أرشيف المجلة الشهرية

من العائلات السياسية إلى زمن بائعي الجولان

محمد منصور – العربي القديم

تُرجع العديد من الدراسات أسباب أفول ظاهرة العائلات السياسية في التاريخ السوري إلى متغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية، ساهمت في ولادة عصر جديد، اختلفت فيه هوية حكامه ونخبه… وإذا أردنا أن نأخذ بسُنة التغيير والتبديل، لآمنّا بأن “دوام الحال من المحال”، سواء اقتنعنا بالأسباب أم لم نقتنع.

لكنني أميل، رغم اهتمامي بدراسة ما يورده الباحثون والمؤرخون من أسباب وتحليلات، إلى تأمل حقيقة تلك المتغيرات، وهل كانت متغيرات طبيعية، ولدت ولادة  طبيعية من رحم سيرورة الحياة وتطور المجتمعات، وتفاعلها مع الأحداث والمتغيرات الكبرى، أم إن ولادتها كانت قيصرية، جاءت بفعل عمل جراحي متعمد، كان هدفه تغيير وجه سورية ومسارها نحو الأسوأ، والأكثر استعصاءً ممّا عشناه ونعيشه اليوم؟!

يعتبر الباحثون أن قانون الإصلاح الزراعي، الذي صدر في عهد الوحدة بين مصر وسورية، هو أحد تلك الأسباب، فقد قلّص سيطرة الملّاك على العمل السياسي، وأضعف قوتهم الاقتصادية، إن لم يكن قد جرّدهم منها. لكن إذا تأملنا في حيثيات صدور هذا القانون، سنجد أنه لم يصدر في عهد نظام ديمقراطي أو سلطة منتخبة بنزاهة، بل صدر في عهد نظام استغل اندفاع السوريين التاريخي نحو حلم الوحدة، كي يصدر قوانينه وتشريعاته التي لم تكن تعبر عن إرادة شعبية وشرعية حقيقية.

أمّا قانون العزل المدني الذي طبقه الانقلابيون البعثيون على كل النخب السياسية التي استردت أنفاسها في عهد الانفصال، والذي مَنع نُخباً بارزة من أن تمارس أي نشاط سياسي، أو مشاركة في الشأن العام، ثم قرر أن يطفش ويطرد النُّخب الذي خشي أن تعكر صفو التوجيه المعنوي، والتعبئة الجماهيرية البعثية في غسيل أدمغة الجماهير، فهو قانون استئصالي 100% لا يحتاج لدليل أو تحليل، وقد استهدف أصحاب النخب والعائلات السياسية ليس من أبناء السنة فقط، بل من باقي الطوائف، فقد طبق على سهيل بن فارس الخوري، وعلى بدوي الجبل بن سليمان الأحمد، مثلما طبق على أبناء عائلات دمشقية وحلبية وحمصية.

في المحصلة لم يكن غروب زمن العائلات السياسية تطوراً طبيعياً فرضه مسار الحياة السياسية، بل عملاً استئصالياً انقلابياً، أُريد من خلاله الإتيان بمجهولي النسب وعديمي الأصل، كي يحكموا سورية بالحديد والنار، وكي يبيعوا أجزاء منها في حرب حزيران لإسرائيل، أو يوقعوا في اتفاقية أضنة تنازلاً عن أجزاء أخرى منها لتركيا، فانتقلنا من زمن حكم العائلات السياسية الذين اتهمهم الباحث صقر أبو فخر في كتابه (أعيان الشام وإعاقة العلمانية)، بأنهم أعاقوا نشوء العلمانية السورية، مع أن سورية في عهدهم كانت البلد الوحيد آنذاك، ذا أغلبية مسلمة، ويترأس حكومته رجل مسيحي، ويحق لكل الأقليات الوصول إلى أعلى المراتب في الجيش، إلى زمن حكم الحثالات الذين يخرقون النظام الجمهوري، ويورثون الحكم للابن، ويعدلون الدستور من أجله بدقيقتين، ثم عندما تندلع الاحتجاجات ضدهم يرفعون ويطبقون شعار: الأسد أو نحرق البلد.

ليس هذا العدد الخاص من (العربي القديم) إعلان حنين إلى زمن حكم العائلات السياسية العريقة في سورية، ولا إلى أخلاق أبناء الأصول والقيم التي كانت تشيع شيئاً من النخوة والمروءة، وهو لا يهدف إلى التمجيد، بل إلى التحليل والتوثيق… إنه محاولة لقراءة ذلك التاريخ، وتنقيته من المعلومات المغلوطة والتحريف المتعمّد، والتدوين الأيديولوجي البعثي الذي كان يسم كل تلك العائلات بسمة “الرجعية” في مقابل “تقدمية”، ركبها حثالات العسكر، كي يجعلوا من سوريا سجناً كبيراً، إذا ما انفجرت قيوده قادوه إلى الدمار، وخيّروا شعبه بين بيت الطاعة أو المجازر أو التشرد.

ولا يقتصر مفهوم العائلة السياسية في هذا العدد على عائلات اليمين من ملاك الأراضي والبرجوازيين، لكنه يشمل عائلات كانت أقرب إلى اليسار ممارسة وسلوكاً، مثل عائلة الجندي وعائلة بكداش. إنه خلاصة بحث طويل ومعمق، أنتج هذا العدد المميّز في تنوعه، وفي رؤاه النقدية والتحليلية التي يستحقّ الكتّاب المساهمون كلّ الشكر عليها.   

_________________________________________

 افتتاحية رئيس التحرير في العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري   آب – أغسطس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى