طرابلس الشام وعِشرة الكرام

محمد منصور
في الوقت الذي كان فيه علويو سوريا، يرسلون العرائض إلى وزير الخارجية الفرنسية ليون بلوم في ثلاثينات القرن العشرين، معبرين فيها عن قلقهم، ورفضهم الالتحاق بسوريا الأم، ومطالبين بعدم منح سوريا استقلالها، لافتين نظرسعادته: “إلى ما ينتظر العلويين من مصير مخيف وفظيع، في حالة إرغامهم على الالتحاق بسوريا، عندما تتخلص من مراقبة الانتداب، ويصبح في إمكانها أن تطبق القوانين والأنظمة المستمدة من دينها”. كان بلوم نفسه يتلقى عرائض من أهالي ووجهاء طرابلس، تطلب منه إعادة مدينتهم إلى حضن سوريا، بعد إلحاقهم قسراً بدولة لبنان الكبير، على يد مؤسسها الجنرال غورو… وقد بلغ من حنق بلوم من إلحاح الطرابلسيين الذين لم يتركوا وسيلة أو باباً إلا وطرقوه، أن نبه الوفد الطرابلسي الذي قصد باريس لملاقاته وتسليمه عريضة جديدة في نيسان عام 1937، بعد العرائض التي حمّلوها لرجال الكتلة الوطنية، لدى سفرهم إلى باريس في آذار عام 1936، أن نبههم إلى أنه “عارف بأمر العريضة، وكان بوسعهم أن يبعثوا بها عن طريق المفوضية العليا بدل تجشمهم عناء السفر”، حسبما نقلت صحيفة (الجامعة الإسلامية) في عددها الصادر بتاريخ 16 نيسان 1937.
وفي سوريا لم يترك الطرابلسيون تياراً سياسياً لم يبلّغوه رغبتهم تلك، فقد تواصلوا مع رجال الكتلة الوطنية بهذا الصدد، وأقاموا لهم المهرجانات الحاشدة في مدينتهم الفيحاء، كما تواصلوا مع مناوئيهم، أمثال الزعيم الوطني د. عبد الرحمن الشهبندر الذين زاروه في دمشق، بعد عودته من مصر، وأبلغوه رغبتهم تلك… وليس غريباً ان تنتمي طرابلس إلى سوريا تاريخاً وجغرافيا وصلات قربى… فمن يخالط أهل حمص المدينة الأقرب والتوءم لطرابلس، ويذوق طيب وظرف معشرهم لابد، وأن يعشق سوريا، ويروم وحدتها… فكيف إذا كانت هذه الوحدة أمراً معاشاً لقرون وقرون… وكيف إذا كان رجال سوريا هم رجال طرابلس وشامها، فقد كان عبد العزيز العظمة شقيق وزير الحربية الشهيد يوسف العظمة متصرف طرابلس في العهد العثماني، أي في مطلع القرن العشرين، قبل أن يطلب إحالته للمعاش… وكان آل الطرابلسي جزءاً من نسيج دمشق، وأعرق أنساب عائلاتها.
وخلال سنوات الثورة السورية، ثمة الكثير، مما يقال عن طرابلس الاستثناء في الوفاء وحسن الجوار، وصدق المؤازرة في وجه الطغيان… فقد كانت طرابلس على الدوام رفيقة الدرب السوري، نالها من أذى وإجرام نظام الأسد ما نال حماة، وحمص، وحلب، ودمشق، وسائر المدن السورية، فعرفت هذه المدينة وأهلها الوجه الحقيقي للنظام الشعاراتي المراوغ باكراً، وخبرت شوارعها حجم إجرام الأسد في حقبة الثمانينات الدامية ذاتها، التي قتل فيها نظام الإجرام الوظيفي خيرة شباب حماة، وحمص، وحلب، في مجازر لا تنسى، وغيبهم في حملات اعتقال، لوعت قلوب الآباء والأمهات لعقود… فكانت مواقف طرابلس المشرفة في نصرة الثورة السورية خير رد على ذلك الماضي الأسود الذي لم ولن يُنسى.
إن عدد (العربي القديم) الخاص، الذي يساهم فيه ثلة من الكتاب السوريين من أجيال مختلفة، هو تحية لمدينة طرابلس ولأهلها، تحية لتاريخها المضيء الذي يستحق أن يُقرأ بفخر، ولحاضرها الممتلئ شهامة ومروءة الذي يستحق أن يحفظ ويوثق قبل أن يغدو ماضياً؛ لأنه يؤكد أصالة الموقف وطيب الانتماء، فطرابلس الشام لم تبع، ولم تفرّط يوماً، ولم تضيع أي فرصة للتعبير عن معدنها الثمين.
في السراء والضراء، كانت مع سوريا الحرية والأحرار الذين لا ينتسبون إلا إلى البلد، وأناسه وثقافته وتاريخه الحافل بالتنوع، وضد سوريا الأسد حيث الطغيان والفساد الطائفي والإجرام والأحقاد المريضة التي تعبر عن ذاتها عبر تاريخ من مجازر القتل والإبادة، وإساءة استخدام السلطة. إنها بحق رفيقة الدرب السوري التي ينعم فيها الصاحب بقيم الخير والأمان، ونبل الرجال في شتى الأزمان.
_________________________________________
افتتاحية رئيس التحرير في العدد السادس عشر من (العربي القديم) الخاص بطرابلس الشام، تشرين الأول – أكتوبر 2024