النشرة الكردية على أورينت: تجربة فريدة في الإعلام السوري
مكسيم العيسى – العربي القديم
مع انطلاق النشرة الكردية على شاشة أورينت نيوز عام 2012، أتيحت للمرة الأولى في تاريخ الإعلام السوري مساحة مرئية تُبث باللغة الكردية، اللغة التي ظلت لعقود محاصرة بقوانين قمعية تمنع استخدامها في المجال العام. شكلت النشرة الكردية خطوة استثنائية تجاوزت مجرد تقديم الأخبار، لتصبح منبراً، يحاول كسر الحواجز الثقافية والسياسية المفروضة على ثاني أكبر المكونات في سوريا.
النظام السوري وقمع الهوية الكردية
لطالما مارس النظام السوري سياسات ممنهجة ضد الكرد، استهدفت هويتهم الثقافية واللغوية بشكل خاص. منذ الستينيات، تبنى النظام سلسلة من التدابير القمعية، بدءًا من إحصاء عام 1962 الذي جرّد الآلاف من الكرد السوريين من جنسيتهم، وصولًا إلى مشروع “الحزام العربي” الذي أدى إلى تهجير الكرد من مناطقهم، ومصادرة ممتلكاتهم، ومنحها لأبناء مناطق أخرى.
في ظل هذه السياسات، كانت اللغة الكردية محظورة في المدارس والمؤسسات الرسمية، ولم يعترف بها النظام السوري دستورياً حتى اليوم، وتم تقييد استخدامها حتى في الحياة اليومية. مُنع الكرد من تسمية أطفالهم بأسماء كردية، أو الاحتفال بمناسباتهم القومية، مثل عيد نوروز. كما فرضت السلطات قيودًا صارمة على الإنتاج الثقافي باللغة الكردية، سواء في الكتب، أو الصحف، أو الإعلام المرئي، حيث اعتُبر أي نشاط ثقافي كردي تهديدًا للأمن القومي.
وبعد اندلاع الثورة السورية بعام ونصف تقريباً، جاءت النشرة الكردية على أورينت نيوز لتُحدث اختراقًا نوعيًا. لأول مرة، تمكن الكرد في سوريا من متابعة الأخبار بلغتهم الأم، على شاشة محطة سورية، ما لم يكن متاحًا لهم من قبل على أي منبر إعلامي مرئي في سوريا.
انطلاقة غير مسبوقة
كانت أورينت نيوز السباقة إلى اتخاذ هذه الخطوة الجريئة، حيث افتتحت النشرة الكردية بعشرين دقيقة يوميًا، ثم تطورت سريعًا لتصبح ساعة إخبارية كاملة. استطاعت النشرة أن تغطي القضايا الأكثر أهمية على الساحة الكردية في سوريا وخارجها، وخاطبت جمهورها بلغة مفهومة، لدرجة أن متابعين كثراً، تعلموا مصطلحات كردية فصحى من خلال متابعتهم للنشرة.
تميزت النشرة باستخدام مصطلحات تُعبر عن الهوية الكردية وتاريخها، مثل “غرب كردستان” وشمال كردستان”، في إشارة إلى مناطق الكرد في سوريا وتركيا. هذه المصطلحات أثارت نقاشات واسعة داخل القناة وبين الجمهور، حيث اعتبرها بعضهم تعبيرًا عن الخصوصية الكردية، بينما أثارت حساسية سياسية لدى آخرين. لم تمانع إدارة القناة استخدام مصطلح (كردستان)، كونه يعبر، عن ثقافة كردية تشير إلى مناطق تواجد الكرد تاريخياً وجغرافياً، مثل الإشارة إلى مصطلح (الوطن العربي) لدى العرب.
قناة داخل قناة: هوية متميزة للنشرة الكردية
شكلت النشرة الكردية نموذجًا إعلاميًا مميزًا داخل أورينت نيوز، إذ بدت مثل” قناة داخل قناة”، تخاطب جمهورًا مختلفًا عن جمهور القناة الناطق بالعربية، من خلال استضافة سياسيين ومثقفين وناشطين من مختلف الأطياف الكردية، نجحت النشرة في أن تكون منصة جامعة تعكس تنوع المجتمع الكردي.
لم يقتصر جمهور النشرة على الكرد في سوريا، بل امتد ليشمل كرد تركيا والعراق وإيران، كما جذبت النشرة اهتمام الناشطين والإعلاميين العرب، الذين وجدوا فيها فرصة للتعرف على القضايا الكردية من منظور جديد.
التحديات: بين المهنية وضغوط السياسة
رغم النجاح الكبير الذي حققته النشرة الكردية، إلا أن الطريق لم يكن خاليًا من العقبات. واجه فريق العمل تحديات كبيرة داخل القناة وخارجها، بعضها مرتبط بالتوازن السياسي، وأخرى بالضغوط المهنية والاجتماعية.
داخل القناة، كان فريق العمل، المكون من إعلاميين من مختلف المناطق السورية، يعاني من اختلاف الرؤى حول طريقة تناول القضايا الحساسة. تنوعت الخلفيات الجغرافية والسياسية للصحفيين، مما أدى أحيانًا إلى نقاشات حادة حول استخدام مصطلحات معينة أو تغطية أحداث بعينها.
رغم ذلك، حرصت إدارة النشرة على الالتزام بالمعايير المهنية، مع تقديم الأخبار ذات الأولوية للجمهور الكردي، مثل الانتهاكات التي تعرض لها المدنيون في المناطق الكردية داخل سوريا وخارجها، دون إغفال الأحداث على الساحة الوطنية السورية.
دور النشرة في كسر الحواجز
كانت النشرة الكردية على أورينت نيوز أكثر من مجرد نشرة إخبارية، كانت منصة رمزية كسرت الحواجز الثقافية والسياسية التي فرضها النظام السوري لعقود. أعطت النشرة الكرد في سوريا شعورًا بالاعتراف بهويتهم، وساهمت في تعزيز الحوار بين مكونات الشعب السوري المختلفة.
أثبتت هذه التجربة أن الإعلام يمكن أن يكون أداة فعالة للتغيير الإيجابي، إذا ما التزم بالمهنية واحترام التعددية. كما سلّطت الضوء على أهمية تقديم محتوى إعلامي يعكس التنوع الثقافي واللغوي في سوريا، خاصة في ظل الظروف المعقدة التي تمر بها البلاد.
قرار الإيقاف: صدمة للجمهور
بعد خمس سنوات من النجاح، أعلنت إدارة أورينت نيوز بشكل مفاجئ إيقاف النشرة الكردية. وبررت الإدارة القرار بأن ساعة كاملة من البث الكردي لا تتناسب مع هوية القناة الناطقة بالعربية، وأنها قد تؤثر على جمهور القناة العربي. حينها تساءل العديد من متابعي النشرة حول سبب إيقاف قسم اللغة الكردية في موقع أورينت نيوز الإخباري، ومنصة الأخبار الكردية على وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك) كذلك، فكلاهما لا يؤثران على الجمهور العربي كونهما خارج نطاق البث التلفزيوني، وكان من الممكن أن يستمرا.
قرار إيقاف النشرة الكردية خلق جدلًا في الشارع الكردي وتساؤلات عدة بين النخب الكردية حول أسباب فسح المجال للغة الكردية على شاشة قناة سورية عربية. قسم رأى أن إدارة القناة كانت لديها أسباب سياسية من شأنها استمالة الكُرد إلى جانب الثورة السورية وانتهت نظرًا للتطورات والانقسامات التي طرأت على الشأن السوري.
أثار هذا القرار استياءً واسعًا لدى العديد من الكرد السوريين الذين شعروا أن القصة كلها كانت مجرد تجربة مؤقتة ناجمة عن غير قناعة بالتنوع الثقافي والإثني في سوريا، بعد أن كانوا ينظرون لها كمنصة إعلامية ضرورية لتغطية قضاياهم بلغتهم الأم. كما عبر العديد من المثقفين والناشطين عن أسفهم لتوقف هذه التجربة الفريدة، التي كانت تُشكل سابقة في الإعلام السوري.
لاحقًا استبدلت إدارة القناة النشرة الكردية ببرنامج ثقافي فني منوع باسم (زووم كورد) يسلط الضوء على الكرد السوريين على شاشة أورينت نيوز. توقف البرنامج كذلك بعد فترة وجيزة، ولم يلقَ التفاعل ذاته والمتابعة مثل النشرة الكردية.
أهمية التجربة: دروس مستفادة ومستقبل الإعلام متعدد الثقافات
رغم توقفها، تبقى النشرة الكردية على أورينت نيوز تجربة رائدة، يُحسب لها أنها كسرت حاجز التهميش الإعلامي للغة الكردية. لقد أعطت النشرة الكرد في سوريا شعورًا بالاعتراف بهويتهم، وساهمت في تعزيز الحوار بين مكونات الشعب السوري، رغم تباين آراء الشارع الكردي والسوري حول السياسة العامة لقناة أورينت ككُل.
أثبتت هذه التجربة أن الإعلام يمكن أن يكون جسرًا للتواصل والتفاهم، حتى في ظل أكثر الظروف السياسية تعقيدًا. ورغم الصعوبات، نجحت النشرة الكردية في أن تكون نموذجًا يحتذى لوسائل الإعلام الأخرى، التي يمكن أن تتبنى التنوع الثقافي واللغوي كقيمة أساسية.
تُظهر تجربة النشرة الكردية أن الإعلام يمكن أن يكون أداة فعالة لتعزيز التعددية، إذا ما أُدير بحرفية واستقلالية. كما تسلط الضوء على الحاجة إلى مبادرات إعلامية جديدة تُعبر عن المكونات المجتمعية كافة في سوريا.
مع استمرار الصراع في سوريا، يظل التحدي الأكبر هو بناء إعلام يعكس التنوع الثقافي واللغوي للشعب السوري. يمكن أن تكون تجربة النشرة الكردية نموذجًا يُحتذى في هذا السياق، خاصة مع الحاجة إلى إعلام، يعزز التفاهم والتعايش بين مكونات الشعب السوري.
إضافة لذلك، أورينت نيوز كانت أول وسيلة إعلامية سورية مرئية، ساهمت في صقل تجربة كوكبة من الصحفيين والإعلاميين الكرد السوريين وغيرهم سواء ممن عمل داخل المؤسسة أو خارجها.
ختاماً: إرث حيّ رغم التوقف
ستظل النشرة الكردية على أورينت نيوز علامة فارقة في تاريخ الإعلام السوري، ودليلًا على أهمية إعطاء كل المكونات المجتمعية مساحة للتعبير عن هويتها وقضاياها. ورغم قرار الإيقاف، يبقى إرث النشرة الكردية شاهدًا على قدرة الإعلام على تجاوز الحواجز السياسية والثقافية، وفتح آفاق جديدة للتواصل والتفاهم.
بهذا، تكون النشرة الكردية قد أضافت فصلًا جديدًا إلى تاريخ الإعلام السوري، الذي يحتاج إلى المزيد من التجارب المماثلة لتعزيز التعددية الثقافية واللغوية في المستقبل ولكن عن قناعة تامة بتنوع سوريا الثقافي والإثني.
_________________________________________
من مقالات العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت – تشرين الثاني/ نوفمبر 2024