فنون وآداب

هل يمكن تحقيق إنجاز أخلاقي في عالم ما بعد الجماعة؟

التحدي أمام عصرنا هو أن يجد نموذجاً جديداً قادراً على تجاوز فوضى القيم

محمد صبّاح * – العربي القديم

عندما انفصل مارتن لوثر عن الكنيسة الكاثوليكية، لم يُحرر الأخلاق، بل دمر البنية الاجتماعية التي كانت تعطيها معناها. الأخلاق التي كانت مشروطة بدور الفرد داخل مجتمع ديني أصبحت فجأة فوضى من اختيارات فردية. لم يعد للمبادئ الكونية أي مكان، فقد تكسرت الإنجاز الذي كان يجعل الأخلاق شيئاً متجذراً في هوية المجتمع. الإصلاح لم يكن مجرد تكسير للسلطة الكنسية، بل تدمير لفكرة الأخلاق كإبداع اجتماعي. وها هنا نواجه، كما في عالمنا اليوم، سؤالًا واحداً : ماذا يبقى من الأخلاق عندما ينفصل الفرد عن جماعته؟ هكذا، كما يرى ماكنتاير، لم تُحل الأزمة الأخلاقية بتفكيك المصفوفة، بل انكشف الفراغ.!!!

ألسدير ماكنتاير وفوضى الأخلاق في العالم الحديث

يستهل الفيلسوف الأخلاقي ألسدير ماكنتاير مشروعه الفلسفي برؤية نقدية تعكس الأزمة العميقة التي تعيشها الأخلاق في العصر الحديث، حيث يرى أن مفهوم الأخلاق قد انفصل عن جذوره الأصلية، وأصبح مجرد بقايا مفككة من أنظمة قيمية لم يعد لها سياق محدد تستمد منه معناها. ففي كتابه ( بعد الفضيلة / 1981)، يقارن ماكنتاير بين المجتمعات البطولية الإغريقية والمجتمع الحديث، ليكشف عن تحوّل جذري في إدراك الذات والعالم، وهو تحوّل أدى إلى تفكك المعايير الأخلاقية وانهيار التصورات الكبرى التي كانت تؤطر السلوك البشري.

الهوية والأخلاق: الانفصال المأساوي.

 في المجتمعات الإغريقية البطولية، لم يكن الأفراد يرون أنفسهم ككيانات مستقلة تسعى لتحقيق حقوقها بعيداً عن الآخرين، بل كانت هوياتهم متجذرة في شبكاتهم الاجتماعية، حيث يتم تحديد أدوارهم والتزاماتهم من خلال روابطهم العائلية والمجتمعية. وكما يقول ماكنتاير: «تصبح الذات ما هي عليه في المجتمعات البطولية فقط من خلال دورها؛ إنها إبداع اجتماعي، وليس فردياً ». بمعنى آخر، لم تكن الهوية آنذاك مشروعاً فردياً تُبنى وفقاً لاختيارات شخصية، بل كانت تتحدد ضمن بنية اجتماعية أخلاقية متماسكة، حيث لكل فرد موقع محدد يفرض عليه التزامات وامتيازات معينة. أما في العصر الحديث، فقد تفكك هذا النموذج ليحلّ محلّه تصور فرداني للذات، حيث أصبح الإنسان معزولًا في سعيه لإعادة تعريف هويته بعيدًا عن أي سياق اجتماعي أو أخلاقي مستقر.

انهيار الإطار الأخلاقي وفوضى القيم

 يقترح ماكنتاير فرضية صادمة في بعد الفضيلة، حيث يطلب منّا أن نتخيل وقوع كارثة كبرى تؤدي إلى فقدان البشرية لترابطها النظري في مجال العلوم، بحيث تستمر في استخدام مصطلحات مثل ( النيترون و الوزن الذري)، ولكن دون فهم حقيقي للأنظمة العلمية التي تمنح هذه المفاهيم معناها. ويخلص ماكنتاير إلى أن هذا هو بالضبط حال الأخلاق في العالم المعاصر، حيث نواصل استخدام كلمات مثل «الفضيلة» و«العدالة»، لكننا نفتقد الإطار النظري الذي يمنحها أساساً راسخاً. في الماضي، كانت القيم الأخلاقية مستمدة من أطر دينية أو فلسفية متماسكة، أما اليوم، فقد انهارت هذه المرجعيات، تاركة وراءها فراغاً أخلاقياً لا يمكن ملؤه بمجرد عبارات جوفاء عن الصواب والخطأ. وكما يقول ماكنتاير، فإننا لم ندخل عصر النسبية السهلة، بل تحول المجتمع إلى ساحة معركة مفتوحة يتصارع فيها الأفراد والجماعات حول مفاهيم الخير والعدالة دون وجود معيار مشترك يُحتكم إليه.

من كانط إلى ماكنتاير: هل يمكن تحقيق اتفاق أخلاقي؟

 لقد حاول إيمانويل كانط بناء منظومة أخلاقية قائمة على «الأمر القطعي»، وهو مبدأ كوني يُفترض أن يكون مقبولًا لدى جميع العقول، بحيث يحفّز الأفراد على احترام القانون الأخلاقي لذاته، دون الحاجة إلى دوافع خارجية. لكن ماكنتاير يرفض هذه الفكرة، معتبراً أنه لا يوجد مثل هذا الاتفاق الأخلاقي بين البشر، لأن الأخلاق ليست مفهوماً محايداً يمكن تطبيقه عالمياً، بل هي نتاج سياقات ثقافية وتاريخية محددة.

الشخصية الأخلاقية في العصر الحديث:

 المدير البيروقراطي . يرى ماكنتاير أن كل فلسفة أخلاقية تولّد نموذجاً معيناً للشخصية التي تمثلها. ففي المجتمعات الإغريقية، كانت الشخصية النموذجية هي المحارب البطولي الذي يستمد هويته من دوره داخل مجتمعه. أما في العصر الحديث، فقد أصبحت الشخصية الأخلاقية المهيمنة هي المدير البيروقراطي، ذلك الفرد الذي يتصرف وفقاً لمعايير وظيفية وإدارية دون أن يكون لديه التزام حقيقي تجاه قيم أخلاقية متجاوزة. يقول ماكنتاير حول ذلك : «وراء كل فلسفة أخلاقية أو ثقافة أخلاقية نمط من الشخصية التي تمثلها». وهكذا، أصبحت الأخلاق المعاصرة مجرد أداة تخدم النظام الإداري، بدلًا من أن تكون تعبيرًا عن التزام جوهري تجاه الخير الإنساني.

أين نجد مصادر جديدة للقيم الأخلاقية؟

 في ظل هذا الانهيار، يطرح ماكنتاير السؤال الجوهري: أين يجدر بنا أن نبحث عن مصادر تساعدنا على إعادة بناء القيم الأخلاقية؟ يجيب بأن علينا أن نعيد التفكير في علاقتنا بالهوية والانتماء، لأن الأخلاق لا يمكن أن توجد في فراغ، بل تنشأ من داخل مجتمعات حية تمنحها معنى. وإذا كانت القيم الأخلاقية قد فقدت سياقها في العالم الحديث، فإن المهمة الملحّة أمامنا هي إعادة بناء هذا السياق، من خلال العودة إلى مفهوم أكثر ترابطاً للهوية والالتزام الأخلاقي.

خاتمة:

 نحو استعادة المعنى الأخلاقي إن رؤية ماكنتاير ليست مجرد تشخيص للأزمة الأخلاقية، بل هي دعوة لإعادة التفكير في أسس حياتنا الأخلاقية والاجتماعية. فإذا كانت الأخلاق قد تفككت بفعل الفردانية الحديثة، فإن الحل لا يكمن في البحث عن « قانون كوني» مجرد، بل في إعادة بناء مجتمعات توفر سياقات حقيقية للمعنى والانتماء. وكما كان لكل عصر نموذجه الأخلاقي، فإن التحدي أمام عصرنا هو أن يجد نموذجاً جديداً قادراً على تجاوز فوضى القيم وإعادة تأسيس الأخلاق على أسس أكثر ثباتاً ووضوحاً.

____________________________

*كاتب وباحث فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى