التاريخ السوري

عبد القادر الملاّح: رائد الحداثة الزراعية السورية 1878-1931

عمرو الملاّح *

لطالما اقترنت النهضة الزراعية التي شهدتها سوريا  في الخمسينيات من القرن المنصرم بظهور رسملة القطاع الزراعي ومكننته، وبروز ما يمكن تسميته من منظور نسبي بـ”الثورة الزراعية”، التي لمعت فيها أسماء عدد من المستحدثين الزراعيين، ويُقصد بهم أصحاب رؤوس الأموال الذين اقتحموا عالم الزراعة في فترة ما بين الحربين وما تلاها، ومن أبرزهم أصفر وتجار. وأما المبادرات التحديثية التي قادها أخصائيون زراعيون سابقون على هؤلاء ممن ينتمون لطبقة “الأعيان” البيروقراطيين-الملاك التي تكونت في خضم حركة الإصلاحات التحديثية العثمانية (التنظيمات) التي بدأت في أواسط القرن التاسع عشر؛ تلك المبادرات الرائدة الرامية لتطوير النظم الزراعية التقليدية السائدة في البلاد عن طريق إدخال التكنولوجيا الحديثة، وتدريب المزارعين على استخدامها فظلت مهمشة في السردية الوطنية للتاريخ السوري المعاصر، وقابعة في زوايا الإهمال والنسيان.

تحاول هذه المقالة الخروج على الصورة النمطية المترسخة في “المخيال” السوري، التي كرستها المناهج الدراسية والدراما التلفزيونية، لما يُسمى بـ”الإقطاع” الرجعي، الجائر، الظالم عبر تسليطها الضوء على الدور المغيب الذي اضطلعت به نخبة من مُلاك الأراضي “الحداثيين” في تطوير الزراعة السورية، وفي مقدمهم الأخصائي الزراعي الرائد عبد القادر الملاّح (1878-1931)، باعتبارها جزءاً من سياق تاريخي أكبر وأوسع نطاقاً بكثير ويتمثل في الحركية الاقتصادية التي عرفتها سوريا منذ مطالع القرن العشرين، والتي كان تطوير القطاع الزراعي يقع في صميمها.

عمل على النهوض بالواقع الزراعي وأصدر عام 1924 “الجريدة الزراعية” التي كانت من أوائل المجلات السورية المتخصصة

مولده ونشأته

ولد عبد القادر ناصح الملاّح بحلب في العام 1878 في أسرة عريقة ذات نفوذ ومكانة؛ فوالده مرعي باشا الملاّح رجل الدولة والزعيم السياسي الحلبي المعروف، ووالدته السيدة أسماء خانم الأوبري. وبعدما تلقى تعليمه الأساسي والثانوي في مدارس حلب انتقل إلى اسطنبول لدراسة القانون، ثم سافر إلى باريس حيث عزز ﺧﺒﺮاﺗﻪ العلمية في التخصصات الزراعية بغية تحديث استثمار ممتلكات العائلة من الأراضي الزراعية.

في خدمة الدولة العثمانية

بدأ الملاّح عمله الوظيفي معيناً مدرساً في شعبة الزراعة لدى “المكتب الإعدادي الملكي” بحلب في مطالع القرن المنصرم، ثم ما لبث أن عين رئيساً لقلم المحاسبة لدى البنك الزراعي، الذي كان أكبر مؤسسة مالية عثمانية تضطلع بدور أساسي في إنماء القطاع الزراعي، متنقلاً بين فروعه في دمشق (1904)؛ وإزمير (1906)؛ وحماة (1908). ليشغل بعدئذ المناصب التالية على التتابع: مدير التحصيلات في ولاية حلب (1909)؛ عضو هيئة تحرير المسقفات (الأملاك المبنية) لدى نظارة المالية في اسطنبول (1910)؛ مدقق الدوائر الضريبية في ولاية إزمير (1912)؛ رئيس هيئة تحرير المسقفات في الولاية ذاتها (1913)؛ مدير أملاك الدولة (الأميرية) في ولاية حلب (1913)؛ رئيس دائرة المحاسبة في الولاية ذاتها (1914).  

وقد نال من التكريمات السلطانية العثمانية “ميدالية الحجاز”، التي أنعم عليه بها السلطان عبد الحميد الثاني في العام 1904؛ وذلك تقديراً لإسهامه في تمويل إنشاء الخط الحديدي الحجازي.

ريادته في الصحافة الاختصاصية وبواكير الحركة النقابية العثمانية

أحب الملاّح الأدب في سن مبكرة، وبدأ حياته الأدبية بكتابة المقالة ونظم الشعر باللغة التركية، ونشر نتاجه في كبريات المجلات الأدبية والسياسية العثمانية، ومن أشهرها مجلة “معلومات” التي كانت تصدر في اسطنبول (1895-1903).

وقد عمل على الإفادة من بيئة الحرية النسبية التى توافرت في ظل عهد “المشروطية” الثانية (الدستور)؛ فأصدر في اسطنبول نشرة مالية واقتصادية باسم “تعرفه” في العام 1910، تلاها إصداره صحيفة “مأمورين” (بالعربية: الموظفين) في الفترة الممتدة بين العامين 1910 و1912 لتكون بمثابة ناطق باسم موظفي الخدمة المدنية، ومدافع عن حقوقهم.

ترى الباحثة التركية إليف يلماز شينتورك الأستاذة بجامعة مرمرة أن هذه الصحيفة، التي كان مقر إدراتها كائناً بالقرب من الباب العالي في العاصمة، استطاعت أن تضطلع على مدى ثلاث سنوات على الأقل بدور “نقابة” للموظفيين الحكوميين؛ إذ وفرت لهم منبراً للتعبير عن أنفسهم وطرح مشكلاتهم وتقديم شكاياتهم، جنباً إلى جنب مع تناولها قضايا تتصل بالإصلاح الإداري، ونشرها كافة القوانين واللوائح والقرارات المتعلقة بموظفي الخدمة المدنية، مستدلة على ذلك بإحداث الملاّح هيئة لمتابعة شؤون الموظفين ومصالحهم من أنحاء السلطنة كلها أطلق عليها تسمية “شعبة تعقيب المصالح” وجعلها ملحقة بإدارة الصحيفة، والتي باتت تعد بمنزلة “النقابة” التي تُعنى بحل كافة المشكلات القانونية المتعلقة بموظفي الخدمة المدنية.

وتعزو الباحثة توقف الصحيفة عن الصدور، بعدما تكبد صاحبها أعباء مالية ضخمة، إلى الظروف الداخلية والخارجية التي عصفت بالدولة العثمانية، ومن أهمها اندلاع حروب البلقان، التي ألقت بظلالها على الواقع المُعاش في بقية أجزاء السلطنة، بالإضافة إلى الأزمات الاجتماعية والمالية التي سببتها الحرب العالمية الأولى فيما بعد، ولا سيما “أزمة الورق” التي هددت الطباعة في كافة أرجاء الدولة العثمانية.

حقق الملاّح شهرة واسعة في الأوساط الأدبية العثمانية حينما عارض بقصيدة من نظمه القصيدة الحماسية التي نظمها السلطان العثماني محمد الخامس (رشاد) في معركة (جناق قلعة) في العام 1915. وقد نشرت قصيدته تلك في كبريات صحف اسطنبول في تلك الفترة ومن أبرزها “تصوير أفكار”.  

ومن مؤلفاته بالتركية العثمانية إصداره في العام 1919 كتاباً بعنوان “دليل تجاري”، وهو دليل تجاري واقتصادي عن اسطنبول.

مبادراته في العهد الفيصلي

واصل الملاّح إبان العهد الفيصلي عقب الانهيار العثماني ونهاية الحرب العالمية الأولى نشاطه في مأسسة القطاع الزراعي عبر مشاركته في تأسيس “الندوة الزراعية” بحلب للبحث والتشاور مع المزارعين بشأن تطوير القطاع الزراعي وترقيته، وكذلك إحداث أول “نقابة” للمهن الزراعية بحلب، والتي كان من أعضاء هيئتها الإدارية. بالإضافة إلى مساهمته في سياسة التعريب والنشر التي انتهجتها الحكومة العربية؛ إذ أصدر بمبادرة منه وعلى نفقته الخاصة بحلب في العام 1920 معجم “ألف باء ناصح”، وهو كتاب مدرسي لتعليم الناشئة اللغة العربية وقواعدها بطريقة بسيطة وميسرة.

في خدمة الدولة السورية

عُرف من المناصب التي أسندت إلى الملاّح في حقبة الانتداب الفرنسي تعيينه محاسباً في مديرية مالية الاتحاد السوري في العام 1923، ولكنه ما لبث أن استقال نظراً لتعيينه مديراً لمنطقة اعزاز(قائمقام). وفي العام 1924 أسند إليه منصب مدير المصرف الزراعي المركزي لدولة حلب، حيث عمل على تطوير زراعة القطن في المناطق الشمالية بسوريا؛ إذ يسر المصرف توزيع بذور القطن على المزارعين شريطة أن يؤدوا (20%) من ثمنها مسبقاً وحسب، على أن يسددوا ما تبقى بعد عشرة شهور، أي بعد جني الموسم وبيعه في السوق العالمية. كما بلغ حجم القروض الزراعية التي منحها دعماً للمزارعين في العام 1924 ثلاثمائة ألف ليرة سورية، وهو مبلغ ضخم لم يسبق للمصرف الزراعي أن أقرضه في عام واحد منذ تأسيسه.

أخيراً، ونتيجة لمركزه الاقتصادي والزراعي انتخب عضواً في مجلس إدارة غرفة زراعة حلب في العامين 1926 و1928.

إصداره مجلة “الجريدة الزراعية

أدرك الملاّح أن الزراعة في بلادنا تؤلف أهم موارد الإنتاج التي هي عماد نهضتها وواسطة تقدمها الاقتصادي. ولهذا أولاها جل اهتمامه، فعمل على النهوض بالواقع الزراعي وسعى إلى تطوير الزراعة في جميع المجالات العلمية والعملية، مسخراً في ذلك كل ما توافر لديه من إمكانات وطاقات مادية وفكرية، ومن أهم المشروعات التي كانت لبصماته الأثر الواضح في تفاصيلها إصداره مجلة “الجريدة الزراعية” بحلب بين العامين 1924 و1925، التي كانت من أوائل المجلات السورية المتخصصة بالاقتصاد الزراعي.

كانت “الجريدة الزراعية” مجلة مصورة نصف شهرية تصدر بالعربية، ولها ملحق بالفرنسية بعنوان Revue Agricole Illustrée، وتهدف إلى خدمة الزراعة والزُراع، وأن تقدم لهم الإرشادات وتدعوهم لإدخال المكننة الحديثة في العمليات الزراعية، نظراً لما لها من دور كبير في زيادة الإنتاج وتخفيض تكلفته وزيادة مساحة الرقعة الزراعية لتلبية الاحتياجات البشرية المتزايدة من المحاصيل الغذائية والتجارية بدل الوسائل التقليدية. وسرعان ما استقطبت المجلة أقلام نخبة مختارة من الباحثين والدارسين في مختلف التخصصات ذات الصلة حتى أصبحت واحدة من المجلات العلمية المختصة التي تحظى بمكانة خاصة. وكان الملاّح يذيل مقالاته فيها بعبارة (الفلاح الحلبي) مما يدل على تواضعه وسعة أفقه.

بُذكر أن صحيفة “لسان الحال” البيروتية نشرت في صيف العام 1924 تقريراً عرضت فيه لجوانب من الدور الرائد، الذي اضطلع به الملاّح في ميداني النشر الصحفي الزراعي والإرشاد الزراعي، وإطلاقه المبادرات الرامية إلى تنمية الموارد الزراعية، ومما جاء فيه أنه “عزم على اصدار جريدة اسمها “الجريدة الزراعية” يكتبها هيئة من علماء الزراعة وكبار الزراع، تصدر في مبدأ ومنتصف كل شهر، ذات 64 صحيفة، موشحة بالصور والرسوم الزراعية وصور كبار الزراع وخادمي الزراعة، وتعنى بجميع الشؤون الزراعية، وتربية الدجاج، والمواشي، والكلاب، والنحل، ودود القز، وغير ذلك مما يتعلق بصناعة الزراعة، ومعداتها، وآلاتها، وقوانينها. وتقوم باحتفال سنوي تعرض فيه المسابقات الزراعية، التي تفتتحها بين مشتركيها، وتوزع الجوائز لمن يربح في تلك المسابقات”.

جهوده للنهوض بالواقع الزراعي في البلاد

لم تقتصر دعوة الملاّح إلى إدخال المكننة الحديثة في العمليات الزراعية على الجانب العلمي النظري وحده، وإنما تعدت ذلك إلى الجانب العملي التطبيقي أيضاً؛ إذ كان من أوائل أصحاب وكالات كافة أنواع الآليات الصناعية والزراعية بحلب، والمنتقاة من أشهر وأهم المصانع الأوروبية والأمريكية، ومن أبرزها شركة “دوبلكس” الأمريكية (Duplex Mill & Mfg. Co) الشهيرة المتخصصة بتصنيع المطاحن وآلات غربلة الحبوب، والتي كان وكيلها الحصري في سوريا. ومما امتاز به محله، الذي اتخذ من شارع النصر بحلب عنواناً له، هو تقديمه خدمات ما بعد البيع، التي شملت تركيب الآليات وتشغيلها والتدريب على استخدامها على أيدي مهندسين متخصصين، واستعداده لعقد المقاولات، ومنحه تسهيلات في السداد تتمثل في تحصيل نصف الثمن على أقساط. إلى جانب تأسيسه شركة لتصدير الحبوب والغلال، والتي كانت تمارس نشاطها التجاري في الخان العائد لعائلته المسمى بـ”خان الباشا” في محلة خان السبيل.

وكان وزير الزراعة الفرنسية قد كرم الملاّح في العام 1923 بمنحه وسام “الاستحقاق الزراعي” بدرجة فارس (شوفاليه)، وهو الوسام الرفيع الذي تمنحه الحكومة الفرنسية تقديراً للشخصيات التي تقدم خدمات جليلة في القطاع الزراعي.

واصل الملاّح جهوده ومبادراته الرائدة الرامية إلى النهوض بالواقع الزراعي في سوريا، متحملاً أعباء مالية كبيرة في مسعى منه لتخطي كافة العقبات والصعوبـات التي اعترضت طريقه، ومن أهمها أن المزارعين في بلادنا كانوا يستغربون ما يقدمه من طرق وأساليب زراعية حديثة لاعتقادهم بأن الزراعة إنما هي حرفة عملية تكتسب بالتقليد والمحاكاة ولا تحتاج إلى المعرفة العلمية والتطبيق العملي لها.

كما أن نشاطه الاقتصادي تضرر بشكل بالغ إبان الأزمة الاقتصادية العالمية (1929-1931)، التي ظهرت أولى آثارها على شكل انخفاض حاد في أسعار الحبوب والقطن وصعوبة بالغة في تسويقهما؛ فتكبد ووالده، الملاّح باشا، خسارات فادحة في مجال تصدير القطن والحبوب اللذين كانا يعتمدان عليهما في نشاطهما الزراعي والتجاري، بالإضافة إلى الآثار السلبية المترتبة على اجتياح موجة جفاف حادة للبلاد استمرت وفق وتائر مختلفة قرابة سبع سنوات ابتداءً من العام 1926.

بروزه في الحركة الوطنية

لم تشغله جهوده للنهوض بالواقع الزراعي في البلاد عن المشاركة في المشهد السياسي؛ فبرز في الحركات الوطنية، ونادى بالوحدة السورية بعدما مزقها الفرنسيون إلى دويلات. واضطلع إلى جانب إخوانه من الساسة الوطنيين إبراهيم هنانو والدكتور حسن فؤاد إبراهيم باشا وجميل إبراهيم باشا والدكتور عبد الرحمن الكيالي وسعد الله الجابري ورشدي الكيخيا في العام 1926 بدور رئيس في إسقاط محاولة سلطات الانتداب فصل ولاية حلب عن الدولة السورية وجعلها دولة مستقلة من جديد؛ فاعتقل وحوكم وسجن ستة أشهر وغرم مالياً.

رحيله

في مساء يوم من أيام نيسان/ أبريل العام 1931 غيب الموت عبد القادر ناصح بك الملاّح وهو لايزال في أوج عطائه، وبرحيله فقدت البلاد شخصية فذة متعددة القدرات والاهتمامات ومتكاملة الجوانب والأبعاد؛ فقد كان شاعراً وأديباً، واقتصادياً وسياسياً، وزعيماً وطنياً، ومربياً تخرجت على يديه نخبة من الأخصائيين الزراعيين، ورائداً من رواد الزراعة الحديثة في سوريا، وكذلك رائداً من رواد الصحافة الاختصاصية والعمل النقابي في كل من سوريا وتركيا. ومما يؤسف له أنه لم ينل بعد حقه من البحث والدرس.

* مترجم وباحث في التاريخ السوري المعاصر.

_________________________________

من مقالات العدد الثاني من مجلة (العربي القديم) الصادر في آب/ أغسطس 2023

زر الذهاب إلى الأعلى