أرشيف المجلة الشهرية

تاريخ طرابلس في مرآة الاستيطان العلوي: باب التبانة... عاصمة طرابلس (1 من 2)

ملف كتبه رواء علي – العربي القديم

طرابلس الشام أو اطرابلس، بحسب التسمية العربية، مدينة تطل على المتوسط وهي ثاني أكبر وأهم مدن لبنان الحالي بعد بيروت. تقع شمال لبنان على بعد 88 كم من بيروت، يعود الظهور التاريخي الأول للمدينة إلى القرن السابع ق.م، تكونت في مبدئها من ثلاثة أحياء مفصولة عن بعضها، سكنت كل حي منها جالية، مثلت مدن أرواد، وصيدا، وصور، ولم يعرف لهذا التجمع العمراني اسم محدد سوى أنه ورد في السجلات الآشورية أسماء الاحياء الثلاثة: مخلات، ماييز، كايير. ولم يظهر اسم جامع لهذه الأحياء كمدينة إلا في العصر الفارسي، وهو مدينة (أثر) التي اكتسبت أهميتها، عندما أصبحت مقرًا لاتحاد ثلاثي، جمع مدن أرواد، وصيدا، وصور، وهذا ما أكسبها في العصر الإغريقي وما بعده اسم طرابلس (تري بوليس)، أي المدن الثلاث. 

هذه المدن تمتعت ببعض الاستقلال الداخلي زمن الفرس، قبل أن يحدث التمرد الثلاثي، بقيادة صور ضد الاحتلال الفارسي سنة 351 ق.م، الذي استدعى الملك الفارسي أن يقود الجيش بنفسه لإعادة اخضاع المدن الثلاث، وتم له ذلك وأصبحت المدن الثلاث تتبع تبعية مباشرة للملك الفارسي، من خلال حاكم يعين مباشرة، واستمر الحال كذلك حتى الاجتياح المقدوني سنة 332 ق.م، فسقطت مدن الاتحاد بيد الإسكندر. وخلال عصر خلفاء الإسكندر 323- 64 ق.م وقعت طرابلس على حدود مناطق النزاع على جوف سوريا (البقاع) بين السلوقيين والبطالمة، فتناوب المنتصرون السيطرة عليها وعند اجتياح الرومان، كانت تحت سيطرة السلوقيين، وبدخولها تحت الحكم الروماني فقدت أهميتها السابقة، حتى الفتح الإسلامي الذي تأخر حتى زمن الخليفة عثمان بن عفان، بسبب موقع المدينة واستحالة حصارها من البحر لعدم وجود أساطيل بحرية للمسلمين ذلك الوقت. وبعد أن استحدث والي الشام معاوية بن أبي سفيان صناعة السفن تهيأ للمسلمين فتح طرابلس بقيادة سفيان بن مجيب الأزدي، ولحق كثير من  أهلها بالبيزنطيين، فتم تعويض النقص السكاني بتوطين بدائل من العرب والفرس واليهود، مع تحولها بعد الفتح لأحد أهم قواعد الأسطول الإسلامي وصناعة السفن.

الاستقلال عن الدولة الفاطمية

بقيت طرابلس طوال العصر الأموي تتبع مباشرة لدمشق، ويعين الخليفة لها واليًا يتبع له مباشرة، وبقيت تبعيتها لوالي دمشق خلال الدور الأول من العصر العباسي، ثم تحولت تبعيتها لمن يحكم الشام بعد القرن الثالث، فضمها الطولونيون إلى ممتلكاتهم وبعد ضعفهم صارت من ممتلكات أمير الأمراء محمد بن رائق، ثم عاد الإخشيديون من مصر، واسترجعوها وبقيت لهم حتى ظهر الفاطميون، فأصبحت ضمن ممتلكاتهم مع معظم مدن الساحل، وكانت أفضل أيامها في القرن الخامس الهجري، عندما استقلت عن الفاطميين، وأصبحت إمارة تمتد من جبيل جنوبًا وحتى جبلة شمالًا تحت حكم أسرة آل عمار البربرية من قبيلة كتامة، وحافظت على وجودها واستقلالها في زمن التنازع السلجوقي- الفاطمي. 

ومع سقوط المدن الساحلية بيد الصليبيين، فإن طرابلس بقيت العقبة الكؤود التي أعيت الصليبيين طويلًا، وتصدت خلال حكم آل عمار وبمساندة من الإمارات السلجوقية لاسيما إمارة دمشق- تصدت لثلاث حصارات ولم يستطع الصليبيون دخولها إلا سنة 502هـ  في الحصار الثالث الذي اشتركت فيه سفن الإيطاليين وصليبيي أنطاكية والقدس، مع تقاعس الفاطميين عن إمدادها، وخيانة حاكمها الموالي للفاطميين، ومهادنته الصليبيين وتسليمهم المدينة إضافة لما قدمه الموارنة والمردة من مساعدات عسكرية ولوجستية للصليبيين.

 وكما كانت طرابلس آخر الحصون التي احتلها الصليبيون لمناعتها، فقد كانت أيضًا من آخر الحصون التي استردها المسلمون من الصليبيين زمن السلطان المملوكي قلاوون سنة 1289م، والتي كان من نتيجتها تدمير طرابلس القديمة كاملة، واستحداث المدينة الحالية على بعد 3 كم من المدينة القديمة التي كانت تقوم في الميناء، ومع الوقت والنمو السكاني والتوسع العمراني، اتصلت بقايا المدينة القديمة (المينا) مع المدينة المملوكية لتشكل مدينة طرابلس الحالية، ومن أشهر معالمها –وهي كثيرة- نهر قاديشا (المقدس) الذي ينبع من جبال الأرز من مغارة  بالاسم نفسه، ويدعى اليوم باسم نهر (أبو علي) نسبة لأبي علي بن عمار أحد أمراء بني عمار في القرن الخامس الهجري، ويصب النهر في المتوسط. ومن معالم المدينة التاريخية قلعة صنجيل الصليبية التي بناها ريموند دي سان جيل أول من حاصرها من الصليبيين ومات عند أسوارها.

خلال العصر المملوكي تعرضت المدينة لأكثر من محاولة لاحتلالها من قبل الصليبيين، انطلاقًا من قبرص يساندهم الموارنة من الداخل وكل محاولاتهم فشلت، وكان موقف الموارنة هذا إضافة لما اشتهروا به زمن الاحتلال الصليبي من تقديم الدعم والرجال والتجسس لصالح الصليبيين، هو ما دفع نائب دمشق جمال الدين أقوش الأفرم ليشن ثلاث حملات، تسانده قوات طرابلس فيما يعرف تاريخيًا باسم حملات كسروان (1292-1305م)، التي تستحضرها الأقليات المارونية والدرزية والنصيرية على أنها حملات إبادة ضدهم، وكل منهم يقول إنه المقصود من هذه الحملات التي ساندها شيخ الإسلام ابن تيمية بفتاويه الشهيرة بحق النصيرية والدروز. وأيًا يكن فإن المقصود من حملات كسروان هو الموارنة بالدرجة الأولى، فإن كان لحق أحدًا من الأقليات الأخرى الأذى منها، فهو من قبيل الفعل غير المباشر، وما يعني طرابلس من أمر هذه الحملات بحسب الرواية العلوية: تم إجلاء كل سكان عكار النصيريين نحو الجبال الساحلية في سوريا الحالية، وأصبحت طرابلس ومحيطها شبه خالية من الوجود العلوي -فيما لو كان للعلويين وجود أصلًا في المنطقة- هذا الوجود الذي بقي شبه معدوم حتى مطلع الاحتلال الفرنسي.

من حكم آل العظم إلى دولة لبنان الكبير  

بقيت طرابلس طوال العصر المملوكي نيابة (ولاية) مستقلة، يحكمها نائب للسلطان، وكانت تأتي بالأهمية ثانيًا بعد نيابة دمشق، وبقي حالها كذلك مع ظهور العثمانيين الذين ظهر معهم آل سيفا الأكراد كولاة مباشرين لطرابلس، أو أصحاب نفوذ على الولاة لمدة أكثر من قرن، وشهدت طرابلس واشتركت في معظم صراعات لبنان أيام المعنيين والشهابيين حتى منتصف القرن الثامن عشر، حيث دخلت تحت حكم آل العظم الذين حكموا كل بلاد الشام، وتولى سليمان باشا العظم ولاية طرابلس، فطبع عصره فيها بطابع الفساد والأتاوات والمصادرات، كما فعل ابن أخيه أسعد باشا العظم في ولاية دمشق. وبعد احتلال محمد علي باشا لها ثم هزيمته وعودتها للعثمانيين تراجعت في أواخر سني الدولة العثمانية أهمية طرابلس، وبعد أن كانت أهم حواضر لبنان والشام أصبحت سنجقًا يتبع ولاية بيروت، وبقي هذا حالها حتى الاحتلال الفرنسي، فضمها غورو في تقسيماته لسوريا إلى دولة لبنان الكبير، وهو ما رفضه أهل طرابلس مطالبين بإلحاقهم بالوطن الأم سوريا، حيث عمقهم القومي والديني؛ لذا نجد في التقارير الفرنسية خلال الثورة السورية الكبرى 1925، أن طرابلس كانت المحرض الأكبر على ثورات عكار والضنية ضد الفرنسيين مؤازرة للثورة السورية، ودعمًا لعمقهم في سوريا، وبعد الاستقلال السوري عن فرنسا، بقيت المظاهرات وطوال فترة الأربعينات خاصة، تتردد سنويًا في طرابلس رفضًا لتبعية طرابلس للبنان الموارنة مطالبة بإلحاقهم بسوريا.

العلويون والسنة في طرابلس ومحيطها

مما لا شك فيه أنه مع مطلع الاحتلال الفرنسي لسوريا الكبرى، أن شمال لبنان الذي يتألف من مدينة طرابلس وسهل عكار شمالها ومنطقة الضنية إلى شرقها، هي منطقة ذات غالبية سنية، وهذا ما أكد عليه تقرير عسكري فرنسي سري وقتها، قُدم لقيادة القوات العسكرية والاستخبارات الفرنسية في سوريا تحت عنوان (لبنان الشمالي)، وهو دراسة ميدانية قام بها ضابط فرنسي بين عامي 1927-1930، قدم فيه واقع حال الجغرافيا السكانية والاقتصادية لشمال لبنان، جاء فيه عن طرابلس المدينة أن عدد سكانها (27.300) نسمة يشكل السنة منهم (19.300) نسمة، يليهم الموارنة بعدد (3400) نسمة، ثم العلويون بعدد (600) نسمة، والباقي أقليات يهودية ومهاجرون. أما قرى عكار والضنية، والذي عدد التقرير قراها وتعداد سكانها وانتماءاتهم الدينية، فلم يذكر أي وجود علوي في تلك المناطق، بل غالبية سنية وطوائف مسيحية ذات انتماءات دينية مختلفة؛ لذا فإن أي وجود علوي اليوم في سهل عكار، (قرى تل بيرة، الحيصة، المسعودية، الريحانية)، أو طرابلس (جبل محسن)، هو وجود طارئ بدأ بعد الاحتلال الفرنسي، ويذكر كُّتَّاب علويون (أحمد وحامد حسن) في هذا الشأن أنه منذ عام 1930، أخذ الكثير من العلويين ينزلون من الجبال، ويقصدون المدن والسهول طلبًا لمعيشة أفضل، وهذا كان السبب في بدء ظهور تجمعات علوية في سهل عكار، إضافة لأقلية في جبل محسن، لم يكن حتى الستينيات أحد يأبه لها، بل نال بعضها في عكار الحماية والعطف من قبل محيطها السني، كما حدث أيام حركة علي عكاوي في باب التبانة.  ومع اجتياح قوات حافظ الأسد للبنان، بدأ الشعور والتكتل الطائفي يظهر على هذه التجمعات، بعد أن استقوت بالوجود العسكري، ونالت الدعم الكثير من هذا الوجود، مما أهلها للعسكرة متناغمة مع السياسة السورية، وشكل وجودها ضمن محيط سني عاملًا إضافيًا في تكتلها على خلفية طائفية، وظهر هذا التكتل بداية في جبل محسن بتشكيل حركة الشباب العلوي بقيادة علي عيد سنة 1973.

غداً: الجزء الثاني والأخير

_________________________________________

ملف العدد السادس عشر من (العربي القديم) الخاص بطرابلس الشام – تشرين الأول/ أكتوبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى