العربي الآن

المخابرات: صناع الجحيم العربي وحُماة كراسي والحكام ولوازم سلوك المهنة!

محمد زاهر حمودة – العربي القديم 

من المعروف أن لكل مهنة سلوكياتها المميزة، تفرض نفسها على سلوك صاحبها الشخصي وطريقة تفكيره ومحاكمته العقلية لجميع الأمور، خاصة إنْ عمل الإنسان بتلك المهنة لمدة طويلة، ثم أورثها لأبنائه، وانتقلت من الأبناء إلى الأحفاد، فسوف يصبح ذلك المنطق الخاص بأهل تلك المهنة ديناً لازماً ومفاهيم ثابتة متأصلة في طبيعة أحدهم، سيصدّقه أهله دون نقاش من نساء وكبار سن، وسيبررون كل قراراته، وسيتفهمه كل أصدقائه وجيرانه بكل تلقائية، لا غرابة إنه يقول كذا وكذا طبعاً، لأن مهنته كذا، وإن عرف السبب بطل العجب.

يعلم غالبنا أن من يعمل في التجارة على سبيل المثال لديه سلوكيات معروفة يشتهر بها، فلا تتوقع منه عدم الحرص أو بذل الكرم، وأن يعطيك شيئاً ما قليلاً كان أو كثيراً بدون أن يستفيد بأكثر مما يعطيك، ولا تستغرب منه البخل والأنانية والمراوغة في الكلام، لماذا؟!، لأنه تاجر..

حسناً، وماذا عن رجل المخابرات؟!

 ماذا عن مجتمعٍ اشتغل ابناؤه في سلك الأمن لأكثر من نصف قرن لحماية نظام ديكتاتوري؟!

أليس لدى هؤلاء سلوكيات ومفاهيم دخلت في صميم عقلهم الباطن وأصبحوا أسرى لها، لا يستطيعون الشفاء منها ولا يملكون لخلعها عن أنفسهم سبيلا، لأنها لم تعد كالثوب تلبسه ثم تخلعه عن جسدك متى تريد، بحجة أن الثوب ما عاد يعجبك مثلاً لقِدَمه ولأن هنالك ثوبٌ آخر معروضٌ في السوق قد لفت نظرك لحداثته وذوق من صممه..، لا ليس الأمر كذلك، لقد تأصلت تلك المفاهيم في داخل أحدهم فصارت هي لحمه ودمه، فكيف لأحدٍ وصل إلى هكذا ذروة من الهذيان بما صدّق وامتهن وطبّق طوال عمره أن يتخلى في لحظةٍ ما عما صار مرآة نفسه؟!، تلك اللحظة التي قد جاءت في الألفين وأحد عشر حين قامت ثورة شعبية في مناطق عديدة من بلده، أفينقلب على ذاته كلياً لأجلها الآن؟!، لا يمكن، لقد فات الميعاد..

ما هي أساسيات وتقاليد تلك المهنة التي منعته؟!

أولاً: لا يمكنك إن كنت رجل أمنٍ لأي نظام أن تناقش في مشروعية حكم الحزب الفلاني ومن يرأسه، أو تلك المجموعة العسكرية الإنقلابية ومن يتزعمها، فمن يستطع أن يفرض نفسه على زعامة المشهد السياسي فليفعل، الوسيلة ليست مهمة في مقابل الغاية، حلالٌ على الشاطر، ومن يسبق يأكل البندق، فجهاز الأمن يحمي السلطة ولا يختارها..

ثانياً: إن زيادة الطلب على الأمن تعني زيادة الرزق، فكلما زادت حاجةُ أي نظام حكمٍ للأمن تعاظمت معها الفرص الممتازة لإبراز المواهب المبدعة وإثبات الإخلاص والتفاني بإتمام المهمة المطلوبة، والحصول على الترقية والثناء، ومن ثم الحصول على الرخص والمزايا..

ثالثا: إن نوعية الشعارات السياسية والاقتصادية وماهية المشاريع الداخلية والتحالفات الخارجية ليست مهمة أبداً بالنسبة لرجل الأمن، المهم أن يحمي القيادة، وأن يطارد أعدائها، القيادة تفصّل الثوب وهو يلبسه، فإن أرادت السلطة أن ترفع شعار الإشتراكية فالعدو هو الرأسمالية، إن كانت تريد ديمقراطية شعبية فالعدو هو الديموقراطية الليبرالية، إن تحالفت مع الشرق فالعدو هو الغرب، إن رغب الحزب باحتكار التمثيل فالعدو هم المعارضون المطالبون بالتعددية، أكانوا أحزاباً أو أفراداً مستقلّين، لا مشكلة، هكذا يسير الأمر برمته لديهم، هم لم يختاروا نظام التعذيب الألماني النازي ولا التجسس الروسي ولا طلائع البعث وشبيبة الثورة الكورية الشمالية، اختار كل ذلك زعيم السلطة ورئيس البلاد، أما هم فما عليهم سوى تفعيل الخطط واستخدام تلك الأدوات داخل مباني عملهم بعد تدريبهم في دوراتٍ خاصة، قررها الرئيس وخصص ميزانيتها ولم يقترحوها هم.

لاحقاً، إن قرر الرئيس المراوغة في شعاراته المعلنة، أي تبني سياسة بوجهين وربما ثلاثة وأربعة.. ما نسميه ب، “المزوغلة والمكولكة والملوفكة والمخاوزة..الخ”، فلا مشكلة أيضاً لدى الأمن، فهو بذلك يخفف عنهم الأعباء ويقلل الأعداء، فيضع رِجلاً هنا وقدماً هناك، فيضمن أكثر فأكثر البقاء، وهذا هو المراد، إنها شطارة محمودة وبدعة حسنة وخيانة مباركة، أن تراعي السلطة مثلاً مصالح الغرب مع الحفاظ على علاقاتها مع الشرق، أن تضمن أمن إسرائيل مع الحفاظ على تأييدها لقضية فلسطين، أن تدعم العلمانية وترعى نمو التدين التقليدي المتذمت، أن تبيع هنا وتأخذ هناك، تحبس اليوم أعضاءً من القاعدة وتطلقهم غداً، تحرم الأكراد من حقوقهم ثم تسلمهم حكم مناطق عربية، وتعطي البي كي كي والقاعدة سلاحاً ومُدناً وبترولاً ومعابر..!!، ذلك خيرٌ من أن يتحمل جهاز الأمن وحده عبء المهمة كاملةً وهي بقاء الرئيس في القصر أبداً، فليستعمل أشخاصاً ثم ليتخلص منهم، أمين الحافظ أو محمود الزعبي أو إيلي حبيقة في لبنان أو رفيق الحريري..، وصولاً إلى رامي مخلوف ولونا الشبل والقاطرجي..، وقائمة الأسماء تطول، إنهم مجرد أشخاص وُجدوا لخدمة الحكم وتدعيمه في مرحلة ما استدعتهم فيها الحاجة الظرفية، وليس ليكون أحدهم شريكاً استراتيجياً في الحكم أبداً، الأمنيون يفهمون ذلك جيداً، يتواصلون معك ويأتون بك وينفخون بشخصك عندما تأتي الأوامر باستمالتك، ثم يقتلونك حين تأتي الأوامر بقتلك..

إذاً هكذا هم رجال الأمن، بل هكذا هي قواعد المهنة في جهاز الأمن، هذه مهنةٌ ليس فيها رحمة، لأنه أساساً ليس للعقل فيها مكان، هي فقط غاية عريضة وأوامر عليا ومن ثم تنفيذ، وكل أجهزة المخابرات في العالم كذلك، استقبِلوا اللاجئين السوريين في بلادكم، اطردوا اللاجئين السوريين من بلادكم، تعاطفوا مع الإنسانية، إكرهوا وانشروا العنصرية، أقيموا سلاماً، إفتعلوا حرباً، أبرموا اتفاقيات، انقضوا الإتفاقيات، أدخلوا الإتحاد الأوروبي، أخرجوا من الإتحاد الأوروبي، نادوا بالوحدة العربية والإخاء، تعادوا أيها العرب واشتموا بعضكم بعضاً على المنابر، ثم تصالحوا مجدداً، عادوا إيران، ثم اقبلوا إيران، اقبلوا الإخوان، ثم انقلبوا على الإخوان، حاربوا بشار، ثم طبّعوا مع بشار، حاربوا طالبان، ثم فلتعد طالبان…الخ.

هل تقصد أن أحدهم مجرد آلة، أليسوا بشراً، أليس لديهم ثقافة؟!

نعم لديهم ثقافة، وهنا أنا لا أفرق بين عنصر في مخابرات النظام أو في الكي جي بي أو السي آي إي أو الموساد أو غيرهم، الجميع أتى قبل أن ينضم إلى جهازه الأمني ذاك.. من ثقافة، ما هي تلك الثقافة التي يتلقاها أحدنا في سن المراهقة؟! ثقافةٌ قد تؤثر فيه حين يتجاوز سن الثامنة عشر، إنها ثقافة المزاوجة بين شيخ القبيلة وشيخ المنبر، الثقافة الديماغوجية المعلنة، نحن قومٌ مُختارون مُنزَّهون والآخرون قذرون ملعونون، وعليكم طاعة ولي الأمر وحرمة الخروج عليه حتى لو أمر بمعصية، ومحاربة الفتن ما ظهر منها وبطن، ومقاومة الأعداء، والتضحية والفداء، وعيش الحياة في انتظار الفناء، فإنك لا تعرف الأسرار والخفايا لأنك لست من الأولياء، لست من العلماء وكلاء الأنبياء، أولئك فقط يعلمون الخبايا الباطنية التي عرفها الخضر ولم يعرفها حتى النبي موسى، أنت لك الظاهر من الحياة، الأكل والشرب والجماع، والتبول والتغوط في الخلاء، وجمع المال وإنجاب الأبناء، لتدوم بتلك الثقافة المسيرة المظفرة لسلالة الحمقى والبُلهاء، أجل، من تلك الثقافة بُعث هؤلاء، وتطوعوا ليعملوا في سلك الحفاظ على السلطان وأهله، وليحفظوا بقاء نسله من كل شر، بالقمع أو بالحرب، إنه ولي الأمر، وهل كانت مهمة العامة والرعية منذ الأزل إلا طاعة ولي الأمر؟!، وكأنهم هم المسؤولون عنه، وليس هو المسؤول عنهم، ليس كما ورد في الحديث النبوي.. (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، العكس هو الذي يجري، فأغلب الحكام في تاريخ البشرية مجرمون، (ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون)، كما جاء في القرآن الكريم.

وبالتالي، فحتى إن وصل الغلاء ذروته، وإن بلغ شقاء العامة مبلغه، وإن هلك الإقتصاد وتعست الطبيعة وبلغ ضياع الأمل وبؤس الحال كل مبلغ، فسيقول لك الموظف في جهاز الأمن، ذلك ليس من مهمتي، أنا مسؤوليتي تنحصر في كذا وكذا، وهو ما أسموه الحفاظ على مؤسسات الدولة، حتى إن لم يصبح الراتب يكفي لشيء، فهو لم يتطوع أصلاً للعمل في ذلك الجهاز الحساس من أجل الراتب فقط، بل لأجل امتيازات تلك المهنة أيضاً، بعد أن قدّم وتفانى وبذل، فمن خلال تلك الامتيازات من تهريبٍ ومخدرات، يستطيع أن يبقى في مأمن اقتصادي من أي كارثة فقر، هؤلاء هم في حالة استثناء، إستثناءٌ على كافة الصعد، مجتمعي ونفسي وسلوكي واقتصادي، لذلك، لا تنتظروا منهم أي تغيير، لا بحكم أن أقربائهم يعانون، ولا بحكم أن أبناء جيرانهم يغادرون، إنهم هم المستثنون، إنهم لا ينقلبون، لأنهم في مهنتهم لا يخطّطون أصلاً للأمور الكبيرة، إنهم فقط ينفذّون، لا يعصون أي أمرٍ يأتي من فوق، ويفعلون ما يُؤمرون..

أرباب السياسة هم فقط من يمكرون ويأمرون، فسحقاً لتلك المخططات والأوامر التي توشك أن تُنهيَ البشرية بأنانيتها وجرائمها وحُمقها.

زر الذهاب إلى الأعلى