أرشيف المجلة الشهرية

نهاد قلعي القصة الحقيقية للاعتداء الذي تعرّض له.. تُروى لأول مرة

بقلم: سعد فنصة

لن أتحدّث عن تاريخ الفنان الكبير ونشأته، وبداياته الفنية ومشروعه المسرحي الذي بدأه مبكراً، فقد تحدث بها هو في أحاديث إذاعية وتلفزيونية ليست كثيرة، ويمكن وصفها بالمحدودة، والتي قد لا تؤرخ كاملاً لمسيرة هذا المؤسس في تاريخ الفنّ السوري والعربي، لكنها توثّق تاريخ هذا الفنان الذي تحوّل إلى الكوميديا التلفزيونية السينمائية، وشكّل بصمة كبرى، مع رفيقه الفنان الكبير دريد لحام، ولكنني سأحاول البحث في الذاكرة، عمّا حصل في قضية أحمد نهاد الخربوطلي القلعي، وهذا اسمه الحقيقي الكامل، والمولود في زحلة عام 1928 والشهير باسم حسني البورظان، منذ بداية تأسيس البثّ التلفزيوني الأول للجمهورية العربية المتحدة عام 1960.

من هو حسني البورظان؟

يقول الفنان الراحل، بأن فكرة اسم حسني البورظان كانت وليدة الساعة، عندما نسي تفصيلاً من الحوار في برنامج (سهرة دمشق)، والذي كان يُبثّ على الهواء مباشرة، وكان دوره يُكنى باسم حسني، فحاول الارتجال، عندما شاهد خلف الكواليس عازفاً يحمل البوق الكبير، فأطلق على نفسه في لحظة العرض اسم حسني البورظان، من هاتيك الساعة التصق به الاسم، ليكون سبباً في إسدال الستار، على تألقه المسرحي والتلفزيوني، في اختتام رحلة عمره الفنية مبكراً، وقبل الأوان.

ولكن للحقيقة رواية أخرى، أو وجوه أخرى، سأتحدث عن بعضها.

ربطتني صداقة قوية مع الدبلوماسي الشهير الدكتور صباح قباني، منذ عقود بعيدة، رغم الفارق العمري والمهني، بين صحفي شاب، ودبلوماسي وأديب كبير، وأهداني في ما بعد جزءاً حميماً ونادراً من ذاكرته الثقافية والسياسية، لأنني كنت طوال سنوات من أشدّ المحرّضين، على استحضار ذاكرته،  وتدوينها، وقد فعلها أخيراً، قبل بضع سنوات من رحيله، وكنت من أوائل الأشخاص الذين أهداهم مذكراته، بجزأيها الأول والثاني، عن عمله الدبلوماسي والفني، في بدايات تأسيسه للتلفزيون، في الإقليم الشمالي من دولة الوحدة، وجاء بالتفصيل في مذكراته عن بداية لقاء دريد ونهاد، لأول مرة في مكتبه، خلال الإعداد للبث، إذ كان يجد في تكوين هاتين الشخصيتين قرباً من شخصيتين كوميديتين عالميتين هما لوريل وهاردي، دريد النحيف، وصديقه السمين هاردي، أو نهاد قلعي، وهما يواجهان المواقف الكوميدية، أو هكذا تخيلهما الدكتور القباني، قبل أن يعرفهما على بعضهما بعض في العام 1960، ليشكلا في ما بعد الثنائي الذهبي،  وليخلّدا في الذاكرة، حتى يومنا الحاضر، وباتا أيقونة الكوميديا في العالم العربي قاطبة.

ولكن من هو حسني البورظان الحقيقي؟

 أعتقد أن اسم حسني البورظان كان يُطلق على حسني الزعيم، صاحب أول انقلاب عسكري في العالم العربي، وكان اسم حسني الزعيم متداولاً، قبل انقلابه، عندما كان قائداً للشرطة، وكانت الأمهات تخيف الأولاد، باستدعاء الشرطي حسني، المخيف، إن هُم لم يناموا باكراً، أو لم يشربوا الحليب .. إلى ما هنالك من عادات تلك الأيام، ولكن قائد الشرطة فجأة أصبح قائداً لانقلاب عسكري، ورئيساً للجمهورية، يهوى الظهور، وكان مغروراً، وفوق كل ذلك كان (بورظاناً) … لمن كانوا يمقتونه.

شاهدي على ذلك مثلاً أن شخصية بدري بك الذي دوَّخ موسوليني في مسلسل “صح النوم”، ومساعده عزت شخصيات شبه حقيقية من عسكر سوريا، في حقبة حسني الزعيم، فمن يُكنّى بعزت هو عزت حسن، والذي سبق لي أن كتبت عنه، بأنه كان المسؤول عن تعذيب السجناء السياسيين، في سجن المزة السيئ الصيت، وكان يصرخ في السجناء مهدداً: (أنا رب العذاب).

بينما كان بدري بك أبو كلبشة ينادي على عزت، ويأمره برفع غوار على (الفلقة) لم يكن ذلك من سبيل الصدفة أبداً.  

ولن أستطرد أكثر، فهذا ليس موضوعي الأساسي.

قضية الاعتداء على الفنان نهاد قلعي

في لقاءاته الصحفية المُذاعة والمكتوبة، حاذر الفنان نهاد قلعي رواية تفاصيل حادثة الاعتداء عليه، إذ لم يأتِ على سرد حقيقة ما حصل معه، ناهيك عن أن هذه الحادثة كانت مؤلمة نفسياً وفيزيائياً على استجاباته الحسية، ولكن حصل بعدها تبعات قانونية، في أروقة القضاء، بقيت غامضة على ظلال الحدث.

فمن هو المعتدي، الذي قلب حياة الفنان والمبدع، بالتأليف والإخراج والتمثيل المسرحي، رأساً على عقب، وهو في قمة تألقه ونجوميته وإبداعه، الى رجل شبه مقعد، عانى ما عانى من شظف العيش، وإهمال أصدقاء الأمس القدامى؟

ماهي مجريات المحاكمة التي تم إغفالها عن النشر، وهل أسقط الفنان حقّه في متابعة القضية، كما أشيع حينها..؟

ما هو اسم المعتدي، وماذا كان يعمل، وكيف حصلت حادثة الاعتداء؟

القضية الناقصة

في صيف العام 1976، وخلال عروض مسرحية (غربة) في دمشق، كانت هناك زيارة للصحفي الشهير جورج إبراهيم الخوري، رئيس تحرير مجلة الشبكة اللبنانية، إلى دمشق آتياً من بيروت، بناء على موعد مسبق، للمشاركة في سهرة خاصة، استضافه فيها دريد لحام، ونهاد قلعي، وشاكر بريخان، حيث اتفق الجميع أن يصطحبا ضيفهما إلى النادي العائلي القابع بالقرب من حي باب توما، على أطراف دمشق القديمة، وبعد العشاء، اعتذر الفنان دريد عن المكوث أكثر لشأن يخصّه، وبقي الثلاثة نهاد، وشاكر يمضيان السهرة، مع الضيف الصحفي، ويتبادلان الأحاديث الودية والطرائف عن عرضهما المسرحي الجديد، وبعد نفاد سجائر الفنان نهاد، طلب من النادل أن يحضر سجائره المعتادة، ويبدو أن الوقت قد تأخّر، وأغلقت المحال المجاورة، فعاد النادل، دون أن يحضر المطلوب.

غضب نهاد قلعي، وعبّر عن ضيقه، فسمعه أحد الجالسين على طاولة صدف أن كانت خلفه من زاوية منحرفة عن مجال رؤيته، عندما سمع نهاد صوتاً غليظاً يصرخ من خلفه، قائلاً: “لعيونك بورظان تفضل، وخذ من سجائري..”. فأجابه الفنان نهاد في المرة الأولى، دون أن يلتفت إليه: “اسمي نهاد قلعي، واحتفظ بسجائرك، فأنا لا أريد سجائر من أحد”.

ردّ الرجل الذي يبدو عليه سحنة القباضايات المنقرضة، في سبعينيات القرن الماضي مكرراً استفزاز الفنان قلعي قائلاً:” ولو يا حسني البورظان .. خذها مني.. ضيافة”.

التفت إليه الفنان نهاد قلعي قائلاً بصوت مسموع، أسمَعَ فيه كل الحاضرين: “اسمي نهاد قلعي يا حمار…”.

وفي لمح البصر، ودون أن يتوقع أحد ما ردة فعل وغضب الرجل، قام من فوره وانهال بالكرسي الحديدي الذي كان يجلس عليه، على رأس نهاد قلعي، فسقط الأخير مغشياً عليه، من هول الضربة الشديدة، ونفرت الدماء من رأسه.

صُدم الجالسون معه، الفنان المرهف شاكر بريخان، والصحفي جورج إبراهيم الخوري، من هذا المشهد المتسارع، وكأنه مقطع خاطف من مشهد سينمائي، لجريمة حية اُرتكبت أمام ناظريهم.

كيف كانت ردّة فعل الحاضرين؟

 صُعق الجميع بهذا المشهد الدامي، المعتدي كان واقعاً تحت وطأة تأثير الخمر، فصحا فجأة وبدأ يصرخ: “ما الذي فعلته .. ما الذي عملته (شو عملت بإيدي)، عندما شاهد الفنان حسني البورظان مضرجاً بدمائه على الأرض، بلا حراك ظناً منه أنه قتل الفنان الكبير.

حاوط رفاق المعتدي الجالسون معه صديقهم آنذاك، وحاولوا حمله وإخراجه من النادي، بينما انشغل شاكر بريخان والصحفي اللبناني بمصاب نهاد قلعي محاولين إيقاف النزيف بشتى الوسائل، لحين حضور الإسعاف، هرع عمال النادي، وبعض الحضور في النادي، وقاموا برفع الفنان عن الأرض، بهذه اللحظة التي كان يتم فيها طلب الإسعاف واستدعاء الشرطة، وعندما لاحظ الفنان شاكر بريخان أن رفاق المعتدي يحاولون تهريبه سارع، وأقفل أبواب النادي، وأنذر جميع العاملين بعدم السماح لأحد بمغادرة مكان الجريمة. 

وفعلاً هذا ما حصل، نقل الفنان إلى المشفى لخياطة جرح الرأس، وبدا أن الحالة الطبية للفنان مرت بسلام ظاهري، حين صحا من غيبوبته، ولا أذكر إن كان قد بقي في المشفى، أم إنه غادر في اليوم التالي إلى منزله.

التداعيات تظهر على المسرح

تعطلت العروض المسرحية اليومية بضعة أيام، عاد بعدها للوقوف على المسرح، ولكن لم يطُل أمر عوارض هذا الحادث، لتظهر تداعياته علناً، على الملأ في منتصف العرض المسرحي، يصاب الفنان الكبير بخثرة دموية في الرأس، تسببت له بحال من الشلل والآلام الشديدة، وتغيرت طريقة نطقه، واختلّت حركة يده، ومشيته. واستدعت إيقاف العرض المسرحي، لعدة أيام، واستبدال دوره في المسرحية بالفنان تيسير السعدي. لقد تغيرت حياة الفنان نهاد قلعي برمتها في ما بعد.

روى لي تفاصيل هذا الاعتداء الآثم الفنان الكبير الراحل شاكر بريخان العلّامة الموسيقي والمبدع في مجال الكتابة والتلحين، حيث تمت محاكمة المعتدي، وجاء الحكم مخففاً، باعتباره كان تحت سلطة الخمر لحظة الاعتداء، واعتبارها مشاجرة أدت إلى الإفراج عنه في ما بعد.

هذه هي القصة الحقيقية، وقد أكون سهوت عن تفصيل هنا أو هناك، لأنني أكتب من الذاكرة، ولكنني أؤكد بأن كل ما كتب، وروّج من خرافات ومبالغات، حول هذه القضية، ليس له أساس، أو قبول من الصحة. وكل ما قيل عن هذا الشخص بأنه كان ملحقاً بجهة عسكرية تابعة لسرايا الدفاع، التي كان يرأسها رفعت الأسد عارٍ عن الصحة تماماً، وقد يكون المعتدي، له علاقة ما مع جهة متنفذة، ولكن وصف هذا الاعتداء بأنه كان مفتعلاً، أو مدبراً بأوامر محددة جاءت بترتيب مسبق، فللحقيقة والتاريخ، كل ذلك من صنع خيال بعضهم، ولا يمت إلى الحاصل بصلة.

ولكنني لا أنفي بما أمتلك من معلومات، لا يمكنني التثبت من صحتها، أن الجاني كان من قبضايات تهريب البضائع، وأن أصوله تعود الى صيدنايا، وكان يقضي بعض الوقت في دمشق أثناء حادثة الاعتداء، وقيل أيضاً إنه من أرباب السوابق الجنائية، وهناك تضارب حول اسمه، وماذا كان يعمل بالضبط، وهل قدم رشاوى للقضاء كي يُخلى سبيله، أم لا؟ إذ إنني لا أنفي أن بعض الغموض لازال يكتنف هذه القضية، مما سمح لوابل من الأقاويل أن تُبنى عليها، فاختلطت الحقائق بالأكاذيب، ولعل في بعض الغموض أسباباً لا يعرفها إلا أولاد الفنان الراحل: بشار ومها.

كلمة أخيرة

أدونها للتوثيق التاريخي، كان هناك علاقة خاصة ربطت الفنان شاكر بريخان بالرئيس حافظ الأسد، وقد حكى لي شخصياً عن طلبه من الرئيس الأسد تخصيص راتب تقاعدي للفنان يحفظ كرامته، بعد عسر أوضاعه المالية، وسعى أكثر من مرة، في ما سبق، مع الرئيس الأسد، عندما كان يمثل نقابة الفنانين، لإيفاده  للعلاج خارج سوريا، وأذكر أنه  أُوفد إلى الأردن، بعد إصابته الأولى مباشرة، في ما بعد تم إيفاده إلى تشيكوسلوفاكيا، إذا لم تخنّي الذاكرة.

 ولكن يبدو أن حالته كانت تزداد سوءاً، مع تراجع حالته النفسية، بسبب عدم تقدير الدولة له، ومنح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى عام 1976 لدريد لحام فقط، وهو أمر استهجنه الكثيرون حتى داخل الوسط الفني آنذاك،  ثم ابتعاده القسري عن الأضواء، وفشل عمله التلفزيوني الأخير جماهيرياً، الذي قدمه في العام 1984 بعنوان (عريس الهنا) وظهر فيه منهكاً بطيء الحركة، ليرحل في التاسع عشر من أكتوبر- تشرين الأول 1993 وقد ودعه السوريون بحزن وأسى.

_________________________________________

من مقالات العدد الرابع من صحيفة (العربي القديم) تشرين الأول/ أكتوبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى