طرابلس الشام: مائة عام على محاكم التفتيش التاريخية والجغرافية
حازم بعيج – العربي القديم
إن الشيء الذي تفتقده مجتمعاتنا المعاصرة في منطقة صدام الحضارات، وقلب العالم الإلهي (المنطقة الشامية)، هو الاهتمام بالتاريخ وفهمه على نحو مؤسس مترابط بين كل أزمنته؛ لذا من الواجب اليوم أن نقول: إن زمان شعوبنا المعاصر في المنطقة وحواضرها خاصة، لا ينفصل عن زمانها في العصور المتوسطة وما قبل قبل ذلك، بل إننا مجتمعات تتحمل كل تبعات التاريخ بحلوه ومره، ومضطرون على الدوام أن نتجنب الصدام المباشر مع الأساسات والمسلمات التاريخية، حتى لا ندخل في دوامة التيه الإستراتيجي، ومحاولات نزع الجغرافيا من أساساتها، والذي يبطئ كل محاولات الدفع بالعربة العربية نحو التقدم بثبات وفاعلية مرضية، كما يحصل في واقع حواضرنا المرير، وشاهدته اليوم عروس البحر المتوسط الفيحاء طرابلس الشام.
طرابلس الشام، أم طرابلس لبنان الكبير؟:
تتوسط مدينة طرابلس على التقريب المدن الموزعة على خط الساحل الشامي الممتد من أنطاكيا في تركيا، وحتى مدينة غزة في فلسطين، وتمتاز بكثافتها المسلمة، فهي إلى جانب جوارها الجغرافي المحيط تشكل خزان الديمغرافيا المسلمة في لبنان، وسميت بطرابلس الشام لتمييزها عن العاصمة الليبية طرابلس في الغرب، ولكونها متنفساً بحرياً هاماً للعمق السوري الذي يمتد حتى حدود الهند، والتي شكلت محطة هامة لحضارات متعاقبة، قبل أن تركز لواءها على هوى الإسلام، وتنذر شبابها وثرواتها فداء للدعوة المحمدية الأصيلة، طوال 1400 عام من فترات الحرب والسلم التي درات رحاها على هذه الأرض، وما أثر تصدع بنيان الدولة العثمانية في المنطقة ببعيد عن المدينة التاريخية والعاصمة الإدارية للساحل الشامي، فقد طالها ما طال مجتمعات المنطقة من أذى ممنهج وغير ممنهج، ما يرق له قلب العدو قبل الصديق. ففي عام 1920 قرر الجنرال غورو سلخ مدينة طرابلس عن عمقها الشامي السوري، وضمها إلى متصرفية جبل لبنان، مع عدد من المدن والأقضية الأخرى التي ستشكل نواة ما سمي حينها بدولة لبنان الكبير، استكمالاً للعملية الجراحية الجغرافية والتاريخية، الذي عمّدها الاحتلال الفرنسي، والغرب الاستعماري بدماء وأحلام وطموحات شعوب المنطقة التي خرجت بهزيمة تاريخية من الحرب العالمية الأولى.
حملات صليبية حديثة بأثواب استشراق براقة:
كلل الجنرال الفرنسي غورو بالتحالف مع الإنكليز حملته على المنطقة السورية بسلسلة إجراءات من نزع التاريخ والجغرافيا من أماكنها الطبيعية، فمن سايكس وبيكو إلى تسليم الأماكن المقدسة في فلسطين للعصابات اليهودية، حتى سلخ جبل لبنان وعدد من الأقضية كقضاء طرابلس لتأسيس لبنان الكبير، إلى موقف مشهور عنه يرويه الصحفي الفرنسي المرافق للحملة الفرنسية “بيير لامازيير” في كتابه “مسافر إلى سورية”: إن غورور خطب أمام قبر الناصر صلاح الدين رحمه الله في دمشق، وقال: “حضوري هنا يكرس انتصار الصليب على الهلال”.
ويروي الباحث السياسي الطرابلسي “توفيق سلطان” لصحيفة الشرق الأوسط بالقول: “الفرنسيون قالوا للبطرك حويك عند الاستقلال، ما يهمك من طرابلس، ستخلّ بالديمغرافيا، قال لهم: إذا تركت طرابلس خارج خريطة لبنان الكبير، ستشكّل منافسة لبيروت”، وذلك لهواجس الفرنسيين في ضمان امتيازات اقتصادية بالغة للمسيحيين، فيما يسمى دولة لبنان الكبير بتحقيق قرب لهم من مدينة بيروت، وتعمد الإضرار بالعمق السوري الذي تمثل له طرابلس واجهة بحرية لا تقل أهمية عن اللاذقية أو بيروت على حد سواء، وهذا البطرك حويك المذكور آنفاً، بطرك المسيحيين الموارنة في لبنان، وعراب إنشاء دولة لبنان الكبير بالشراكة مع الحملة الفرنسية على سورية. وما سلخ قضاء طرابلس وبيروت عن سورية وغيرهما من الأقضية الأربعة إلا إعلان لحصار اقتصادي ضد سورية وتاريخها وجغرافيتها وحضارتها الضاربة، عمره مائة عام وأكثر حتى الآن، يستهدف بحر دمشق على وجه الخصوص، وعجرفة تاريخية ذات نكهات دينية موتورة بالعداء للمسلمين، وإمعان في سياسات نزع الجغرافيا من أماكنها، لإرساء دعائم الدمار الشامل الذي لن يوفر شبراً آمناً وهادئاً في عموم المنطقة.
طرابلس لبنان الكبير لم تفارقها تبعات التاريخ بعد السلخ:
شهدت طرابلس الشام منعطفات تاريخية كبيرة، زادت من أهميتها الديمغرافية والجغرافية لموقعها الفريد على البحر المتوسط، ولكن بالضبط ما زاد من أهميتها هو الحملات الصليبية على المنطقة في العهود المتوسطة، وخاصة في العهدين الأيوبي والمملوكي اللذين ساهما في نقل طرابلس من مدينة هامة على المتوسط إلى عاصمة إدارية لكل الساحل الشامي، ومركز للتجميع والحشد الإسلامي لطرد الصليبيين من المنطقة، فكما كان مركز إدارة الحملات الصليبية على الساحل الشامي من طرابلس، كان أيضاً مركز الحكم الإسلامي لتحرير الساحل الشامي وتأمينه في طرابلس، فازدادت فيها حركة العمران التراثي بأمر من سلاطينها، ونشطت تجارتها، وصارت مركزاً للتصنيع الحربي البحري، وخطاً أولاً للدفاع عن كل المنطقة، فحكام طرابلس كانوا بالفعل حكاماً لأنطاكيا واللاذقية وبيروت وصيدا وغزة! هذه المنزلة الأصيلة جعلتها محل أنظار العداء في كل مراحل السياسة والدولة على الدوام. ولم تشكل طموحات الاستقلال عن الدولة العثمانية والالتحاق بركب الاستعمار الأوروبي خلاصاً، وحلاً تنموياً وسيادياً لطرابلس وجوارها؛ لأن النظرة الأوروبية لهذه المنطقة كانت حاضرة فيها النزعة الدينية المعادية للمسلمين، والتي تراهم خطراً على الدوام، يفشل كل مشاريع التقزيم والتقسيم التي أرادها العدوان الفرنسي على المنطقة، فالغرض الذي أنشئ من أجله لبنان الكبير، لا يسمح بأي حركة تطور في المدينة ونمو وازدهار؛ لأن ذلك ينعكس سلباً على الإستراتيجيات الكبرى لإنشاء لبنان الكبير، من تقزيم المسلمين في المنطقة، والحد من أدوارهم ونشاطاتهم الحضارية السياسية، وإبقائهم خارج دائرة التأثير السياسي على المدى الطويل.
مدينة العسرة بالأصالة والوكالة
شهدت مدينة طرابلس وجوارها العكاري احتجاجات ومظاهرات واسعة ضد الاحتلال الفرنسي لسورية، في رفض مباشر لسياسة السلخ والانفصال عن سورية، وعمقها العربي والإسلامي، كما شهدت المنطقة موجة مقاومة مسلحة بالتوازي ضد الفرنسيين، ولكن قدرها الراهن كان أن تصير جزءاً من مخططات الاستعمار الأوروبي في المنطقة، وتقضي أيامها تحت أسنة العقوبات والكيد الطائفي والسياسي المدبر تجاهها من السلطة الحاكمة في لبنان وسورية، إلا أنها لم تتنكر لأصالتها وأصلها على الدوام، فكانت أولى المدن التي استقبلت اللاجئين الفلسطينيين المهجرين عام 1948، وما تلا ذلك من موجات اللجوء الفلسطيني، كما استقبلت قبل هذا موجات كبيرة من اللاجئين الأرمن الفارين من الأناضول، رفقة بيروت وصيدا وحماة وحلب ودمشق، ولكن ضريبة إيواء اللاجئين الفلسطينيين، وتوفير الحاضنة لهم كانت من أهم أسباب ازدياد النقمة الطائفية والسياسية على المدينة، فشهدت المدينة سلسلة هجمات طائفية وسياسية وعسكرية متوالية في ثمانينيات القرن الماضي على يد الميليشيات المسيحية والجيش السوري، إبان الحرب الأهلية في لبنان، استكمالاً لمشروع إبادة الفلسطينيين في لبنان، وتدمير حركة المقاومة الوطنية، وترسيخ إرادة سياسية أقلوية في لبنان، ليس للمسلمين فيها سهم في إدارة الدولة وتنميتها، فكانت طرابلس تلك الشعلة الحية الحمراء في وجه عواصف الاستعمار، وليست أدوار أبنائها في صد العدوان الإسرائيلي على لبنان حتى التحرير عام 2000 ببعيدة عن تاريخ المدينة وعروبتها وإسلاميتها التي تضج بالحياة، فكانت ملاذاً، ومأوى وسند المقاومين، وحاضنة الكرامة المفقودة في لبنان على مدى عقود، لتكون تلك المدينة التي تتسع لجميع إخوانها وأشقائها، فلن نقول إنها مدينة سورية، بل نقول ما يقول السوريون الذين لجؤوا إلى لبنان، نتيجة العدوان الطائفي والعالمي المسلط على الشعب السوري: مدينة لبنانية، أهلها سوريون. فأدوارها في احتضان عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين، كانت بالأصالة عن تاريخها وقيمها، وبالوكالة عن المستضعفين كل المستضعفين من أبناء الأمة، وليس احتضانها للنازحين اللبنانيين من جنوب لبنان، نتيجة العدوان الإسرائيلي على لبنان في هذه الأيام، إلا مواقف متوقعة، تضاف إلى سلسلة ذهب وشرف هذه المدينة، التي تأبى إلا أن تكون سيدة حواضر المنطقة، وعريس المتوسط التي لا يليق بها وبأهلها إلا الاحترام والتقدير.
عاصمة الثقافة العربية، وأفقر مدينة على ساحل المتوسط
اختيرت طرابلس في العام 2021 عاصمة للثقافة العربية بتقرير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “أليكسو” التابعة لجامعة الدول العربية، وأخّر هذا التكريم نتيجة للأوضاع الراهنة التي يمر بها لبنان حتى عامنا هذا 2024، وكأن أقدار طرابلس اللبنانية مشابهة لأقدار لبنان الكبير، وبعيدة كل البعد عن أقدار وسمعة طرابلس الشام التي كانت تتنفس العزة والسلام والرخاء، فقد صنفت طرابلس، وفق تقديرات البنك الدولي عام 2017، كأفقر مدينة على ساحل البحر المتوسط، في إشارة ملموسة لنتائج أكثر من قرن من التهميش والعزلة، والكيد السياسي والطائفي والعالمي المدبر، لتكريس حرمان المدينة وأهلها، والانتقام من تاريخها العظيم، وحصار الأمة في عزيزتها الحاضنة طرابلس، تلك المدينة التي طالما شكلت حاضنة ورافعة لأشقائها المطرودين على جغرافيتهم من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، بصرف النظر عن أثمان المباهلة عن المستضعفين من مسلمي المنطقة، تاركة للتاريخ إرثاً من الشرف والفضيلة والرفعة التي لا يمكن لأحد أن يتجاوزها، لتحجز كرسيها في الصف الأول في احتفالية تحرر الأمة المقبلة بلا أدنى شك، على أمل الخلاص والخروج من مدار الأنظمة السياسية الطارئة، واستعادة مجد الجغرافيا والتاريخ المشرفين، وبناء اللبنة الأولى في نظام سياسي حديث يعطي التاريخ والجغرافيا حقهما الطبيعي، ويكفل العيش في ظلال دولة عدالة وقيم سمحة، لا تعادي التاريخ بقدر ما تحرسه وتتعلم من دروسه، وتكفل للأجيال القادمة العيش الكريم، والوعي الصلب بمنجزات المرحلة ومخاضها العسير، وعلى أمل أن نرى طرابلس مرة أخرى طرابلس الشام، لا طرابلس التحجيم والتقزيم، طرابلس الشام التي تصل حدود أبجديتها إلى عمق الأمة، وطرقاتها من أقصى بلاد الهند، وشعوب العالم الشرقي إلى شطآن المتوسط العامرة المزدهرة، حتى أقصى بلاد وشعوب العالم الغربي.
_________________________________________
من مقالات العدد السادس عشر من (العربي القديم) الخاص بطرابلس الشام – تشرين الأول/ أكتوبر 2024