دلالات وقضايا | كتابة التَّاريخ في أولمبياد باريس... بين شامبليون والفراعنة
مهنا بلال الرشيد – العربي القديم
نبارك في مستهلِّ هذا المقال للرِّياضيِّين العرب إنجازاتهم في أولمبياد باريس 2024، ونحيِّي الرِّياضيِّين الَّذين مثَّلوا لاجئي العالم، ورفعوا رايتهم، ولفتوا أنظار العالم إلى ضرورة تخليصهم من جلَّاديهم وديكتاتوريَّاتهم وأمراء الحروب الَّذين شرَّدوهم من أوطانهم.
غير أنَّ الإخلاص لعنوان هذا المقال يدعونا لنخصَّ الرِّياضيِّين المصريِّين المشهورين بلقب الفراعنة بباقة ورد وتحيَّة خاصَّة، وهم الَّذين اشتهروا بلقبهم، واعتَّزُّوا به، ودافعوا عنه بشراسة منذ عقود طويلة؛ نظرًا لما يحمله هذا اللَّقب من دلالات عميقة، تستحقُّ إعداد أمهر الرِّياضيِّين للدِّفاع عنه وعن دلالاته، حيث تستحقُّ المرأة الحديديَّة أو المبارزة المصريَّة ندى حافظ أن نشيد بمشاركتها وتميُّزها برغم ظروف حملها، فيما حقَّق المصريُّ محمَّد السَّيِّد ميداليَّة مبارزة السَّيف البرونزيَّة، وفاز منتخب مصر بكرة اليد على منتخب النِّرويج وصيف الأولمبياد السَّابق في طوكيو، وسيلتقي منتخب المغرب الأولمبيُّ لكرة القدم مع منتخب إسبانيا، وسيواجه منتخب الفراعنة منتخب فرنسا بعد فوزه على منتخب الباراغواي بركلات التَّرجيح، وسيضمن منتخب المغرب أو منتخب الفراعنة ميداليَّة واحدة على الأقلِّ نتيجة هذه المباريات؛ وبهذا التَّقديم ينتهي الحديث عن أولمبياد باريس في مقالنا هذا، ويبدأ حديثنا عن دور الفراعنة في كتابة تاريخ البشريَّة القديم ودور شامبليون في قراءة صفحات طويلة من أمجاد الفراعنة في غرونوبل وباريس؛ فمن هو شامبليون؟
جان فرانسوا شامبليون (1790-1832)
وُلد جان فرانسوا شامبليون في 23 كانون الأوَّل-ديسمبر 1790 في مرحلة كانت تعاني فيها والدته من مرض عُضال؛ فتنبَّأ لها السَّاحر جاكو بشفائها وإنجابها طفلًا سيكون له شأن في المستقبل مع اشتداد أمواج الثَّورة الفرنسيَّة المطالبة بالحرِّيَّة، وبين هذه الهُتافات نشأ الطِّفل جان فرانسوا شامبليون صاحب الملامح الشَّرقيَّة، وتنقَّل بين فيجاك وغرونوبل وباريس. وتتلمذ على أيادي كلٍّ من أخيه جاك جوزيف والرَّاهب دوسِّير وسيلفستر دي ساسي، وبرغم فشله في الرِّياضيَّات أتقن القبطيَّة المصريَّة مثل الفرنسيَّة، وتعلَّم العربيَّة والعبريَّة والخَلديَّة واليونانيَّة واللَّاتينيَّة، وحفظ أشعار فيرجيل وهوميروس عن ظهر قلب، وشرح نصًّا عبريًّا توراتيًّا في مرحلة مبكِّرة من حياته، وعندما صار جان باتيست فورييه رئيسًا لمدينة غرونوبل بعد عودته من حملة نابليون في مصر شاهد جان فرانسوا شامبليون خلال جولة من جولات التَّفتيش في أكاديميَّة غرونوبل؛ فأُعجب بذكاء هذا الفتى، ووعده بإطلاعه على مجموعة مقتنيات فورييه من كنوز الآثار المصريَّة القديمة، وتشوَّق شامبليون لهذه الفكرة كثيرًا بعد أن قرأ عن اكتشاف حجر رشيد سنة 1798.
حجر رشيد
عندما حاصرت البحريَّة الإنكليزيَّة جنود نابليون، وقصفتهم من داخل البحر، وحاصرهم الأتراك العثمانيُّون من ناحية البرِّ أمر بوشار ضابط العمليَّات لدى نابليون جنوده الفرنسيِّين أن يحفروا الخنادق والأنفاق في قلعة رشيد على بعد سبعة كيلومترات من دلتا النِّيل، وخلال الحفر عثر أحد الجنود العرب على حجر من البازلت الأسود؛ عليه رموز كتابيَّة بثلاث لغات؛ إنَّه حجر رشيد، الَّذي استطاع أحد الجنود قراءة قسمه اليونانيَّ، الَّذي تضمَّن مرسومًا يقرُّ فيه كهنة منفيس سنة 196 قبل الميلاد بمضاعفة فروض الولاء للملك بطليموس الخامس وأحفاده في المعابد المصريَّة.
نُقل حجر رشيد إلى المعهد المصريِّ، الَّذي أسَّسه نابليون في القاهرة، ونُسخ، وأُرسلت نسخه إلى فرنسا، ثمَّ وُضع الحجر في منزل مينو القائد الفرنسيِّ العامِّ في الإسكندريَّة، ثمَّ استسلم مينو والجيش الفرنسيُّ للجيوش الإنكليزيَّة، الَّتي نزلت في الإسكندريَّة سنة 1801، وتضمَّنت معاهدة الاستسلام تسليم جميع القطع الأثريَّة، الَّتي جمعها الفرنسيُّون من حوض النِّيل خلال الأعوام الثَّلاثة الأخيرة؛ فحاول الفرنسيُّون الاحتفاظ بحجر رشيد؛ لأنَّه ملكيَّة خاصَّة للجنرال مينو، وهذه لا تخضع لبنود معاهدة الاستسلام بحسب إعلانهم، لكنَّ القائد الإنكليزيَّ الأعلى اللُّورد هاتشينسون اعتبر قضيَّة حجر رشيد تمسُّ العلم والتَّاج البريطانيَّ، وبعد مجموعة من العبارات الجارحة الَّتي أطلقها تيرنير مفوَّض هاتشينسون على مسامع الضُّبَّاط الفرنسيِّين المستسلمين، انتزع منهم حجر رشيد، وأرسله إلى المتحف البريطانيِّ بعد وصوله إلى مدينة بورتسموث الإنكليزيَّة سنة 1802.
الهيروغليفيَّة قبل شامبليون
حاول كوخ مستشار البلاط الرُّوسيِّ في بطرسبرج أن يبرهن أنَّ قدماء المصريِّين استخدموا خمس أبجديَّات دون زيادة أو نقصان. ورأى الكونت بالين أنَّ ترجمة مزامير داوود إلى الصِّينيَّة أو كتابتها برموز الصِّينيَّة القديمة ستعطينا نسخة من البرديَّات المصريَّة. ودعا غورأبولُّون إلى عدم إتعاب الرَّأس بترجمة الهيروغليفيَّة. واعتقد الرَّاهب توندو دي سان نيكولا أنَّ الهيروغليفات على حجر رشيد أو غيرها ليست إلَّا زخارف وتزيينات. وطرح الأسقف الإنكليزيُّ وليام ووربيترون سنة 1740 فرضيَّة مهمَّة رأى فيها أنَّ الهيرغليفات أو الحروف الهيرغليفيَّة ليست مجرَّد إيدوغرامات تدلُّ على بعض الأفكار، بل إنَّ النُّصوص الهيروغليفيَّة لا تتضمَّن محتوى دينيًّا وحسب، وإنَّما تحتوي على عناصر لغويَّة لفظيَّة. وظلَّت تتعثَّر انطلاقة علم المصريَّات الأولى، وتعاني من الفرضيَّات السَّخيفة حتَّى جاء العالم الدَّانماركيُّ كارستن نيبور، وأقام في القاهرة بين 1761-1762، ونسخ كثيرًا من النُّقوش الهيروغليفيَّة، وميَّز الرُّموز الكتابيَّة الكبرى من الرُّموز الكتابيَّة الصُّغرى، واستنتج أنَّ الرُّموز الصُّغرى مفسِّرات أو محدِّدات لدلالات الرُّموز الكبرى ومعانيها، وأكَّد أنَّ عدد الهيروغليفات ليس كبيرًا من النَّاحية النِّسبيَّة، وبهذا وضع نيبور حجر الأساس الأولى في ميدان فكِّ شيفرة اللُّغة الهيروغليفيَّة وقراءة نصوصها. وشرع توماس يونغ في شهر أيَّار 1814 بدراسة القسم الدِّيموطيقيِّ (أي أحدث شكل من أشكال الكتابة الهيروغليفيَّة في حجر رشيد)، وحدَّد الكلمات المكرَّرة أو المتوافقة مع مثيلاتها في النَّصِّ اليونانيِّ، وقسَّم كلًّا من النَّصَّ (الهيروغليفيَّ: أقدم شكل من أشكال الكتابة المصريَّة القديمة حوالي 1500 ق.م) والنَّصَّ (الدِّيموطيقيَّ: أحدث شكل من أشكال الكتابة المصريَّة القديمة بين 1000-400 ق.م) إلى كلمات منفصلة، فتطابقت كلمات النَّصِّين المترجمين إلى نصٍّ يونانيٍّ منقوش على الحجر.
حدَّد توماس يونغ معنى بعض الهيروغليفات، ووضع سنة 1818 فهرسًا لـ 14 رمزًا هيروغليفيًّا و218 كلمة هيروغليفيَّة، كان رُبعها صحيحًا. وعمل المستشرق الباريسيُّ الشَّهير وأحد أساتذة شامبليون سيلفستر دي ساسي على نسخة من نُسخ حجر رشيد بعدما وضع مفتاحًا لقراة البهلويَّة؛ لغة الفُرس القديمة، وبرغم معاناته مع رموز حجر رشيد استطاع أن يقرأ فيها أسماء: (بطليموس، الكسندر، ارسينوي، وإيبيفان)، وتتبَّع هذه الأسماء في لغات حجر رشيد الثَّلاث. وأرسل نسخة من حجر رشيد على شكل قالب من الجِبس إلى العالم الفيلولوجيِّ والدِّبلوماسيِّ السُّويديِّ أوكيربلاد؛ فقرأ جميع أسماء الأعلام الواردة في النَّصِّ اليونانيِّ، ووزَّع الأسماء اليونانيَّة المكتوبة بالرُّموز الدَّيموطيقيَّة إلى أحرف متفرِّقة، فتحصَّل على أبجديَّة من 16 حرفًا دخلت في كتابة هذه الأسماء، كما تعرَّف على ضمير الغائب أو ضمير الشَّخص الثَّالث في نهاية الأسماء، وكشف عن الأعداد التَّرتيبيَّة: الأوَّل والثَّاني والثَّالث خلال إشارتها إلى ثلاثة معابد قديمة في حجر رشيد.
مصطلحات مهمَّة في تاريخ الكتابة
قطعت الكتابة البشريَّة أشواطًا مهمَّة كبيرة حتَّى وصلتنا بصورتها الأبجديَّة الرَّاهنة، فانطلقت رحلة الكتابة الأولى من تقليد الطَّبيعة والكتابة بالأشياء؛ فالغيوم تقول: إنَّ السَّماء سوف تمطر، ونجوم اللَّيل السَّاطعة تقول: إنَّنا في ليلة صيفيَّة، ويقول الشَّفق لنا: إنَّ الشَّمس على وشك المغيب، وبمثل هذه الطَّريقة استخدم البشر الكتابة بالأشياء؛ فدلُّوا على الأرقام من خلال الكتابة بالعُقد على الخيوط للدَّلالة على الأعداد والكمِّيَّات، وبلَّغوا بعض الرَّسائل بالكتابة البيكتوغرافيَّة أو الكتابة التَّصويريَّة الأيقونيَّة من خلال رسم الصُّور على جدران الكهوف والصَّولجانات وألواح الخشب، وطوَّروا الكتابة البيكتوغرافيَّة إلى الكتابة الإيدوغرافيَّة أو كتابة الأفكار كمرحلة أعلى من مراحل تطوُّر الكتابة التَّصويريَّة؛ فظهر التَّواصل بالنَّار والدُّخان، وقطعت الكتابة المقطعيَّة الإيدوغرافيَّة الصِّينيَّة مرحلة مهمَّة من مراحل التَّطوُّر والسُّهولة والشُّيوع والانتشار؛ فأطلق عليها ليبينتس اسم باسينوغرافيا أو الكتابة للجميع، وعندما قطعت لغة أحفاد الإيبلاويِّين من فينيقيِّي السَّاحل السُّوريِّ شوطًا مهمًّا نحو الَّتجريد والتَّرميز في جبيل-بيبلوس في لبنان أطلق دوبلهوفر وفريديريك على نصوصهم وكتاباتهم اسم النُّصوص الجبيليَّة وما قبل الجبيليَّة، وأطلقوا على كتابتهم اسم الكتابة الإيبيغرافيَّة.
كيف قرأ شامبليون لغة الفراعنة وتاريخهم العظيم في باريس؟
في باريس سنة 1808 شاهد شامبليون أوَّل نسخة من نقوش حجر رشيد، الَّذي استولى عليه الإنكليز، وبرغم حيازة الإنكليز الحَجر فاز شامبليون بمجد قراءته، وفكَّ شيفرة لغاته، وحقَّق بذلك شهرته العالميَّة بعد بحث طويل استهلك معظم سنوات عمره القصير أساسًا. واستفاد شامبليون من إتقانه مجموعة كبيرة من اللُّغات العالميَّة، لا سيَّما القديمة منها؛ كالعربيَّة والعبريَّة والقبطيَّة، الَّتي تشترك مع (الدِّيموطيقيَّة: أحدث شكل من أشكال الكتابة المصريَّة القديمة حوالي 400 ق.م)، بعدد كبير من المفردات، فعندما جاء الإسكندر المقدونيُّ مع لغته اليونانيَّة أو الهيلينيَّة إلى الشَّرق حوالي 333 ق.م كانت الكتابة الدِّيموطيقيَّة بوصفها أحدث شكل من أشكال الكتابة المصريَّة القديمة منتشرة في مصر الفرعونيَّة؛ ونتيجة للاحتلال اليونانيِّ صارت لغة أقباط مصر المحكيَّة خليطًا من الهيروغليفيَّة والهيراطيقيَّة والدِّيموطيقيَّة (لغات الدِّين والآداب المصريَّة القديمة) ولغة الاحتلال اليونانيِّ، الَّتي فرضها البطالمة ورثة الإسكندر المقدونيِّ في مصر؛ ونظرًا لإتقان شامبليون القبطيَّة بوصفها وريثة الدِّيموطيقيَّة الفرعونيَّة انطلق في فكِّ شيفرة اللُّغات الفرعونيَّة القديمة من الدِّيموطيقيَّة؛ لأنَّها أحدث شكل من أشكال كتابتها، واستفاد من جهود علماء الفيلولوجيا السَّابقين في قولهم: إنِّ أسماء الملوك تكتب داخل أشكال أو إطارات بيضويَّة، كما وظَّف ترجمة النَّصِّ اليونانيَّة، فعثر على اسم بطليموس باليونانيَّة والدِيموطيقيَّة، وحدَّد مقابلات حروفه بالأشكال القديمة، وكتب هذا الاسم بالهيراطيقيَّة والهيروغليفيَّة، وكانت كتابته واستنتاجاته صحيحة تمامًا، وعندما شاهد اسم كليوباترا باليونانيَّة على صورة من صور المسلَّات الفرعونيَّة القديمة، كتب هذا الاسم باللُّغات المصريَّة القديمة كتابة صحيحة برموزه الهيروغليفيَّة والهيراطيقيَّة دون أن يراها من قبل، وبهذه الطَّريقة بدأ مشروع شامبليون الطَّموح جدًّا في فكِّ شيفرات اللُّغة الهيروغليفيَّة وقراءة تاريخ الفراعنة وكتابته مجدًّدًا على أسس علميَّة دقيقة ورصينة تعتمد على الوثائق والمصادر بعيدًا عن الأهواء والتَّخمين والآراء المتناقضة.
ثمَّ انكبَّ شامبليون على الهيروغليفيَّات المنقوشة والكتابات الهيراطيقيَّة، الَّتي عثر عليها في كتب الموتى المستخرجة من المقابر الفرعونيَّة؛ تلك الَّتي نشرت المجلَّدات الفرنسيَّة نصوصها في سلسلة مجلَّدات (وصف مصر)؛ فقارنها شامبليون مرَّة بعد مرَّة، وأنجز مقارنته في أيَّار-مايو 1821، «وصار بإمكانه أن يعيد كتابة النَّصِّ الدِّيموطيقيِّ رمزًا بعد رمز بواسطة الكتابة الهيراطيقيَّة وأن يعيد كتابة هذه بالهيروغليفات، وهو ما لم يكن بمقدور أيِّ إنسان من سابقيه أن يقوم به. وأحصى شامبليون يوم عيد ميلاده في الـ23 من كانون الأوَّل 1821 رموز النَّصِّ الهيروغليفيِّ وجميع المفردات اليونانيَّة في حجر رشيد. وقد اتَّضح له أنَّ الـ 486 كلمة يونانيَّة كانت تقابل بـ1419 هيروغليفيًّا، وعلى هذا ما كان من الممكن أن تكون الهيروغليفيَّات كلمات-رموزًا ولا إيدوغرامات ولا رموزًا مجرَّدة. فعددها أكبر من أن يسمح لها بذلك! ذاك ما أظهرته حساباته بالمنطق الحديديِّ للحقائق»، واعتمد شامبليون اسم بطليموس داخل الإطار البيضويِّ الملكيِّ مِحَكًّا لعمله؛ فكانت كتاباته صحيحة تمامًا، وحمل نتائج عمله من غرونوبل إلى باريس، وتعرَّف إلى علامة التَّأنيث في نهاية اسم كليوباترة في إحدى البرديَّات سنة 1822؛ فكتبه بالأشكال الثَّلاثة (الدِّيموطيقيِّ والهيراقليطيِّ والهيروغليفيِّ)؛ وبهذا قدَّم الإطاران البيضويَّان الملكيَّان لاسمي: بطليموس وكليوباترة أرضيَّة ثابتة تتألَّف من 12 حرفًا هيروغليفيًّا.
وفي آب سنة 1822 فكَّ شامبليون شيفرة المحدِّدات في الكتابة الهيروغليفيَّة بعدما لاحظ أنَّ أسماء بعض النُّجوم يُرسم خلفها صورة نجم صغير، وهكذا اكتشف حقيقة الكتابة الهيروغليفيَّة بوصفها خليطًا-تطوَّر على ثلاث مراحل-من الأصوات الحروف والرُّموز الكلمات والمحدِّدات الَّتي تدلُّ على مجال الكلمة أو حقلها الدَّلاليِّ بمصطلحات هذه الأيَّام؛ فكلمة (برُّ) في العربيَّة تدلُّ على حقول دلاليَّة متعدِّدة؛ لذلك تحتاج إلى محدِّد خلفها لو كتبناها بالهيروغليفيَّة؛ فهي تدلُّ على (الصَّحراء أو البَرِّ)، وتدلُّ عبى (برِّ الوالدين)، وتدلُّ على (القمح)؛ ولكي يبعد الفراعنة مثل هذا اللّبس عن دلالة كتابتهم وضعوا المحدِّدات؛ فالسَّنبلة-مثلًا-تحدِّد مجال القمح أو حقل القمح.
ظلَّ شامبليون يعمل بصمت حتَّى تمكَّن من فكِّ شيفرات معظم الرُّموز الهيروغليفيَّة، وتلا في 22 آب نتيجة مقالته حول الكتابة الدِّيموطيقيَّة في أكاديميَّة النُّقوش بعد بحوث طويلة أنجزها في عشرات السِّنين؛ فنهض أستاذه سيلفستر دي ساسي من بين الجماهير الحاضرة أمامه، وفتح ذراعيه للعالم الشَّابِّ الَّذي أضاء تاريخ مصر القديم بمنهجيَّة علميَّة رصينة وأرضيَّة صلبة، وأوصى أن تطبع فرنسا مؤلَّفات شامبليون، وتنشرها على نفقتها. وفي 14 أيلول-سبتمبر 1822 قرأ شامبليون بالهيروغليفيَّة اسمين من أعظم أسماء الفراعنة؛ إنَّهما: رمسيس وتحوتمس، واستنتج أنَّ المحدِّدات وتطوُّرات أشكال اللُّغة في مراحلها المتعدِّدة والمتلاحقة جاءت رغبة للتَّسهيل في مواجهة صعوبة الكتابة أو انحطاها في بعض المراحل؛ وأمسك بذلك بمفاتيح تاريخ مصر الفرعونيِّ القديم، ثمَّ ألَّف رسالة حول أبجديَّة الهريوغليفات اللَّفظيَّة 1822، ودراسة في النِّظام الهيروغليفيِّ لقدماء المصريِّين 1824، وتكلَّلت حياته بالسَّفر إلى مصر أمِّ الدُّنيا الَّتي أحبَّها، وشعر بالانتماء إلى ثقافتها، وعندما وصلها شعر بسعادة من يتجوَّل بين أملاكه الخاصَّة، وبعد ذلك راحت تشتدُّ عليه وطأة السِّلِّ والسِّكَّريِّ؛ فقال: يا إلهي! فقط عامين لا أكثر، لم لا؟ وقال: ما يزال هناك الكثير! وفي الرَّابع من آذار سنة 1832 فارق شامبليون الحياة، ومشى في جنازته كبار علماء الفيلولوجيا والتَّاريخ والآثار والنُّقوش مثل أستاذه سيلفستر دي ساسي والكسندر فون هومبلدت، وبرغم حياة شامبليون القصيرة أسَّس علم المصريَّات، وأطلق شعاعًا طويلًا من الأمل والإلهام في مجال كتابة التَّاريخ وتفسيره على بهداية ضوء واضح من علم الفيلولوجيا أو فقه اللُّغة المقارن.