الرأي العام

نوافذ الإثنين | عن القبر والتمر والهوية

ميخائيل سعد

منذ أكثر من خمس سنوات، لا يكاد يمر أسبوع دون مناقشة أهمية تأمين قبر لكل واحد منا في زاوية المسنين، ومع كل وفاة لأحد الأشخاص الذين نعرفهم، تتجدد الأسئلة ويزداد البحث عن التفاصيل: أين أُقبر؟ في مقبرة السنة أو عند الشيعة؟ في مقابر الكاثوليك أو مقابر الأرثوذكس؟ في مقبرة الدروز أو مقبرة الاسماعيليين؟ (نحن مبعثرون طائفيا حتـى في موتنا ومقابرنا)، مَن منا اشترى قبرا؟ كم ثمن القبر عند كل طائفة؟ هل توجد قبور مجانية؟

يمتد الحديث وتكثر الأسئلة، ويحتد النقاش بين جماعة المسنين دون الوصول إلى اتفاق حول الموضوع المُثار، وحسما للنقاش، في كل مرة، يتم تكليف الأصغر عمرا في المجموعة للبحث والتحري عن إجابات للأسئلة التي تضيع في الطريق، فلا تصل.

بداية تعرفي على القبر والفاتحة

عام 1954 كان عمري خمس سنوات، وكنت مع أهلي نسكن في غرفة كبيرة في بيت عربي كبير، فيه العديد من الغرف المؤَجرة للريفيين المنتسبين للجيش والشرطة، بيت يفصله شارع ترابي وفسحة كبيرة خالية من كل شيء، عن مقبرة المزة التي كانت معلبنا نهارا، مصدر أحلامنا المرعبة ليلا. أحد الأيام كنت ومجموعة من أولاد الحي نلعب قرب المقبرة عندما جاءت مجموعة كبيرة من البشر إلى المقبرة وتحلقوا حول حفرة، تابعنا لعبنا حتـى رأينا بعض الناس يمرون بقربنا وهم يحملون أرغفة خبز عليها تمر فتركنا لعبنا واتجهنا إلى مكان توزيع الطعام، عندما جاء دوري ووصلت أمام الرجل الذي يوزع الخبز والتمر، قال: افتح يديك، فأطعت، فوضع رغيفا من الخبز (كماجة) في يدي، ووضع فوقه كمشة تمر، وقال لي: اقرأ الفاتحة على روح المرحوم، تقدمت دون أن أتكلم، وجاء من كان بعدي في الصف ليأخذ نصيبه.

عاد أبي الشرطي مساء من عمله، وحلقنا حول طبق القش الكبير لتناول العشاء. قال أبي كعادته كل يوم عند بداية الطعام: بسم الله، والحمد لله، عند الشبع، مع رسم إشارة الصليب على وجهه وصدره، في المرتين، وكان علينا تقليده.

سألت أبي: شو هي الفاتحة؟ وحكيت له عن وجبة التمر والخبز الدسمة. قال غدا بعد العشاء أقول لك ما هي الفاتحة. في اليوم التالي أحضر أبي معه ”جزء عَمَّ“، قرأ وقال لي: ردد ورائي، وعندما حفظتها عن ظهر قلب، قال: هذه هي الفاتحة. منذ ذلك الوقت وأنا أقرأ الفاتحة كلما رغبت بتناول ”كماجة وتمر“.

إسطنبول وقبور المسلمين

في عام الثورة الأول”2011“ استعادت ذاكرتي المهجّرية ذكرى الفاتحة والتمر، ولكن المتظاهرين، وهم يرافقون الشهداء، أضافوا إلى الفاتحة لاحقة: ”سورية بدا حرية“ وكانت القبور الجماعية والفردية لا تكاد تغيب عن عيوني إلا عندما كنت ابتعد عن شاشات التلفزيونات. ولم يمضِ وقت طويل على هروبي من رؤية المقابر المتلفزة حتى وجدتها من جديد ولكن في سياق آخر، قد لا يكون بعيدا جدا عن مقابر ”الحرية“ في سورية. في إسطنبول 2014، تعرفت على اسم الكاتب التركي أورهان باموق، ووقعت في ”غرامه“ بعد قراءتي لأول رواية له ”أسمي أحمر“، ويشاء الهروب السوري إلى تركيا خوفا من الموت الأسدي، أن أتعرف على المرحوم عبد القادر عبدالي، مترجم أغلب أعمال ”باموق“ إلى العربية، وأصبحنا أصدقاء، فشكوت له جهلي بالمدينة العظيمة فنصحني، بقراءة كتاب باموق ”إسطنبول الذكريات والمدينة“. قال: بعض الناس يقولون عنه ”سيرة ذاتية“، وأنا أقول إنها رواية؛ بطلها الرئيسي هي إسطنبول. مع هذه الرواية العظيمة تعرفت على تاريخ وحاضر إسطنبول.

في هذا الكتاب، ينقل باموق القارئ إلى أجواء إسطنبول التي نشأ فيها، مستعرضًا تاريخ المدينة وتطورها الحضاري والثقافي عبر قرون متعاقبة. كما يشارك القارئ في ذكرياته الشخصية والعائلية المرتبطة بهذه المدينة. من النقاط الهامة التي سجلها باموق موقف الكتاب والصحفيين الذين كانوا يزورن إسطنبول، في القرن التاسع عشر، في شهر رمضان، للاهتمام بالثقافة والمعتقدات الإسلامية، وكانت المقابر الإسلامية أماكن مهمة لتوثيق الهندسة المعمارية والفنون، التي تضم أمثلة رائعة للهندسة المعمارية والفنون الإسلامية. ولرصد الحياة الاجتماعية والدينية، فالمقابر الإسلامية كانت تعكس جوانب مهمة من الحياة الاجتماعية والدينية للمجتمع الإسلامي في اسطنبول، مما أثار فضول الكتاب والصحفيين، ولا يمكن تجاهل الدوافع السياسية والأيديولوجية.

بشكل عام، كان هناك تنوع في الدوافع والأسباب وراء هذه الزيارات، تتراوح بين الاهتمام الثقافي والدراسي إلى الدوافع السياسية والاستعمارية.

قراـءة هذا الكاتب دفعتني لزيارة المقابر التركية، السلطانية منها والشعبية، ورأيت كيف يحمل الأتراك الورود والريحان يوم الجمع والأيام الدينية الأخرى إلى قبور أحبابهم وأهلهم، وجعلتني أتفهم أكثر قلق المسنين في مونتريال تجاه هذا الموضوع.

وفهمت أن زيارة القبور في هذه المناسبات لها أهمية دينية واجتماعية كبيرة في الإسلام، حيث تؤكد على ترابط الأسر والمجتمع وتذكير الأحياء بقضاء الله وقدره.

الموت المهاجرين في الغرب، مونتريال مثلاً

التعلق بالجذور والرغبة في الرقاد في المكان الذي ولد فيه الإنسان هي مشاعر إنسانية عميقة. في بعض الثقافات، الدفن بجوار الأجداد له دلالات روحية وتراثية عميقة، وعدم القدرة على تحقيق هذا الأمر قد يشعر المهاجر المسن بفقدان جزء من هويته الاجتماعية والثقافية.، ومجموعتنافي مونتريال لا تختلف عن بقية المجموعات المهاجرة، إلا في بعض الأمور، من أهمها أنها تضم الطيف السوري كله تقريبا.

تشكل مجموعتنا، في زاوية المسنين، نموذجا عن المجتمع السوري بشكل عام، فبيننا المسلم السني، والشيعي، والدرزي، والإسماعيلي، والمسيحي الارثوذكسي، والكاثوليكي، والبروتستانت، وأحيانا يزورنا أفراد من مكونات سورية أخرى. ليس قصدي من هذا التعداد إثارة ”النعرات الطائفية“، وإنما الإشارة إلى تنوع الهموم الناس في العثور على مكان يلبي حاجة كل واحد منا، في نومه الدائم الأخير؛ الدينية والطائفية والاجتماعية والاقتصادية. يجمع الكل قلق الموت في الغربة بعيدا عن قبور أهاليهم وأحبابهم. يقلقهم الموت في مهاجرهم كما كان يقلهم العيش خارج مجتمعاتهم الأصلية، لذلك، حاولوا السكن في تجمعات محددة لحافظوا على عاداتهم، واشتروا، وأسسوا المدراس لتعليم أولادهم لغتهم وأديانهم، وبنوا معابدهم الدينية المختلفة، وفي النهاية أسسوا مقابرهم الخاصة، لذلك أصبح في مونتريال مقابر للسنة وللشيعة والدروز والمسيحيين العرب والاسماعيليين، ومن لا يعجبه أن يكون قبره مع ”جماعته“، يستطيع أن يكتب وصيته محددا فيها خيارات الدفن التي يرغب بها، وفي كندا تشمل الدفن في مقبرة تقليدية، والحرق والدفن البحري، ولكل حالة كلفتها وإجراءاتها القانونية.

أخيرا، للعودة إلى الحياة، أكتب ما حدث مع أحد المسنين الذي لا يغيب عن زاوية المسنين، قال: كلفت أبن أختي بالذهاب إلى مقبرة السنة لمعرفة تسعيرتهم للقبر، وأن يمر بطريق عودته على مقبرة الشيعة، فقد سمعت أن سعر القبر عندهم أرخص، وأحاول شخصيا، عبر علاقات خاصة، تأمين قبر مجاني عند الاسماعيليين.

وتابع صديقنا ابن ال85 سنة، قوله، مبررا بحثه عن قبر رخيص: أفضّل أن استمتع بنقودي وأنا حي، فعندما تجد البلدية، بعد موتي، أنني مفلس، يجبرها القانون على دفني مجانا…..

قلت له: إذا متُّ بعدك، سأوزع على قبرك خبزا وتمرا، وأطلب من الناس قراءة الفاتحة على روحك الطاهرة.

مونتريال 12/8/2024

زر الذهاب إلى الأعلى