الرأي العام

دلالات وقضايا | هل انقرضت أقدم مهنة في التَّاريخ؟

مهنا بلال الرشيد

عاش البشر في مجتمعات الجَمعِ والصَّيد ردحًا طويلًا من الزَّمن، وتنقَّل أفراد المجموعة الواحدة؛ ذكُورها وإناثها وشيوخها وأطفاها وفتيانها وفتياتها يلتقطون الثِّمار، ويصيدون الطُّيور والحيوانات في السُّهول والبراريِّ، وظلَّ الرَّجلُ الذَّكرُ (الأَلْفَا-ALPHA Personality) يقود مجموعته منذ نشأتها الأولى، عندما كان عدد أفرادها في حدود 10 أشخاص، حتَّى وصل أفرادها إلى عددهم الذَّهبيِّ، الَّذي يترواح بين (150-300) فردًا في المجموعة الواحدة، والأَلْفَا: هو الرَّجل الذَّكر الأقوى بدنيًّا في المجموعة، وغالبًا عندما يصل الذَّكر الألفا إلى مرحلة الشَّيخوخة، يكون عدد أفراد مجموعته البشريَّة قد وصل إلى ما بين (350-500) فردًا؛ ممَّا يحتم عليها أن تنقسم إلى مجموعتين أو أكثر، وفي الغالب يتشظَّى عنها مجموعات صغيرة أو مجموعات بدائيَّة جديدة، يقود كلُّ واحدة منها أَلْفَا شابٌّ جديد بعدما يتمرَّد على الألفا الشَّيخ قائد المجموعة القديمة ويعصي أوامره؛ ويتزاوج مع أنثى أو أكثر من إناث المجموعة القديمة رغمًا عن إرادة الألفا القديم.

من الواضح أنَّ الذَّكر الألفا هو الذَّكر الأقوى داخل أيِّ مجموعة بشريَّة من مجتمعات الجمع والصَّيد، وبعدما يتفوَّق الألفا على ذُكور المجموعة كلِّها يُنصِّب نفسه قائدًا عليها؛ فيأكل باكورة ما تعثرُ عليه الجماعة من ثمار، ويتغذَّى على أفضل لحوم الطَّرائد الَّتي تصديها الجماعة، ويتزوَّج من أجمل نساء هذه المجموعة وفتياتها، ويشرب أنقى مياه الأنهار والينابيع قبل الجميع، ولا يمكن لأيِّ تزاوجٍ آخر أن يكتمل قبل إشباع غرائز الألفا، ولا يسمح أن يتمَّ التَّزاوج على مرأى منه أو دون رضاه؛ لذلك يسترق بعض الذُّكور من الفتيان البالغين الضُّعفاء-مقارنة بقوَّة الألفا-لحظات الحبِّ والتَّزاوج بعيدًا عن مرأى الألفا عندما يخلد للنَّوم أو الرَّاحة بعد أن يُشبِع حاجاته الغذائيَّة والجنسيَّة كلَّها؛ ومن هنا صدقت مقولة: (البقاء للأقوى) على مجتمعات الغاب كلِّها من البشر والحيوانات معًا، وتحدَّدت ملامح العيش في هذه المجموعات، وتعيَّنت خصائص هذه المجتمعات البدائيَّة وقوانينها، واستمرَّ الأمر على هذه الحال عشرات آلاف السِّنين على أقلِّ تقدير، حتَّى دخلت البشريَّة مرحلة عُنق الزُّجاجة.

عُنقُ الزُّجاجة

عنقُ الزُّجاجة هي مرحلة حرجة جدًّا من مراحل التَّاريخ، انخفض فيها عدد البشر انخفاضًا كبيرًا، وصارت الأعداد الأخيرة والقليلة جدًّا من البشريَّة كلُّها مهدَّدة بالانقراض بسبب احتباس المطر وتصحُّر الأرض وانتشار القحط والجفاف وتدهور الغطاء النَّباتيِّ وانقراض أعداد كبيرة من الطُّيور والحيوانات؛ ممَّا اضطرَّ الإنسان إلى تغيير نمط حياة الجمع والصَّيد والتَّحوُّل من حياة البدويِّ الصَّائد الجامع إلى حياة الفلَّاح المزارع، الَّذي جمع بعضًا من حبوب القمح البرِّيِّ، واستصلح الأرض، وحرثها، وبذر القمح فيها، وسقاه، وحصده، وطحنه، وراح يأكله؛ فصمد أمام كبرى تحدِّيات دافع الجوع على مرِّ التَّاريخ، وخرج من عُنق الزُّجاجة؛ فصارت سنبلة القمح رمزًا للنِّعمة المقدَّسة، وعُرِفَ تدجين القمح باسم الثَّورة الزِّراعيَّة؛ لأنَّها أكبر نقطة تحوُّل جذريَّة، لم تُخْرِج البشريَّة من عُنق الزُّجاجة وحسب، بل غيَّرت نمط الإنتاج وقوانين الولاء والحرِّيَّة والعبوديَّة، وتبدَّل شكل المجتمع من مجتمع اشتراكيٍّ بدائيٍّ لدى جماعات الجَمع والصَّيد البدويَّة إلى مجتمع اشتراكيٍّ تعاونيٍّ كبير، وتطوَّر في هذا المجتمع الزِّراعيِّ الجديد شكل العلاقات الاجتماعيَّة وقوانينها النَّاظمة وأعرافها وأخلاقها ومفاهيمها أيضًا، ولم تكن هناك-حتَّى تلك اللَّحظة التَّاريخيَّة-طبقات اجتماعيَّة متمايزة؛ يمكن لكارل ماركس وأتباعه أن يعوِّلوا على دراسة تاريخها من أجل فهم تاريخ المجتمعات البشريَّة كلِّيها.

وقد احتاج البشر في مرحلة الزِّراعة الأولى إلى اشتراكيَّة بسيطة وعادلة، وزَّعوا من خلالها حصص الأرض المتساوية على الجميع، وتعاونوا من أجل استصلاحها وحِراثتها وزراعتها وحصادِ محصولها؛ فاحتاجوا إلى تنظيم وتعاون وتنسيق كبير بين مجموعات متعدِّدة من أفراد المجتمع المستقرِّ من أجل صمود البشريَّة أمام ثلاثة من أخطر تهديدات الدَّوافع السِّيكولوجيَّة في أسفل هرم ماسلو، الَّذي صنَّف فيه الدَّوافع، ووضع في قاعدة هرمه دافع الأمن والأمان، الَّذي يحتم على الإنسان امتلاك وطن وبناءَ بيتٍ؛ ليسكن فيه ويحميه من الحيوانات المفترسة والأخطار البيئيَّة المحدقة به، وفوقه يأتي دافع الجوع، الَّذي يفرض على البشر تأمين الطَّعام أو إنتاجه؛ ليحموا أنفسهم من الهُزال والموت جوعًا، وفوقه يأتي دافع الجنس، الَّذي يفرض على البشر التَّزاوج من أجل حماية الجماعة البشريَّة من الانقراض بسبب الشَّيخوخة وعدم التَّزاوج أو عدم تنظيم الزَّواج وقوانين الأسرة أو المؤسَّسة الزَّوجيَّة.

ظهور القوانين والمِهَنْ الجديدة

يختلف المجتمع الزِّراعيُّ بأعرافه وقوانيه وعاداته وتقاليده جذريًّا عن المجتمع البدويِّ الصَّائد الجامع؛ فالعمل بالصَّيد والجمع يقوم على الحلِّ والتِّرحال والهجرة الدَّائمة، ومفهوم الذَّكر الألفا ابن البيئة البدويَّة ذات الأعراف والقوانين والعادات والتَّقاليد البدائيَّة البسيطة، أمَّا الاستقرار للعمل في الزِّراعة فيحتاج إلى تقسيم الأرض وتوزيعها على أساس عادل؛ ومع هذا الأساس ستولد مفاهيم أكثر تعقيدًا؛ مثل: العدل والمساواة والعدالة الاجتماعيَّة ورفض الظُّلم وتقسيم العمل وتنظيمه، ومن أجل هذا سيحتاج المجتمع الزِّراعيُّ البدائيُّ إلى جهودِ الأطفال والنِّساء والرِّجال للعمل في الأرض والحقول، وعندما يستولي الإقطاعيُّون على القرى والأراضي الزِّراعيَّة في مراحل تاريخيَّة قادمة؛ ستظهر الطَّبقات الاجتماعيَّة، وسيظهر معها النِّفاق الاجتماعيِّ لأصاحب السُّلطة والجاه والمال، ثمَّ سيظهر فيما بعد أصحاب المعامل والشَّركات العملاقة العابرة لحدود الدُّول، وسوف تزداد وطأة الحياة على كثير من الشُّرفاء مقابل قدرة المتلوِّنين على تزيين نفاقهم لأصحاب المعامل والشَّركات وتصويره نجاحًا مهنيًّا ونضالًا من أجل أبناء جلدتهم أيضًا؛ ومن هنا يبدو لي الارتباط الوثيق بين شخصيَّة المنافق الممتهن لنفاقه وتطوُّر طبقات المجتمع، وقد تأخَّر ظهور هذه الشَّخصيَّة مقارنة بأقدم مهنة في التَّاريخ!

أقدم مهنة في التَّاريخ

شعر الفلَّاح بالأمان داخل بيته في حقل وأرضه الزِّراعيَّة المستصلحة، وأمَّن الإنتاج الزِّراعيُّ الوفير في موسم الحصاد مؤونة الشِّتاء، وقضى على الجوع ودوافع الخوف منه، وتحوَّل معظم مجتمعات الجمع والصَّيد الأموميَّة-(نسبة إلى معاناة الأمِّ وحدها من العناية الطَّويلة بطفلها الرَّضيع في مجتمعات الجمع والصَّيد)-إلى مجتمعات أبويَّة زراعيَّة؛ ظهرت فيها مركزيَّة الأب، وتولَّى رعاية الزَّوجة والأبناء داخل بيت الزَّوجيَّة، الَّذي سيلبِّي حاجة كلٍّ من (الرَّجل/الزَّوج) و(المرأة/الزَّوجة) للجنس، وسوف ينظِّم الحياة الزَّوجيَّة بتشريعات وقوانين جديدة بعدَ مشاعيَّةٍ طويلة في مجتمعات الجمع والصَّيد، وسوف يتزوَّج الرَّجل من امرأة واحدة أو أكثر، وسيُحرَّم-بداية-على النِّساء تعدُّد الأزواج كما كانت عليه الحال في المجتمعات البدائيَّة، وسوف يظهر مفهوم الزَّواج المقدَّس بين رجال المعبد؛ مثل: (تمُّوز وأوتو وإنو) ونسائه مثل: (إنانا وعشتار) في ممالك بلاد الرَّافدين الزِّراعيَّة، وسوف يتمكَّن إبراهيم-عليه السَّلام-من الزَّواج من سارة وهاجر، ثمَّ سوف تميِّز الدِّيانة اليهوديَّة زواج قادوشا أو الزَّواج الشَّرعيَّ المقدِّس من زواج زونا؛ أي الزَّواج العابر أو الزَّواج غير الشَّرعيِّ خارج مؤسَّسة الأسرة أو بيت الزَّوجيَّة. ثمَّ ستحرِّم الدِّيانة المسيحيَّة على الرَّجل تعدُّد الزَّوجات أيضًا، وسيكون تعدُّد الزَّوجات متاحًا وفق شروط وضوابط في الدِّيانة الإسلاميَّة، وسيتأكَّد في الإسلام تحريم زواج زونا اليهوديِّ، وسوف يطلق عليه القرآن الكريم اسم الزِّنا المحرَّم.

أمام هذه التَّطوُّرات الجذريَّة الكبيرة اختفى الذَّكر الألفا قائد المجموعة البشريَّة وأقوى فرد فيها من المجتمعات الزِّراعيَّة، وتبدَّد الخوف منه، وظهرت القوانين الَّتي توجب على الإنسان العمل الزِّراعيَّ الطَّويل خلال العام، وظهرت الشَّرائع الَّتي تنظِّم الحياة الزَّوجيَّة؛ كشرائع أور نمَّو ولبت عشتار وحمورابي، وتمايزت قليلًا طرائق شرائع الدِّيانات السَّماويَّة في تنظيم عدد الزَّوجات والعلاقة الزَّوجيَّة في الحنفيَّة الإبراهيميَّة واليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام، وبرغم سيادة مهنة المزارع الفلَّاح وانتشارها الواسع ظهرت مهنٌ نادرة؛ مثل: كَهَنَة المعبد ونسائه وجُباة الضَّرائب ورجال الاتِّصالات والجنود وحرَّاس حدود المملكة الزِّاعيَّة؛ لكنَّ مهنة المومس أو بنت اللَّيل الَّتي تبيع الهوى والمتعة الجنسيَّة للرَّاغبين بها مقابل المردود المادِّيِّ ظهرت مبكِّرًا مع أولى شرائع المجتمعات الزِّراعيَّة وقبل المهن كلِّها؛ إذا استثنينا مهنة الفلَّاح طبعًا؛ لأنَّ عَمَلَ المزارع في أرضه لا يُعدُّ وظيفة لدى الفلَّاح ذاته، الَّذي ينذر وقته وحياته كلَّها لأرضه، وتصون له الشَّرائع أرضَه، وتحميها له، وتقدِّس عمله فيها، وتمجِّد دفاعه عنها في وجه أيِّ مشروع يهدف إلى السَّيطرة عليها، وتَعُدُّ هذا النَّوع من العمل في الأرض والدِّفاع عنها عملًا شريفًا يمكن المجاهرة والتَّفاخر به، ولا يحتاج إلى أيٍّ سرِّيَّة أو تخفٍّ؛ كعمل بنت اللَّيل، أو إقامة العلاقة مع المومس الَّتي تبيع الهوى خارج المؤسَّسات الزَّوجيَّة لغير القادرين على الزَّواج من الذُّكور أو غير الرَّاغبين به، وتمنحه لبعض الذُّكور من المتزوِّجين الَّذين يحملون جينات وراثيَّة قويَّة عن مشاعيَّة التَّزاوج من أزمان الجمع والصَّيد الغابرة، ويحلمون بتعدُّد الزَّوجات خارج إطار الزَّوجيَّة، حين كان ذلك متاحًا في أزمنة غابرة؛ ونتيجة لتقنين الزَّواج وحماية مؤسَّسة الحياة الزَّوجيَّة بالقوانين والشَّرائع ظهرت مهنة بائعة الهوى؛ فعملت المومس على الاستفادة من حنين بعض الذُّكور الغريزيِّ للمشاعيَّة الزَّوجيَّة؛ فقدَّمت هذا النَّوع من الخدمات، واستفادت من جسدها، وجعلته مهنة لها، وحين تمتهن الأنثى جسدها، أو تقدِّم نفسها بناء على معايير الإمكانات الجسديَّة البارزة ستخضع هي ذاتها لمعايير سوق العمل من حيث العرض والطَّلب، وفي نهاية المطاف ستغدو مومسًا عمياء بلا عمل آخرَ حياتها وِفقًا لعنوان قصيدة شهيرة من قصائد بدر شاكر السَّيَّاب.

بائعات الهوى في الشَّركات العابرة للحدود

استقرأ كارل ماركس تاريخ المِهن والطَّبقات الاجتماعيَّة، واستنتج خلال دراسته تاريخ المجتمعات الصِّناعيَّة والبرجوازيَّة أنَّ تاريخ أيِّ مجتمع هو تاريخ الصِّراع الطَّبقيِّ فيه، ولن يمرَّ زمنٌ طويل بعد كتابات كارل ماركس في رأس المال حتَّى تظهر الثَّورة الرَّقميَّة والشَّركات العملاقة العابرة لحدود الدُّول، وسوف تُغَيِّرُ هذه الشَّركات مجموعة كبيرة من قوانين الصِّراع الطَّبقيِّ، وسوف تؤثِّر في دخل الفرد وعلاقاته الاجتماعيَّة، وستختفي معها مجموعة كبيرة مِن المهن؛ مثل مهنة الأستاذ أو المدرَّس التَّقليديِّ، الَّتي صارت من أكثر المهن المهدَّدة بالانقراض بسبب انتشار بودكاستات الدُّورس المسجَّلة والمتاحة في المنصَّات التَّعليميَّة، وبسبب الذَّكاء الصِّناعيِّ صارت معظم خطوات العمل في المعامل مؤتمتة، وصار بإمكان عامل واحد أن يسدَّ-بالتَّعاون مع الآلة والذَّكاء الصِّناعيِّ-مكان عشرات أو مئات العُمَّال، ولم يعد صاحب المعمل أو الشَّركة العملاقة يخشى من إضراب عمَّاله أو رحيل موظَّفيه من أجل رفع رواتبهم أو تحسين شروط عبوديَّتهم عنده؛ لأنَّه يستطيع  ببساطة استبدال أيِّ عامل بعامل آخر، وهو مستعدٌّ لاستبدال فريق العمل كلِّه لو احتاج إلى ذلك، ويعرف معظم العمَّال هذه الحقيقة؛ لذلك يتمادون في نفاقهم الاجتماعيِّ لوليِّ نعمتهم، ويتفنَّنون في الدِّفاع عن عبوديَّتهم مقابل استمرار رواتبهم أو عدم تسريحهم من أعمالهم، وأحيانًا يحاول بعض الحمقى منهم إلباس عَمَلِهم لَبوسَ الإبداع والرَّغبة في جَمعِ النَّاس المقهورين والدِّفاع عنهم.

داخل هذه البيئة المخيفة والمضطربة من بيئات العمل يمكن للمومس أو بنت اللَّيل أن تحصل على عمل لها، لا سيَّما إن أجادت تسويق نفسها أمام صاحب الشَّركة العملاقة أو في مكتب من مكاتب المدراء في إحدى المؤسَّسات، وبعد تدريب بسيط سوف تستلم عملها، الَّذي لا يحتاج إلى خبرات كثيرة أو شهادات جامعيَّة، وبسرعة سوف تبدأ الإشادة بجهودها، وَسَتُرقَّى في عملها، وستأخذ عُطلًا إضافيَّة وأوقاتًا من الرَّاحة لا سيَّما إن داومت في ليالي عملِ المؤسَّسة الطَّويلة مع أشهر موظَّفي المؤسَّسة ورؤساء أقسامها، وفي مثل هذه الحال سيكون بوسعها أن تجمع بياناتهم وتسريب أخطر أسرارهم الشَّخصيَّة، ويمكنها أن تخترق مؤسَّسات حياتهم الزَّوجيَّة، وتعرف أكثر معلوماتهم الخاصَّة وأخطرها عليهم أيضًا، وإن زوَّدت بهذه المعلومات جهة ما؛ مثل صاحب الشَّركة العملاقة سيتمكَّن من تركيع موظِّفيه إن لم يكونوا من الرَّاكعين للدَّراهم والسِّينتات أساسًا، وسوف يجعل بعضهم مهرِّجين عنده، يُسَلُّون الخاصَّة والعامَّة بقصص حياتهم الشَّخصيَّة بدل أن يكونوا كُتَّابًا أو نُقَّادًا ساخرين ينتقدون عيوب المجتمع، وسوف يأخذ كثير منهم وضعيَّة رامي البارودة المنبطح أمام صاحب الشَّركة والمقاتل الشَّرس ضدَّ أبناء جلدته في آن واحد، لا سيَّما إن نصحه أحدهم بخطورة هذا المشروع، الَّذي يقوده تاجر شركة عملاقة لا قائد ثورة حقيقيٍّ. وربَّما يكون هذا الاضطراب النَّفسيُّ في مزاج هذا الموظَّف المرتزق مع التَّناقض والتَّبدُّل السَّريع من حال إلى حال أهمُّ الصِّفات الَّتي يكتسبها الموظَّف المروَّض من العاهرة ذاتها، فلو قرَّرْتَ-عزيزي القارئ-أن تنصح مومسًا فإنَّها في الغالب سوف تثور في وجهك، ولو زيَّنتَ لها عملها ستقضي معها جلسة أو جلسات طويلة من الودِّ؛ مثل ابن جلدتك الموظَّف الَّذي ينبطح كالحمل الوديع أمام المومس أو رامي البارودة المنبطح أمام صاحب الشَّركة العملاقة، ولو زيَّنتَ له بَطْحَتَه ومشيته في مشاريع التُّجَّار امتدحك، ولو أشدتَ بإبداعه دعاك إلى المقهى، ولو حاولتَ تفنيد أوهامه وكَشْفَ مخاطرها انفجرَ بوجهك مثل المومس، وربَّما اتَّهمكَ، وأخرج صفاتِه، وأسقطها عليك!

العَرْض والطَّلَب

 العرض والطَّلب قانون جوهريٌّ من قوانين سوق العمل، فقد انتقرضتْ مِهَنُ البوابيريِّ والباغاجاتيِّ والإسكافيِّ في سوريا، ثمَّ رجعتْ بسبب الحاجة إليها خلال الثَّورة، وحتَّى لا يفكِّر أيُّ شخص طوباويٌّ-خارج قانون العرض والطَّلب-بالتَّخلَّص من المومس الَّتي حافظت على مهنتها منذ أقدم العصور حتَّى وقتنا الرَّاهن أُبَشِّرُهُ بأنَّ منجزات الحضارة في الثَّورة الرَّقميَّة أحيت قانون: (داوِها بالَّتي كانت هي الدَّاء)؛ وهذا هو القانون الوحيد القادر على القضاء على مهنة المومس؛ أي لا بدَّ من ظهور مهنة أو حالة اجتماعيَّة أخرى تسدُّ مكانها أو تتفوَّق عليها؛ لتحلَّ مكانها؛ فالبودكاست-على سبيل المثال-حلَّ مكان التِّلفزيون، والتَّلفزيون حلَّ مكان السِّينما، والسِّينما حلَّت مكان الرَّاديو، وبهذه الطَّريقة انقرض كثير من المهن المرتبطة بالتِّلفزيون والسِّينما والرَّاديو بوصفها بيئات عمل.

حين تعاني بعض المجتمعات من حروب واهتزازات تختلُّ البنية الاجتماعيَّة ومنظومة القِيم فيها؛ فيسكن البعض في المخيَّمات، ويرضى البعض بما لم يكن يرضاه في بيته، وينزح، ويهاجر آخرون، ويضيع في الغربة كثير من أبناء الأصول، ويتصيِّد المتسلِّقون مواهب وانتفاخات خُلَّبيَّة، ويستعرضون في مقمقات القول نجاحاتهم الخرافيَّة داخل مياه القهر العكِرة أو مياه بيئة الحرب الآسنة، ويصبح-بسبب البطالة الحقيقيَّة والمقنَّعة-كثير من البشر معروضين في سوق العمل على مدراء الشَّركات العملاقة العابرة لحدود الدُّول، الَّذين لا يأبهون إلَّا بتحقيق أغراضهم دون أيِّ نظرٍ إلى معايير توزيع الرَّواتب والثَّروة، وسيصبح معيار قدرة الفرد على تحقيق أهداف صاحب الشَّركة مقدَّمًا على أهداف الكفاءة والنَّزاهة وجودة الإنتاج، وقد تكون المومس ذاتها أكثر فائدة من غيرها في كثير من المواقع.

المثلية تهدد عمل المومسات

بسبب تَنافُسِ الأحزاب السِّياسيَّة على قيادة الدُّول المتحرِّرة، ومن أجل استقطاب أصوات شرائح متعدِّدة من النَّاخبين لم يكتفِ قادة بعض الأحزاب بالاعتراف بمهنة بائعة الهوى، وتشريع عملها تحت سقف الوطن والقانون بل سمحوا للفرد أو (الفردة) (رجلًا أو امرأة) بتغيير جنسه، ودافعوا عن المثليَّة الجنسيَّة؛ كزواج الرَّجل من رجل آخر أو زواج المرأة من امرأة أخرى؛ وهذا سوف يهدِّدُ عملَ بعض المومسات في بعض  الشِّركات العملاقة العابرة لحدود الدُّول، الَّتي استقطبتْ بعض الموظِّفين والموظَّفات للعمل كأصحاب رأي ولتأدية مهمَّات خاصَّة داخل بيئة عمل ينعم فيها بعض الموظِّفين بعلاقات ودِّيَّة مع (موظَّفات) مشبوهات، قد تسافر إحداهنَّ فجأة إلى بلد بعيد، أو تصاب الأخرى بمرض نفسيٍّ مفاجئ؛ فتهذي على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ بأسرار مخفيَّة ومخيفة، وقد ينزوي موظَّف في بيته بعيدًا عن الإعلام، ويحافظ على راتبه الشَّهريِّ الكبير من صاحب الشَّركة العملاقة مقابل التَّكتُّم على أسرار الشَّركة وبعض أدوارها الخبيثة؛ كسعيها لاختراق المجتمعات المأزومة الأخرى وتدميرها وتهجير أهلِها قبل احتلال أرضها، ومن خلال نظرة مشحونة بالغباء قد تبدو المسألة في أوَّل أمرها بسيطة جدًّا؛ لكنَّ نتائجها-بالتَّأكيد، وبعد زوال شحنة الغباء-نتائج كارثيَّة؛ كنتيجة غباء بعض الدَّجاجات الضَّعيفات عندما سمحت للدِّيك (الهنديِّ) الحقير أن يستريح بينها قليلًا، ويضع رِجْلًا واحدةً من أرجله في الخُمِّ؛ ثمَّ صارت الكارثة، وصار الجمل صاحب الخُمِّ وقائد المجتمع، وتشرَّد الدَّجاج على أبواب المطاعم وأسياخ الشَّوَّايات؛ وبهذه القصَّة من قصص أحمد شوقي الشِّعريَّة نختم قضيَّة هذا المقال ودلالاتها:

بَينا ضِعافٌ مِن دَجاجِ الرِّيفِ    تَخطِرُ في بَيتٍ لَها طَريفِ

إِذا جاءَها هِنْدِي كَبيرُ العُرفِ    فَقامَ في البابِ قِيامَ الضَّيفِ

يَقولُ حَيّا اللَهُ ذي الوُجوها       وَلا أَراها أَبَداً مَكروها

أَتَيتُكُم أَنشُرُ فيكُم فَضلي         يَوماً وَأَقضي بَينَكُم بِالعَدلِ

وَكُلُّ ما عِندَكُمُ حَرامُ     عَلَيَّ إِلّا الماءُ وَالمَنامُ

فَعاوَدَ الدَجاجَ داءُ الطَيشِ       وَفَتَحَت لِلعِلْجِ بابَ العُشِّ

فَجالَ فيهِ جَولَةَ المَليكِ          يَدعو لِكُلِّ فَرخَةٍ وَديكِ

وَباتَ تِلكَ اللَيلَةَ السَعيدَه         مُمَتَّعاً بِدارِهِ الجَديدَه

وَباتَتِ الدَّجاجُ في أَمانِ          تَحلُمُ بِالذِلَّةِ وَالهَوانِ

حَتّى إِذا تَهَلَّلَ الصَباحُ           وَاِقتَبَسَت مِن نورِهِ الأَشباحُ

صاحَ بِها صاحِبُها الفَصيحُ      يَقولُ دامَ مَنزِلي المَليحُ

فَاِنتَبَهَت مِن نَومِها المَشؤومِ     مَذعورَةً مِن صَيحَةِ الغَشومِ

تَقولُ ما تِلكَ الشُروط بَينَنا       غَدَرتَنا وَاللَهِ غَدراً بَيِّنا

فَضَحِكَ الهِندِيُّ حَتّى اِستَلقى    وَقالَ ما هَذا العَمى يا حَمقى

مَتى مَلَكتُم أَلسُنَ الأَربابِ قَد كانَ هَذا قَبلَ فَتحِ البابِ

زر الذهاب إلى الأعلى