بين الذات والآخر: كيف نرى العالم من خلال مرآة أفكارنا؟
براء الجمعة * – العربي القديم
يشكل الاختلاف في الآراء والتفسيرات جزءاً من نسيج التفاعل الإنساني للمجتمعات. وفي هذا السياق تُثار تساؤلات حول ماهية الرأي الشخصي، وهل يعكس الرأي حقيقة الأمور أم يعكس الفهم الشخصي، وبالتالي يتطلب موقفاً منفتحاً وتسامحياً لتجنب الانقسامات والصراعات الفكرية والاجتماعية. يقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: “نحن لا نرى العالم كما هو، بل نراه كما نحن.”، وهي مقولة تفتح الباب لتأمل أعمق في الكيفية التي تتشكل بها أفكارنا، وما إذا كانت تمثل الحقائق أم مجرد إسقاطات للذات.
لماذا نرى العالم كما نحن؟
الفكرة القائلة بأننا نرى العالم من خلال ذاتنا هي حجر الزاوية في المدرسة المثالية، والتي بدأت مع أفلاطون بمفهوم “عالم المُثُل”، ثم تطورت لدى فلاسفة مثل هيغل وكانط وشلنج، لتصبح تعبيراً فلسفياً عن حدود معرفتنا وإدراكنا. تُقدم المثالية نظرة عميقة إلى التفاعل بين الذات والعالم الخارجي؛ فهي تعتبر أن العالم الذي نراه هو امتداد لعالمنا الداخلي، وأن الحقائق المطلقة التي نبحث عنها قد تكون محجوبة خلف تصوراتنا الخاصة. بعبارة أخرى، ترى المثالية أن الوعي الشخصي يمكن أن يُشكل حاجزاً بين الحقيقة والإدراك، مما يجعل فهم كل شخص للواقع مميزاً وفريداً، لكنه في الوقت ذاته محدود.
وبالعودة إلى مجتمعنا، فإن هذا الفهم يمكن أن يكون خطوة نحو تفهّم آراء الآخرين بشكل أعمق. إذ يمكن لكل فرد، على مستوى وعيه وتجاربه الخاصة، أن يدرك الأمور بطريقة تختلف عن الآخرين. ومن خلال هذا الإدراك، يصبح التسامح الفكري ضرورة لتحقيق تناغم مجتمعي يتسع للجميع، ويستوعب الاختلاف دون الصدام.
المثالية والتعددية الفكرية
تستمد المدرسة المثالية جذورها من فلسفة أفلاطون، الذي تصور وجود عالمين: عالم المثل، وهو العالم الكامل الذي يمثل الحقيقة المطلقة، وعالم المحسوسات، وهو العالم الذي نعيش فيه ونرى من خلاله انعكاساً غير مكتمل لتلك الحقيقة. ثم أتت المثالية المطلقة مع كانط الذي اعتبر أن الإدراك البشري يُحدّ من قدرته على الوصول إلى الحقيقة المطلقة، حيث يرى أن الإنسان لا يستطيع تجاوز الذاتية في فهمه للعالم.
هذا المفهوم ينطبق على الرأي الشخصي؛ إذ أن كل رأي يعكس جزءاً من صورة أعمق داخل الإنسان، ويعبر عن منظومة قناعات وتصورات متراكمة عبر التجارب والخبرات الشخصية، لكنه لا يعبر بالضرورة عن الحقيقة الكاملة. بالتالي فإن المثالية تضع أساسًا للتعددية الفكرية، وهي دعوة لقبول آراء مختلفة كجزء من الحقيقية المتعددة الأوجه. وفي المجتمع السوري، الذي يزخر بالتنوع الثقافي والاجتماعي، تصبح هذه الفكرة مطلبًا ضروريًا لتعزيز الوحدة والانسجام بين الأفراد، مهما اختلفت آراؤهم.
حرية التفكير والانفتاح على الآخر
إحدى أهم أفكار المدرسة المثالية هي حرية التفكير، التي تُعتبر ركناً أساسياً في العلاقات الإنسانية الصحية. يتطلب المجتمع الحر قدرة الفرد على التفكير المستقل والنظر إلى الآراء الأخرى باحترام وتقبّل، بحيث يتسع مدار الفهم ولا يُحصر ضمن قوالب جامدة. وكما يشير كانط، فإن التحرر من إسقاط الذات على الواقع هو ما يفتح آفاقاً أوسع للتعرف على الآخرين وفهم مقاصدهم، الأمر الذي يقود إلى تقبّل التنوع الإنساني بشكل متكامل.
في هذا السياق، يمكن لكل فرد في المجتمع السوري أن ينظر إلى الرأي الشخصي كحق مشروع يحق لكل إنسان امتلاكه، ومن غير الضروري أن يعكس الرأي الواقع بشكل كامل أو يتفق معه. لذلك عندما ينشأ الحوار أو النقاش، يكون الهدف ليس إلغاء رأي الآخر أو تصحيح ما نراه خطأً، بل فهم ما وراء هذا الرأي، وكيف ينعكس واقع هذا الشخص وتجربته على وجهة نظره. هذا يخلق نوعاً من الوحدة المبنية على التفهّم والاحترام المتبادل، وليس على فرض الرأي أو القناعة على الآخر.
تقبل الرأي الآخر وتجنب الصدامات
في مجتمع يعاني من آثار معاناة مستمرة والتحولات الاجتماعية غير المستقرة، قد يكون من السهل الوقوع في فخ النزاع الفكري الذي يُحوّل الاختلاف إلى خصومة. وهنا يأتي دور الوعي، من خلاله نتعلم أن رأينا ليس الحقيقة المطلقة، وأن الآخرين لديهم تفسيراتهم الخاصة. يتطلب بناء مجتمع متناغم القدرة على تجاوز الذاتية والتعايش مع الاختلافات الفكرية.
تجنب الصدام الفكري لا يعني تجنب النقاشات، بل يُشجع على وجودها بطريقة صحية وبناءة، بحيث تركز على تبادل الأفكار لا الصدام على الحقائق المطلقة. وكلما كان النقاش مبنياً على الاحترام، زاد ذلك من فرص التوافق، وساهم في خلق بيئة تعزز التعاون بدلاً من الانقسام.
التعايش بسلام رغم اختلاف الرؤى
كما يرى كانط، العالم هو مرآة للذات، وبالتالي فإن كل اختلاف في الرأي يعكس جانباً آخر من هذه المرآة. ربما يكون التحدي الأكبر في مجتمع مثل المجتمع السوري هو تجاوز هذه التباينات عبر إدراك أننا لسنا بصدد البحث عن الحقيقة المطلقة، بقدر ما نحن بصدد الوصول إلى تفاهم وتعايش صحي وسليم.
إن فهم الذات هو أول خطوة نحو فهم الآخرين، وما دام المجتمع يتقبل التعددية الفكرية ويحترم خصوصية كل رأي، يمكن للجميع أن ينعموا بالنضج المجتمعي. ومع أن هذه الفكرة قد تكون صعبة التنفيذ في بعض الأحيان، إلا أنها ضرورة لبناء مجتمع متماسك قادر على مواجهة التحديات بروح جماعية، ينظر كل فرد فيه إلى الاختلاف كقوة وليس كتهديد.
يتطلب بناء مجتمع متكامل، كالمجتمع السوري، رؤية منفتحة ترى أن الرأي ليس أكثر من انعكاسٍ لتجاربنا الذاتية والبيئة المحيطة بنا، فالإنسان يتأثر بتفاعلاته مع محيطه وثقافته وظروفه الاجتماعية بقدر تأثره بتجاربه الشخصية. إن احترام هذه الاختلافات، سواء كانت ناجمة عن تباين التجارب أو الظروف البيئية، يعزز من التناغم الاجتماعي، ويدفعنا نحو بناء مجتمع يحتضن كافة أفراده ويقدر اختلافاتهم، مهما كانت رؤاهم وقناعاتهم. بهذه الطريقة، يمكننا بناء مجتمع يتجاوز الانقسامات، ويجد في التنوع الفكري مصدر قوة للتعاون والنمو الجماعي.
* مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي