ظهر نتيجة أزمة نظامَي البعثين (لم يستمر طويلاً)، والحق يقال بقيت الوحدة والقانون (حبراً على ورق)، ولم يطبقا، وانتهى سريعاً شهر العسل، بينهما بانقلاب (صدام حسين) على رفيقه (حسن البكر).
الاعتقال الثاني
كانت فترة الاعتقال قصيرة، لا تعدو مزحة سمجة، لما سيأتي لاحقاً في كل شيء، عشنا والرفيقات شهرين ونيف (في غرفة وحمام طابق ثانٍ، يطل أيضاً على شارع وسط دمشق)، مع معتقلتين من حلب، بتهمة نقل رسائل من بعث العراق، احتُجزتا معنا، وكنا نخرج إلى باحة السجن (ساعة تنفس) نركض، وندور حول الحدائق الصغيرة الحبلى بالأشجار، ومن بينها شجر النارنج، إضافة إلى الورود، واعتبرتها فترة ذهبية، إذ تعرفت على رفيقات طالما سمعت عنهن القصص، والآن أعيش بينهن. ارتبطت بصداقة مع الجميع استمرت بعد خروجنا، وانقطعت نتيجة شرطي الشخصي من تخفٍّ وتنقل، وتخلصت من كابوس رافقني منذ نهاية طفولتي، وبداية شبابي حتى اعتقالي. صورة (حافظ أسد)، وهو وزير دفاع التي علّقت ذات مساء في بيتنا، واخترقت أحلامي محولة إياها لكابوس مخيف يطاردني في حارتي الضيقة، كنت أراه بتلك الهيئة العابسة، بيده رشاش يحاول رشّي، وأنا أركض وحيدة في الظلام.
احتدم الصراع بين النظام والجهاديين الإسلاميين، وهُدد النظام جدياً لأول مرة؛ لذا شُكّلت لجنة أمنية من ضباط استخبارات هم: (وهيب الفاضل، حسن خليل، كمال يوسف) للحوار مع (قياديي) الحزب، حول تراجع التنظيم عن اتهام النظام بـ(اللاوطنية)، والقبول بالحوار معه، ومقابل ذلك ينضم التنظيم إلى (الجبهة الوطنية التقدمية)، وبعد جلسات حوار طويلة التقينا جميعاً، وتمحورت أسئلتهم: ماذا سنفعل بعد خروجنا من السجن؟ أنعود إلى العمل السياسي أم لا؟ وقبل ذلك بعام بدأ عرض التعهد السياسي، الذي رفضه بعضهم وقبله آخرون، مما فتح باب الصراع حوله، وهذا ما جرى أيضاً عند عرضه على الرفيقات اللواتي أشبعنه نقاشاً، وقورن بالتعهد في رواية (شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف، واختلفن حول تقييمه.
والفترة لم تطل، قرر النظام العفو عن اليسار السوري، عدا الضباط من التنظيم، وكانوا (خمسة)، وفي هذا السياق أعتقد أن وجود ضباط في التنظيم شكّل سبباً من أسباب تشدد النظام ضدنا لخرقنا خطوطه الحمراء، وهو النفاذ إلى الجيش.
جُمعنا صباح (الرابع) من شهر (شباط) عام ( 1980) في باحة (سجن المزة)، وأطلق سراحنا، وأحضروا لنا حافلات تقلنا إلى المدينة، وكان يوماً لا يشبه الأيام الأخرى، غنينا للشيخ إمام (كانت أغانيه سرية)، و(لفيروز)، و(مارسيل خليفة)، الذي دخل حلبة الغناء الثوري مع أغاني (زياد الرحباني) السياسية والاجتماعية والساخرة..الخ، وكأننا في رحلة. ذهبت مع (رنا سيور) إلى بيت أهلها في (القصاع)، تناولنا الغداء سوية، وعدت إلى منزلي، وخبر الإفراج عني سبق وصولي إلى البيت عن طريق جارنا( الحلبي) المساعد الأول في الشرطة العسكرية بسجن المزة.
وانتابني حزن عميق على والدتي، وهي تروي كيف انتظرتني مساءات وليالي، أمام موقف الباص باكية.. علني أعود! وفي الوقت نفسه تغني بصوتها الحنون (المواويل)؛ لأن أختي لم تخبر والديّ باعتقالي في الفترة الأولى، ولا أدري لذلك سبباً، والأقاويل الاجتماعية تطايرت خيالاً خصباً، وأهمها: أني هربت مع شاب فلسطيني إلى لبنان (لعلاقاتي مع الفلسطينيين سواء في الحارة أو غيرها)، وتداعيات ذلك الكلام على نفسية والدي المتدين، خصوصاً وأن ابنة عمي تزوجت عسكرياً من حوران، دون معرفة عمي فترة اعتقالي، وأختي تصيخ السمع، وتصمت مع أنها بُلّغتْ مباشرة باعتقالي، بعد انقطاعي عن المواعيد الحزبية ليومين متتاليين (الموعد الأساسي والاحتياطي)، مع عضوَي لجنة العمل، أحدهما (نهاد نحاس)، عاتبني ساخراً بعد إطلاق سراحي: ضروري تعملي فيها مناضلة، كنتِ اعترفي علي وخلصيني، أسجن أشهراً فقط، وأخرج معكم ! أجبته: لم أكن أعلم! وإلا اعترفت عليك، وعلى غيرك المرة القادمة أعدك بالاعتراف!
أخبرني والدي، وابن عمي أنهم فتحوا حقيبتي المقفولة، ورموا محتوياتها (راية حمراء، الخط الإستراتيجي) في البئر، وجمعوا الكتب بحقائب، وأودعوها عند قريب لنا، فذهبت وأتيت بالكتب ثانية التي ستصادر لاحقاً!
الرحلة إلى حماة
بحكم وجود عدد كبير من رفاقنا من مدينة حماة، والاستقبال الحافل الذي لاقوه في المدينة احتفاء بنيلهم الحرية، إذ حملوا على الأكتاف، وأطلق الرصاص والزغاريد معاً؛ لذا قرروا إقامة احتفال مركزي كبير بمناسبة خروجنا في المدينة، ودعوني إليه. رفض أهلي بداية سفري؛ بسبب الصراع الدائر بحماة (بين الجهاديين والنظام)، ولكني أقنعتهم، أو(هكذا خيّل إلي)، بعد أن غيّرت وجهة سفري إلى قرية (دير ماما)، فوافقوا على مضض، رغم الشكوك التي ساورتهم، لأرى ثانية، وعن قرب نواعير حماة المتبخترة بماء العاصي نزولاً وصعوداً، وهي تطلق صوت دورانها على وقع أغنية (سمعت عنين الناعورة) لمعن دندشي، التي تلف المكان ممزوجة بأصوات الرصاص، ومدينة حماة مركز تنظيم المرحوم (أكرم الحوراني) حامل قضية الفلاحين ومفجرها، تحول أعضاء تنظيم (الاشتراكيين العرب) خصوصاً الشباب إلى الماركسية، إثر هزيمة حزيران، وشكلوا حلقات ثقافية وفكرية، كانت إحدى الحلقات الأساسية والمركزية قد ساهمت بتأسيس التنظيم (رابطة العمل الشيوعي) عام (1976).
احتفلنا ببيت أقرباء رفاقنا من عائلة (البني) العائلة التي اعتُقل منهم أربعة (إخوة)، وجاء توقيت احتفالنا في عيد الفصح، حيث دخلت الكنيسة التي ستخرق إيقوناتها بالرصاص الطائش، وستُنهب بعد عام ونيف، إبان الصراع المسلح بين النظام وتنظيم (الطليعة) الجهادي.
لم نفرح كثيراً، إذ قامت (الوحدات الخاصة) إحدى أهم الفرق العسكرية بحملة تفتيش شاملة بعد اقتحامها المدينة، وعندما وصلوا إلى البيت الذي نزلته، أخذوا هويتي، نظر الضابط إليّ، والشرر بعينيه متسائلاً: ماذا جاء بك إلى هنا؟
أجبته، وبمنتهى السذاجة: لنحتفل بخروجنا من المعتقل.
ماذا؟
_نحن رابطة عمل شيوعي!
رازني طويلاً، وغادر المنزل، بعد أن فتش البيت بحثاً عن أسلحة ومطلوبين، ولم يترك بيت مسلم، أو مسيحي إلا وفتش، فالجميع عرضة للشبهة، وكان تمركز العسكر على المرتفع بقلب المدينة، ليسهل عليهم المراقبة الفاشلة، فالفخاخ اليومية تزرع الموت بكل زقاق وحارة من المدينة، وتحصد أرواح الجيش الذي يضرم النار بالرشاشات وغيرها من الأسلحة الفتاكة.
أُغلقت المدينة ونحن هناك، لنحاصر في البيت، وأصوات الرصاص لا تغادر سماء وأحياء المدينة.
* فصل من كتاب (رباعيات معتقلة) خصت به الكاتبة (العربي القديم).
__________________________________
من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024
Follow the latest and interesting football information on our site https://fifamatch.com/olimpiade-2024/