أرشيف المجلة الشهرية

حسين عيسو: أول المغيبين وآخر الغائبين

نظر إلى رجليه المزرقتين، بعد أن أُبلغ بتجهيز نفسه للترحيل إلى فرع المخابرات في دمشق، وتحدث عما ينتظره من أهوال

حسين جلبي – العربي القديم  

لاحظ حسين عيسو، عند عودته إلى البيت، بعد مشاركته في مظاهرة أمام نقابة المحامين بالحسكة، وجود مراقبة، فتراجع وذهب إلى بيت شقيقته في القرية، وتخفى عندها، لكنه قرر -خلافاً لنصيحتها- الذهاب إلى بيته بعد عدة أيام، في منتصف ليلة الثاني من أيلول 2011؛ لأنه احتاج غرضاً، وفكّر بنقل بعض الكتب، كيلا يتم ضبطها، إذا ما تمت مداهمته يوماً، مستبعداً تواجد الأمن في مثل ذلك الوقت المتأخر.

دخل حسين عيسو إلى البناء بحذر شديد، وفي اللحظة التي وطئت فيها قدماه شقته، داهمها الأمن وألقى القبض عليه. يبدو بأنهم كانوا في حالة كمين، داخل البناء. وضع عناصر الأمن أيديهم على عدد من الكتب وأشياء أُخرى، منها جهاز خليوي حديث، ومبلغ من المال كان في جيبه.

أخفت أجهزة المخابرات حسين عيسو، وأبقت مصيره مجهولاً، فخرجت عدة مظاهرات للمطالبة بالإفراج عنه، منها واحدة بعنوان (ثلاثاء الوفاء لحسين عيسو). لم يكن الأمر كذلك بالنسبة للناشط في التنسيقيات شبال إبراهيم، الذي اختطفه الأمن الجوي في القامشلي، بعد ثلاثة أسابيع من ذلك، ونقله إلى فرع دير الزور، فقد التقاه هناك، ووصف لقاءه به قائلاً: (كنت أتحرك دون هدف في المنفردة، عندما فتح عسكري الباب، وطلب مني اللحاق به، تبعته، فتوقف بعد خطوات أمام باب وفتحه، أنار ضوء الممر زنزانة، لا يختلف حجمها عن تلك التي تركتها، غير أن فيها رجلاً نحيلاً، طويل الشعر والذقن، يرتدي قميصاً خاكياً، وبنطالاً أسود، يجلس ويسند ظهره إلى الحائط المواجه، وإلى جانبه حذاؤه. دفعني العسكري إلى الزنزانة، وأغلق الباب علينا، بادرت الرجل بالتحية، فطلب مني الجلوس إلى جانبه، فعلت وبدأت أدقق في ملامح وجهه المألوف، الذي يعكس ألماً يعيشه، شعرتُ بالحزن لوجود شخص في سنه في السجن، منذ مدة طويلة، حسب ما هو واضح من مظهره).

بلغ حسين عيسو في ذلك الوقت اثنين وستين عاماً من العمر، وكان يعاني من عدة أمراض، فاقمها احتجازه في المنفردة، يتناول أدوية القلب والضغط وأمراض أُخرى ثلاث مرات في اليوم، بمعدل خمس حبات في كل مرة، إلا أن ذلك لم يمنعه من كتابة مقالات رأي، والظهور على الفضائيات، والمشاركة في المظاهرات بعد بداية الثورة على نظام الأسد، ودعم الشبان والانتظام في التنسيقيات الشبابية وكتابة بياناتها، رغم امتناعه عن إعلان ذلك بسبب سنه، كما لم يمنعه ذلك قبل عامين، من حمل عريضة موقعة من خمسين ألف مواطن في محافظة الحسكة إلى العاصمة، لمطالبة السلطات بإلغاء مرسوم جمهوري، منع إجراء أي تصرف على العقارات، الأمر الذي أصاب الحياة الاقتصادية بالشلل.

لم يبخل حسين عيسو بعلمه وتجربته في الحياة، على رفيقه في المعتقل. كان رأيه بأن على المعتقل أن يكون على مستوى التحدي، يقاوم عبر البقاء واقفاً على قدميه، ولن يتم له ذلك، إلا بالمحافظة على قواه، بتناول ما يقدم له من طعام وأخذ أدويته، إذا تم توفيرها، وعدم الوقوف على ما اعتبرها صغائر الأمور، مثل الشتائم التي يوجهها السجّان له، وإلا كان عوناً له على نفسه، لقد اعتبر الذين يستخدمون الشتائم والضرب مع أسرى لديهم، جبناء، خائفين في دواخلهم، يحاولون عبثاً إثبات رجولتهم، واعتبر تلك الصفعات أوسمة رجولة لمن يتلقاها، يمنحها لهم المهزومون، رغماً عنهم. لقد التزم حتى بأمر النوم في المنفردة الضيقة، لكي يرتاح قدر الإمكان، ويحتفظ بطاقته ولا يتعرض للعقوبة، من الحراس الذين يفتحون كوّة الباب من وقت لآخر، ويعاقبون من يضبطونه جالساً يتحدث.

كان حسين عيسو، يتأرجح بين أمل الخروج من المعتقل، ويأس البقاء فيه. أثار موضوع المظاهرات من أجله، وتحدث عنها كأحد العوامل التي يمكن المراهنة عليها، لكنه نظر إلى رجليه المزرقتين، بعد أن أُبلغ بتجهيز نفسه للترحيل إلى فرع المخابرات في دمشق، وتحدث عما ينتظره من أهوال، من واقع تجربته في رابطة العمل الشيوعي، ومعرفته تفاصيل عن أساليب النظام في التعذيب، من خلال رفاقه الذين اعتقل معظمهم، وقال بأنه لن يخرج حياً من هناك؛ لأن الموضوع ليس مجرد تحقيق عادي، بينما هو رجل كبير السن، يعاني من عدة أمراض منها الديسك، ومر بعدة عمليات جراحية خطيرة منها القلب المفتوح. رغم كل ذلك، حاول تجاوز الصدمة، فراهن على قدرته على التماسك، وحاول تطييب خاطر رفيقه، بالقول بأنه شاب وسيتحمل، ثم ذهب بعيداً، وهو يتحدث عن احتمال سقوط رئيس النظام، وبأن ذلك قد يحدث وهما لا يزالان على الطريق، بحيث ينتهون من الموضوع بسهولة.

في الصباح الباكر، أُخرج حسين عيسو مع رفيقه من المنفردة إلى الممر. ربطهما عسكري بسلسلة حديدية، لفّها حولهما عدة مرات، مثلما يجري في الأفلام الأمريكية، في مشاهد نقل السادة للعبيد الذين اشتروهم، وقيّد آخر اليد اليسرى لكليهما إلى السلسلة، ثم وضعوا طمّاشات سوداء على عيونهم، وطلبوا وضع اليد اليمنى على الطمّاشة. سحب العسكري سلسلة الحديد، فجرّهما وراءه، فقدا توازنهما على الدرج وتعثرا به، فسقطا. تمكنّا بعد عدة محاولات من تجاوز الدرج، ومغادرة مبنى فرع الجويّة بدير الزور، إلى أن أوقفوهما وأصعدوهما إلى سيارة ميكروباص، طُلب منهما خفض رأسيهما وجعلهما بين الرجلين، ليبدأ عسكريان جالسان في الخلف، منذ تلك اللحظة، بصفعهما ولكمهما والسخرية منهما، وسط ضحكات العساكر الآخرين وسخريتهم.

توقفت الحافلة عند أحد الحواجز، فطلب حسين عيسو السماح له بالنزول للتبول، مبرراً بأنه مريض بالسكري. شتمه العسكري، لكنه وعده بالسماح له على الحاجز المقبل. عندما أوقفوا الحافلة ثانيةً بعد مسافة، أنزلوا حسيناً لقضاء حاجته حسب ما وعدوه قبل قليل، لكنهم بدلاً من ذلك، أخذوا يشتمونه ويضربونه بوحشية. يبدو بأن عناصر حاجز قريب قدِموا في تلك الأثناء، وانضموا إلى الآخرين في الاعتداء عليه، إلى أن أعادوه إلى الحافلة وأجلسوه في مكانه، فسارع إلى الهمس في أذن رفيقه، وهو يلهث طالباً منه عدم طلب قضاء حاجته منهم.

تابعت الحافلة سيرها، وتوقفت عند حاجز، لم يكن يشبه الحواجز التي مرت عليهما من قبل. بدأ المعتقلان يسمعان صرخات متداخلة، كأنها صادرة من الجحيم، تشبه اصطفاق أجنحة طيور مذعورة، انطلقت نحو السماء، حتى كادت تحجبها بالسواد، عندما شاهدت صياداً أو سمعت إطلاق رصاص من بندقيته. كانت الصرخات لأُناس يبكون بطريقة وحشية ويتوسلون، مع ضربات لا تتوقف عن النزول عليهم، مترافقة بشتائم، يزلزل صداها المكان.

أنزل حسين ورفيقه بعنف من الحافلة، بل ألقيا خارجها مثل كيسي مهملات، ووجهت لهما شتائم قذرة، اصطدما ببعضنا، فسقطا على الأرض. أصدر صوتٌ أمراً باتخاذ وضعية السجود، شرح ذلك قائلاً، بأن عليهما الجلوس على الركبتين، وجعل الجبهة على الأرض. تم فكّ القيد عن أيديهما بعد ذلك، وطُلب منهما وضعها على الطمّاشة الموجودة على العيون، بحيث تكون الكفّان عليها وسطحهما إلى الخارج، فأصبحتا بذلك محتجزتين بين الرأس والأرض.

أوقفوا حسين عيسو بعد دقائق، أخذوه دون أن يقولوا شيئاً. تعرض للشتم والضرب، بينما يجري اطلاعه على الكتب التي تم وضع اليد عليها في بيته، وبعدما تمت إعادته، سُمع صوت ارتطام سلسلة حديدية بالأسفلت، أوقفوه وقيدوا يده اليسرى إليها، وطلبوا مني وضع الأُخرى على الطمّاشة التي تغطي عينيّ، وهو ما جرى مع الآخرين أيضاً. تحرك الجميع، فُفقد منذ تلك اللحظة، كل أثر لحسين عيسو داخل المعتقل، إذ لم يعرف أحد أي شيء عنه، رغم السؤال عنه، خلال التنقلات من معتقل إلى آخر، أو إلى محكمة الميدان، إلى أن أبلغ أحد المعتقلين عن لقائه الأخير به.

كان حسين عيسو محتجزاً في قاعة المدرج بمطار المزة، ساء وضعه الصحي كثيراً، وكان يتألم باستمرار، فطلب نقله إلى المشفى. رجاه الجميع طرح الفكرة من رأسه؛ لأن أقرب مشفى إلى مطار المزة، يُتوقع أن يأخذوه إليه، هو مشفى 601 العسكري، وإذا حصل ونقلوه إليه، فسوف لن يعود منه سالماً، حسب سوابق شهدها المعتقلون، لكنه لم يعد يحتمل الألم، فقال بأنه سيذهب مهما كان الثمن.

عندما أخذوا حسين عيسو إلى المشفى، كان أكثر ما يؤلمه رجلاه وظهره، ويعاني من صعوبة في الحركة، أما عندما أعادوه بعد يومين، فكان عاجزاً تماماً عن الحركة، ويخرج الدم من فمه. بقي حسين ممدداً على ظهره وينزف من فمه، فنادى رفاقه مجدداً على السجّان، الذي فتح الباب ونظر إليه ثم ذهب، وعندما عاد بعد حوالي ساعة، توجه إليه قائلاً: (اذهب ومت في بيتك، ولا تجعل من نفسك بطلاً علينا).

أخذوا حسين عيسو، ولم يعيدوه بعد ذلك.

* يستند المقال إلى شهادات، وردت في الرواية التسجيلية “العبور من الجحيم”.

  _________________________________________

 من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى