عائلة الجندي: بين أحلام التغيير وآثام السياسة وشجاعة الاعتذار (1 من 2)
بقلم: مصعب الجندي
في هذه الشهادة المتواضعة عن سامي الجندي وإخوته الأربعة اتبعت أسلوباً بسيطاً في السرد، والتجرد من أي خلفية وانتماء، أياً كانت عائلية أو غيرها، متبعاً المنطق والحياة والاختيارات للوالد والأعمام، على صعوبة، تقترب من الاستحالة في ذلك، (سامحوا ضعفي قليلاً)؛ لأنها نبشٌ في بيئة سياسية، أقل ما يقال عنها الالتباس والغموض والتخلف، وكأن وقائعها تفرض أن تكون سيرة، سيرة وطن لم يعرف الاستقرار منذ استقلاله…! والسيرة غالباً، مجاز وسفر وانبعاث من رحم مجهول لمجهول، يستحيل في بضع صفحات اكتمالها أو سبر أغوارها.
لا يظن أحد أنني أرغب بوضعهم في مكان أو زمان غير مكانهم وزمانهم، فلا شك أن الأخوة الخمسة لعبوا دوراً مؤثراً منذ أربعينيات القرن الماضي، وكانوا المشاغبين بما استطاعوا، حتى في حالات سكون ورتابة الأحداث السياسية، وإنما سوريا ومستوى تطور بناها الاجتماعية والاقتصادية، وطبيعة العلاقات فيها لا تسمح لغاية اليوم، بأن يلعب المدنيون وعائلاتهم، (بغض النظر، آل الجندي أو غيرهم) دوراً حاسماً حاداً بمجريات الأحداث بعيداً عن العسكر، فالجيش كان البنية الإدارية المنظمة والمتماسكة في المجتمع السوري، التي تسمح له بالسيطرة على باقي مفاصل الدولة، إلا أن هذه البنية مع تتابع الأحداث، كان يتبدل تكوينها والمنبت الاجتماعي والثقافي الذي تتشكل منه، وبالتالي تبدلت أساليب التعامل والعلاقات مع باقي المجتمع، خصوصاً بعد أن استشعرت تميزها ومقدرتها مع انقلاب حسني الزعيم، الذي كان فاتحة الانقلابات في الوطن العربي بأكمله، والذي دفع لتنفيذه الأستاذ أكرم الحوراني.
لم تكن السياسة مأزقاً بالنسبة لسامي الجندي وإخوته (إنعام، علي، خالد، عاصم)، فمنذ بدايات وعيهم على الحياة وجدوا أنفسهم في نارها، فقد كان الأب (محمد الجندي) من مؤسسي حزب الكتلة الوطنية في حماة، حين تشكل مع: (د.خضر الشيشكلي، نجيب البرازي، نجيب الريّس، د.صالح قنباز، ناصح العظم، عبد الستار البارودي … وغيرهم)، إلا أنهم تمردوا على الأب ولم ينتسبوا لها، وكانت بداياتهم بعثية تأثراً بشقيقهم الأكبر سامي، لكنهم لم يكونوا قوالب منسوخة عنه فذهب كلٌّ منهم مذهبه.
إنعام الجندي
الابن الثاني من أبناء محمد الجندي، وآخرهم بالانتقال إلى الدار الآخرة، توفي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2015، كان أول الأبناء من كاسري الطوق باختيار أرض المنافي، فقد غادر سلمية ليلتحق بجيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، وبعد انتهاء حرب نكبة فلسطين عام 1948 عاد إلى سلمية لفترة وجيزة، ثم انتقل إلى لبنان ليعمل صحفياً في العديد من الدوريات، وأستاذاً لمادة اللغة العربية في ثانويات بيروت. له العديد من المؤلفات والأبحاث ككتاب (المتنبي والثورة)، ومترجمات عدّة عن اللغة الفرنسية كرواية الغريب لألبير كامو. يعتبر إنعام الجندي من علماء اللغة العربية والتاريخ، وهو مؤلف كتاب الرائد في الأدب العربي الذي اعتمد كمنهاج اللغة العربية للمرحلة الثانوية في لبنان وطوال ثلاثة عقود من الزمن.
على الرغم من أن إنعام في بداياته تأثر بزكي الأرسوزي، إلا أنه ابتعد عنه لدرجة أنه ينفي تأثره به بعد حركة 23 شباط 1966، وما تلاها من هزيمة حزيران معتبراً أن الأرسوزي سار في ركب العسكر، وانسحب من القيادة التاريخية للحزب، وظل إنعام أميناً في ولائه لمن أُطلق عليهم في ما بعد (القوميين)، أي التنظيم العراقي، والقيادة التاريخية لحزب البعث (ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، وأكرم الحوراني). كانت هذه الحالة تُزعج شقيقه سامي خصوصاً في ما يتعلق بعفلق، ومن الأسرار التي كانت سبباً بذلك أن ميشيل عفلق كان يحاضر ويُنظّر على تلامذته، لكنه كان كسولاً في تدوين أفكاره التي كان يتولّى هذه المهمة (إنعام الجندي، وجلال فاروق الشريف الذي عمل في ما بعد رئيساً لتحرير صحيفة تشرين)، كما أن سامي لم يسامح ميشيل عفلق مداهنته للجنة العسكرية في الحزب، حتى أنه أطلق عليهم صفة الطليعة الثورية.
لإنعام واقعة سياسية، قلّة يذكرونها، أدّت لخروجه النهائي من سورية، فحين انقلاب 23 شباط عام 1966، والذي كان نتيجته تسلط العسكر بشكل شبه كامل على مفاصل الدولة، كان مكلّفاً برئاسة تحرير صحيفة الوحدة (الثورة)، كتب افتتاحية هاجم فيها القيادتين السياسية والعسكرية، وحمّلهما مسؤولية الضحايا الذين سقطوا بالانقلاب، وتأكد من طباعة العدد وطرحه في الأسواق، وفرّ إلى لبنان (طبعاً جمعت الأجهزة الأمنية العدد وأتلفته).
لولا ما وثّقه بعض الباحثين وأصدقاء إنعام وتلامذته، لبقيت ممارسته للسياسة مبهمة وغير واضحة المعالم، فقد كان ممن يفضلون الابتعاد عن الأضواء، فهو حضر المؤتمر التأسيسي الأول لحزب البعث العربي عام 1947، وكان من مؤسسي فرع الحزب في لبنان.
يقول حازم صاغية في دراسته عن البعث في لبنان: (نشط إنعام الجندي في مجال نشر الدعوة في هذا الوسط، وهو الكاتب البعثي السوري المقيم في لبنان والعامل في التدريس).
أما إلياس الفرزلي فيروي: (التقيت عفلق بعد مغادرته سوريا برفقة الحوراني والبيطار عام 1953، لتفادي أديب الشيشكلي، وفي ذاك الزمن كان زميلي في التعليم إنعام الجندي، وهو بعثي من الجيل الثاني وشقيق سامي الجندي، وكان حينها مسؤول الاتصال القومي في الحزب، ودفعتني صداقتي به إلى التعرف على الحوراني، والبيطار، وعفلق).
لم يكن تأثير إنعام في الحركة السياسية والثقافية في لبنان حكراً على البعثيين، حيث روى كريم مروة (الشيوعي) في حوار أجراه معه الصحفي والباحث صقر أبو فخر عن تأثير إنعام به وبعدد من زملائه، فقال: “لا بد من الإشادة بالدور المباشر الذي لعبه أستاذنا في الكلية الجعفرية إنعام الجندي في توجيه وعينا وتهذيبه؛ ولأنه كان يتميّز بصفة إنسانية لافتة كنّا نشعر _ وهو أستاذنا _ أنه واحدٌ منّا. كنّا نعيش معه ونخرج ونلعب معه، ونمضي السهرات الطوال في الحديث والنقاش في أمور عديدة، وقد أسهمت طريقته هذه في التعامل معنا ببث الوعي فينا قومياً وفكرياً”.
غادر إنعام لبنان بعد عام 1985، بعد تلقيه عدّة رسائل تهديد بالتصفية من التنظيمات الخاضعة لإيران؛ لأنه صُنف كبعثي عراقي ليعيش ويعمل في فرنسا، إلى أن داهمه كِبر العمر فاضطر إلى الرحيل، ليعيش مع ابنه في الولايات المتحدة الأمريكية.
علي الجندي
الشاعر علي (أبو لهب)، رغم أنه كان يساري النزعة، لكنه لم يمارس نشاطاً سياسياً مباشراً، ولم يلتزم بتنظيم، أراد أن يعيش فوضاه وبوهيميته، فأنشد شعراً مليئاً بالمواقف السياسية.
كلُّ نص له فيه صورتنا بلا زيف ولا غرور، صورة أسرارنا، وخبايا من تراكم أسى أمة في الرأس… كلُّ نص اقتطاع من ثنايا الروح، بوحٌ جلدته السنون، ولوّعته الأفكار.. وشدّت على صدره التجارب المشتتة:
ما حولك النار،
أرضٌ خراب،
دمارٌ وريحٌ نتن،
وما حولك القفر والخوف والموت،
قبرٌ وجثة هذا الوطن!
كل نص رؤية للقادم من الأيام، وما ترسب فيه من رؤى مخيفة وغادرة، حدسٌ تمنى لو أنه لم يمتلكه.. عذابه حياً… وبعد رحيله:
نشرنا خبزنا اليومي في ظل المشانق
والتحفنا لون أعشبة القبور
خريطة الوطن المباح
صار شكل الموت مألوفاً ومرسوماً
على أوراقنا، فكأنه أثر الجراح…..
ذكر غازي أبو عقل، وكان من الأصدقاء المقربين لعلي (أو هكذا يدّعي)، في معرض مقال نشره على عدّة مواقع، أن الشاعر علي الجندي أُقصي من عمله كمدير للأنباء في وزارة الإعلام، بعد رحيل أصدقائه وأقربائه السياسيين والعسكريين اليساريين من السلطة عام 1970. وأنا لم أكن أرغب بالتطرق لهذا الأمر، وخصوصاً أن الشاعر لم يرغب إطلاقاً بممارسة أي عمل سياسي مهماً كان، لكن لا بد من التوضيح في هذه النقطة بالذات: علي كان صديقاً للجميع وأحبه الجميع، وإن كان هناك بعضهم على النقيض منه أو بخلاف معه، وهو على الرغم من سجن شقيقه سامي، ثم خروجه من سوريا عام 1968، ثم سجن شقيقه خالد بعدها على خلفية تصفية الحسابات، مع سجن شقيقه عاصم ثم فراره إلى لبنان، وقبلها خروج إنعام عام 1966، على الرغم من كل ذلك لم يُقصِه أي طرف من موقعه، منذ بداية عمله مديراً للأنباء في وزارة الإعلام، إنما اضطر أن يؤدي أمانة أُؤتمن عليها من ابن عمه العقيد عبدالكريم الجندي، الذي طالما اختلفا، لكن الأخير لم يثق إلا بعلي وهي وصيته التي سرّبها إلى صحيفة (النهار)، ولم يُكشف من سرّبها لغاية عام 1974. وصيّة أثارت الكثير، وأمانة أُديت لكن في المقابل: لم يتعرض له أحد بكلمة؛ لأنها اعتبرت واقعة قديمة وتخصّ عهداً آخر، سوى أنه أُقصي من عمله إلى حين بلوغه سنّ التقاعد، ظن الأصدقاء وزملاء العمل أن سبب ذلك مقته للعمل الإداري ولا مبالاته، وفي ذلك شيءٌ من الصحة، فقد كان في كثير من الأمور لا مبالياً وفوضويّاً، لكنه أمرٌ لم يكن كافياً ليحيّد نفسه وظيفياً، وفي الحالة هذه: اللامبالاة لم تكن إلا ستاراً يغطي فيه انزعاجه. هو رغب أن يكون شاعراً، ولكن ليس فقط…! له مترجمات وله أعمال مسرحية، وعند البحث في تاريخه الوظيفيّ نجده إعلامياً ناجحاً.
كانت اللامبالاة تساعده في كثير من وقائع حياته ومواقفه، كذلك طرافته ونكته اللاذعة، حين يريد تجنب الموقف السياسي المباشر. ما زلنا نذكر، حين قال الرئيس حافظ الأسد في واحد من خطاباته أواخر السبعينيات: “لا رقابة على الفكر إلا رقابة الضمير”، وتنطح في اليوم التالي مزاودو الصحف الرسمية، بأن وضعوا هذه الجملة في زاوية الصفحة الأولى (كمانشيت) دائم، بمقابل ما قاله الشاعر علي بطرفته الشهيرة: (الآن عرفت لماذا بدلوا اسم إدارة المخابرات العامة إلى إدارة الضمائر العامة).
رغم غطاء اللامبالاة، كان علي إذا اضطر لموقف واضح، لا يتوانى أو يتردد أمامه، ومازالت سلمية تذكر موقفه عندما طُلب منه إلقاء قصيدة في مهرجان الشعر، وحين صعد المنبر، قال قصيدته بجملة واحدة: (آليت على نفسي أن أُلقي شعراً في مركز ثقافي ما يزال مديره في السجن، وعنى فيها الراحل عبدالكريم الضحاك الذي كان سجيناً حينها)، أراد أن يسجل موقفاً واضحاً دفاعاً عن حرية إنسان.
إشكالية أخرى أثارها مقال غازي أبو عقل الآنف الذكر، تندرج تحت عنوان الموقف السياسي لعليّ والتمسك بمبادئه، فقد ذكر ترشيحه لجائزة العويس، لكنه لم يذكر موقف علي من الأمر، فحين رغب أصدقاؤه، (ومنهم غازي أبو عقل، والشاعر العراقي سعدي يوسف، وممدوح عدوان) بترشيحه لجائزة العويس، لمعرفتهم بوضع علي المادي، حيث إن الجائزة قد تؤمن له حياة مريحة، وبالفعل جمعوا نسخاً من دواوينه وأرسلوها للجنة المنظمة للجائزة، حينها كان علي مقيماً مع زوجته في سلمية، وقدم موظف من سفارة دولة خليجية مع مندوب عن مؤسسة سلطان العويس التي تمنح الجائزة لمقابلة علي في منزل أخيه سامي، وتقديم كتاب يفيد بقبوله للترشح. كانت الأيام سوداء في هذه البلاد مع نهاية حرب الخليج الثانية، وعندما قدّم المندوب الكتاب، أطرق علي صامتاً هنيهة، ثم اعتذر بلباقة للمندوب، ومزق الكتاب، وقال له: “قل لسعدي يلّي اختشوا واستحوا ماتوا”!
رغم فقره لم يحتمل عليّ فكرة أن العراق يُدمّر، وهو يحصل على مال من دولة شريكة بالتدمير، أصدقاء كُثر لاموه (لا حاجة لذكر أسماء)، وبالآن نفسه أسرَّ لنا سامي بأنه كان خائفاً جداً على عليّ؛ لأنه لو قبل الترشح لخسر الكثير من نفسه وروحه.
خالد الجندي
تعرض لأكثر من الملامة، واتُهم بأنه ذهب بعيداً بالفكر الماركسي، حتى أُثير حوله الكثير من اللغط، بأنه يريد أن يكون خليفة ستالين، بعد رفعه شعار (يا عمال العرب اتحدوا)، لا شك حول ذلك فقد كان بعثياً يسارياً (متمرّكساً)، وأطلق شاربيه كوالده أولاً، وجوزيف ستالين ثانياً، لكن رغم ذلك، لمن اتهموه دون أن يعرفوه عذر، لكن من عرفوه لا عذر لهم، فرغم هيئته وطوله، وعرض منكبيه، وثقافته التي غلب عليها الفكر اليساري كالكثيرين من أبناء جيله. كان هادئاً في نقاشه يتقبل الآخرين، وإن لم تعجبه آراؤهم، وعدا عن كل ذلك كان يمتلك قلب طفل، فحين شكّل الكتائب العمالية المسلحة، وتراكمت حوله الاتهامات وأثيرت الشبهات، لم يذكر أحد أنها للدفاع عن العاصمة، وهو لم يغادر دمشق مع عماله أيام نكسة حزيران 1967، عندما غادر عسكريّوها، ونقلوا قيادتهم إلى حمص، ولا تغيب عن الذاكرة تلك الأيام حين خلت الشوارع من ناسها، إلا الشباب الدمشقيين الذين تجمعوا حول مبنى اتحاد نقابات العمال، وهم يهتفون (ميداني طالب سلاح -أبناء حي الميدان). بعدها بعام، هو نفسه سيق كطفل مع شرطيين إلى سجنه، بتهمة هي مؤامرة غارقة في السخرية والمهزلة، حتى إن محاميه، الأستاذ يوسف أبو حمود، خاطب لجنة القضاء التي تحاكمه قائلاً: (أنتم المتهمون والجناة، وليس خالد)، ولسخرية القدر، بعد وفاة خالد أقمنا له في سلمية بيت عزاء، وحضر معزّياً أحد المشاركين بالتآمر عليه. بعد إبعاده وسجنه من عام 1968 لغاية 1971 ازداد تطرفاً فكرياً بماركسيته، وازداد اختلاطاً بجيل الشباب الذي نحا بهذا الاتجاه، ومع أواخر السبعينيات بدأت الأجهزة الأمنية بملاحقة التنظيمات الشيوعية، واتهمته هذه الأجهزة بأنه واحد من مُنظري رابطة العمل الشيوعي _ليس لي اطلاع على مدى ارتباطه التنظيمي بالرابطة_ وسجن ابنته الصغرى غرناطة لأربع سنوات بهذه التهمة، فاضطر إلى مغادرة سوريا إلى لبنان، ومع اجتياح بيروت 1982 غادر مع المقاتلين الفلسطينيين إلى تونس، ومن ثم إلى غزة ليقضي سنينه الأخيرة فيها، وعمل كمستشار للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات لشؤون النقابات، فقد أراد الأخير أن يؤمن له حياة كريمة؛ لأنه لم ينسَ دعمه للثورة الفلسطينية في بدايات تأسيسها.
عاصم الجندي
امتلأت السياسة بالفوضى عند صغيرهم عاصم، أراد الانطلاق كإخوته خارج حدود سلمية، فترك العناية بالأرض، وأمّن له شقيقه إنعام عملاً كمدرس لمادة اللغة العربية في ثانويات بيروت، وصحفي في الدوريات الصادرة، ومدقق لغوي فيها. أذكره خلال نكسة حزيران، كيف عاد إلى دمشق، والتحق بالكتائب العمالية المسلحة للدفاع عن العاصمة، هو أقصر الإخوة طولاً، فكادت البندقية؛ لأنها من الأسلحة القديمة، أن تكون أطول منه، ومع ذلك شعوري اليوم عن ذاك اليوم أن عاصم أراد أن يقول لأبيه: (حرمتني من المشاركة بثورة حماة مع المجاهدين، لكن البندقية ما تزال على كتفي). ما إن انتهت أيام النكسة، حتى التحق عاصم بالعمل الفدائي، وأصبح المسؤول السياسي في طلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة)، ثم صار قائداً لإحدى قواعدها في الجنوب اللبناني، وكانت في بداية تأسيسها، وكعادة تصفية الحسابات، استُدعي عاصم إلى دمشق وأودع السجن، ثم أُطلق سراحه إلى إقامة جبرية، وأصبح صحفياً في مؤسسة الوحدة، إلى أن أتته الفرصة وفرَّ إلى لبنان.
أراد بعدها أن يصيب لنفسه ثروة، فرحل للعمل بأفريقيا، ظاناً أنه يصلح أن يكون تاجراً كغيره من أصدقائه اللبنانيين، فلم يمضِ عام أو ما يزيد بقليل، حتى عاد مفلساً إلى بيروت كجميع المؤمنين بقضية، وغير قادرين على الابتعاد عنها. عاد إلى صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهيئة تحرير المجلة الناطقة باسمها (الهدف)، سمحت ظروف عمله في المجلة أن يلتقي ويعمل مع أغلب قادة الجبهة الشعبية وجناحها السرّي، كوديع حداد والخلايا اليسارية التي كان يقودها، مثل مجموعة كارلوس، عدا عن ارتباطه بصداقة مع كارلوس نفسه، فكتب سيرته الذاتية، وسرد عنه أغلب عملياته في كتاب (كارلوس الوجه الآخر)؛ الأمر الذي كاد أن يدفع حياته ثمناً له، بعد أن حاولت إحدى الجهات التي لم يتمكن المحققون اللبنانيون في الواقعة من تحديدها، وتسميتها ككل الاغتيالات السياسية التي حصلت في لبنان، منذ بداية الحرب الأهلية، وتلقى طلقة في الرأس لم تقتله، ولكنها تركته يعاني منها حتى وفاته عام 2000. له زيارة لسورية كان مرغماً عليها عام 1992، للحصول على جواز سفر وتجديد هويته، بعد أن استقرّت السيطرة على لبنان للنظام السوري، وعند نقطة الحدود السورية اللبنانية، طُلب إليه مراجعة إحدى الجهات الأمنية، وللطرافة والأسى معاً، تبين أنه مطلوب لأربعة فروع أخرى، حيث بدأت الزيارات والتحقيقات والتوقيف لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر قليلاً، وكان من حسن حظه أن معلومات تلك الأجهزة محصورة بنشاطه في الجبهة الشعبية والقضية الفلسطينية، فأُطلق سراحه، وسُمح له بالمغادرة على أن يعود، غادر لكنه لم يعد بعدها أبداً. أوصى عاصم أن يدفن في الجنوب اللبناني مقابل قلعة (أرنون)، حيث كانت القاعدة الفدائية التي التحق فيها لسنوات، وبجوار المدفن كان هناك حقل ألغام مسيّج بأسلاك شائكة.
غداً: القسم الثاني والأخير | سيرة الأخ الأكبر د. سامي الجندي
_________________________________________
من مقالات العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري – آب / أغسطس 2024
تعليق واحد