مأساة عائلة فنان معتقل: عبير برازي صوت الحقيقة وسط الضجيج
نوار الماغوط – العربي القديم
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، برزت قصص مروّعة عن الانتهاكات التي طالت شرائح واسعة من المجتمع السوري، ومن أكثر الفئات تضررًا كان الشباب الذين تعرضوا للاعتقال التعسفي. شكلت معاناة هؤلاء الشباب وأمهاتهم مشهدًا إنسانيًا مفجعًا يختصر حجم المأساة السورية، لكنه في الوقت ذاته، أصبح مادة تُستغل إعلاميًا لأغراض قد تكون بعيدة كل البعد عن مناصرة حقوق الضحايا.
جهات إعلامية متواطئة
بعد أكثر من عقد من بدء الثورة، بدأت العديد من البرامج التلفزيونية ومنصات البودكاست تنتج لقاءات مع أمهات وأهالي المعتقلين و المختفين قسرياً، يظهرن فيها يبكين ويتحدثن عن معاناتهن الممتدة. على الرغم من أن هذه البرامج قد تبدو للوهلة الأولى كخطوة لتسليط الضوء على القضية، إلا أن خلفياتها غالباً ما تثير تساؤلات عن النوايا الحقيقية وراءها.
في بعض الحالات، تنتج هذه البرامج من قبل جهات إعلامية كان لها دور في تأجيج الصراع أو التواطؤ مع أنظمة ساهمت في استمرار مأساة المعتقلين. هنا يتحول الظهور الإعلامي من منصة لفضح الجرائم والمطالبة بالعدالة إلى استغلالٍ مؤلمٍ لمعاناة الأمهات والزوجات، حيث يتم استثمار دموعهن لجذب المشاهدين أو تعزيز أجندات سياسية لا تخدم القضية الأساسية.
هذا النوع من التناول الإعلامي يطرح إشكالية أخلاقية عميقة: هل يُسمح باستخدام مأساة شخصية وإنسانية كهذه كوسيلة لتحقيق أهداف إعلامية أو سياسية؟ أم أن ذلك يُعد انتهاكًا آخر لحقوق هؤلاء الأمهات وأطفالهن؟
إن تصوير أمهات المعتقلين بشكل عاطفي دون تقديم خطوات عملية لدعمهن أو المساهمة في حل قضيتهم يُعتبر استغلالًا مضاعفًا. فمن جهة، يعاد تذكيرهن بآلامهن دون تقديم أي مساعدة ملموسة، ومن جهة أخرى، تُستخدَم مشاعرهن لتحقيق أهداف لا علاقة لها بمصير أولادهن.
عبير برازي “في الظل”: زوجة وأم معتقل
منذ أيام ظهرت عبير برازي زوجة الممثل زكي كورديللو في مقابلة ضمن برنامج “في الظل”، وهو إنتاج إعلامي مدعوم من جهات محسوبة على المعارضة السورية، وممولة من قطر. ركز البرنامج على عرض معاناة عبير وهي أم وزوجة لاثنين من المختفين قسريًا، حيث تحدثت بحرقة عن سنوات الألم التي عاشتها منذ اختفاء زوجها وابنها، كاشفة عن عمق الجرح الذي يتركه فقد الأحبة في ظروف غامضة
في أغسطس 2012، اعتُقل الفنان المسرحي ذكي كورديللو وابنه مهيار، الذي كان شاباً يافعاً لم يبلغ من العمر20 عاماً آنذاك، في حملة قمع واسعة استهدفت الأصوات المعارضة أو المستقلة. كان ذكي وهو خريج قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية في ثمانينات القرن العشرين، يحمل مشروعا للإبداع الثقافي، وابنه مهيار الذي درس المسرح أيضاً، شاباً يحمل أحلامًا كبيرة، لكن مصيرهما أصبح مجهولاً منذ لحظة اعتقالهما.
خلال السنوات التي أعقبت الاعتقال، عاشت زوجة زكي و أم مهيار عبير برازي، حالة من الانتظار والقلق والخوف. كانت عبير مثالًا للمرأة السورية المثابرة، التي حملت مأساة أسرتها بكل شجاعة. لم تكتف بالصمت، بل سعت للتحدث عن القضية، على أمل أن تلقى آذانًا صاغية.
المعارضة واستغلال الألم الإنساني تاريخياً
على الرغم من أهمية تسليط الضوء على مثل هذه القصص، إلا أن السياق الإعلامي للمقابلة أثار العديد من التساؤلات حول الأهداف الحقيقية وراء إنتاج البرنامج.
استفادت المعارضة السورية من قصص المعتقلين والمختفين قسرياً كأدوات لإثارة التعاطف الدولي وكسب الدعم السياسي. لكن مع مرور الوقت، أصبح واضحًا أن هذه القصص لم تُستخدم لتحقيق العدالة أو إنقاذ المعتقلين، بل استُغلت كأوراق رابحة في صراعات سياسية داخل المعارضة أو لجذب الاهتمام الإعلامي.
كثير من البرامج، ومنها “في الظل”، تُنتج بتمويل من جهات داعمة للمعارضة. يُستخدم المحتوى لإظهار المعارضة كمدافع عن حقوق الإنسان، بينما الواقع يكشف أن هذه الجهات لم تقدم أي خطوات حقيقية لتحسين أوضاع المعتقلين أو دعم عائلاتهم، وبدلًا من تحويل هذه المآسي إلى قوة ضغط سياسية ودولية للكشف عن مصير المعتقلين، يُعاد إنتاجها كقصص عاطفية تثير التعاطف السطحي دون أثر عملي.
في كثير من الأحيان، يتم استدعاء أهالي المعتقلين للظهور الإعلامي دون مراعاة الأثر النفسي لذلك عليهم، أو تقديم أي دعم نفسي أو عملي لهم.
ماذا قدمت المعارضة فعلياً لعبير برازي؟
بالنظر إلى مأساة عائلة كورديللو، يمكننا أن نسأل: ماذا قدمت المعارضة فعلياً لعبير برازي ولأمثالها؟ على مدى سنوات، لم تقدم المعارضة السورية أي مسار واضح لمتابعة ملف المعتقلين، ولم تمارس ضغوطًا جادة على الأطراف الدولية لفتح هذا الملف. بل انشغلت بصراعاتها الداخلية وتناحر فصائلها، بينما ظلت معاناة العائلات تُستخدم كشعارات وأرقام في المؤتمرات الدولية.
أظهرت عبير برازي شجاعة في مواجهة الألم وتحدي الصمت. ظهورها الإعلامي، رغم محاولات استغلاله، يُظهر وجهًا آخر للمأساة: عائلات لم تفقد فقط أحبائها، بل وجدت نفسها تُستغل من جميع الأطراف. عبير ليست مجرد أم وزوجة تسعى للعدالة؛ هي رمز للمرأة السورية التي وُضعت في واجهة معركة لم تخترها، لكنها تحملت عواقبها. صوتها يجب أن يُسمع كصرخة ضد كل من استغل هذه المأساة، سواء كان النظام الذي اختطف زوجها وابنها، أو المعارضة التي تاجرت بقصتها. مأساة عائلة كورديللو وأمثالها ليست مجرد قصص تُعرض على الشاشات. إنها جرح مفتوح في ضمير المجتمع السوري. على المعارضة السورية وكل الأطراف التي استفادت من هذه القصص أن تُراجع نفسها، وتتحمل مسؤولياتها الأخلاقية تجاه الضحايا وعائلاتهم. في النهاية، يجب أن تتحول معاناة عائلة كورديللو من ورقة تُستخدم لتحقيق المكاسب إلى قضية حقيقية تتبناها جميع الأطراف بصدق. تحقيق العدالة لهم ولغيرهم ليس خيارًا، بل واجبٌ أخلاقي لا يمكن التنازل عنه.
على الجهات الإعلامية أن تتحلى بمسؤولية كبيرة عند التعامل مع مثل هذه القضايا الحساسة. يجب أن يكون الهدف الرئيسي هو دعم الأمهات وإبراز معاناتهن بشكل يؤدي إلى تحقيق العدالة، لا مجرد استغلال قصصهن لأغراض ترويجية.
كما أن المجتمع الدولي والمؤسسات الحقوقية يتحملون مسؤولية أكبر في دعم أمهات الشباب المعتقلين والمختفين قسريًا. يجب أن تتحول قصصهن إلى وقود لحملات دولية تدعو للكشف عن مصير المختفين ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
مسؤولية أخلاقية وإنسانية
ستبقى معاناة أمهات الشباب المعتقلين تعسفيًا جرحًا غائرًا في الذاكرة السورية، ومسؤولية أخلاقية وإنسانية تقع على عاتق الجميع. من المهم أن تُروى قصصهن بحساسية واحترام، بعيداً عن استغلال آلامهن، وأن يُسعى لتحقيق العدالة التي طال انتظارها. فمعاناتهن ليست مادة إعلامية تُستهلك، بل صرخة يجب أن تُسمَع لتحقيق الحرية والكرامة لجميع السوريين.
قصة عبير برازي ليست فقط شاهدة على مأساة عائلتها، بل على مأساة وطن بأسره. تحقيق العدالة لذكي ومهيار ولكل المعتقلين ليس مجرد واجب تجاههم، بل خطوة ضرورية نحو بناء مستقبل يمكن أن يُطلق عليه وطن.