رحيل حسن سامي يوسف: السيناريست الفلسطيني الذي بدأ ب"الاتجاه المعاكس" وغاص في عشوائيات دمشق
محمد منصور- العربي القديم
لم يكن رحيل الكاتب والسيناريست حسن سامي يوسف استثنائياً، فالراحلون على مدار كل الأعوام يغيبون واحدا تلو الاخر، في سنة كونية لا تنقطع، فما بالك بزمن الخسارات السوري والفلسطيني حيث التدمير سنة الطغاة والمزاودين والمرتهنين. لكن غياب مبدع بمثل غزارة وتنوع واستمرارية حسن سامي يوسف هو تكريس لتبدل ملامح حياة، لغياب جيل من النبلاء، وسط أجيال من الانتهازية والأنذال والمزورين ومناصري الاستبداد الذين يوصفون بأنهم “مبدعون” أيضا.
الدولة/ العصابة
في نبأ رحيله اليوم الذي تلقفه السوريون صباح هذه الجمعة، تنساب الذكريات على ألسنة من عرفوه، ويحضر القص واللصق على صفحات من لم يعرفوه لكنهم اعتادوا أن يكونوا أصدقاء الجميع وملتقى صداقات الجمع من المشاهير والمبدعين الذين يبكًّرون في رحيلهم دوما.
من النوع الأول يكتب الشاعر فرج البيرقدار عن ذكرياته مع حسن ومع أخيه الأكبر الناقد يوسف سامي اليوسف فيقول:
” كنت في سنوات التخفّي والملاحقة ألجأ كثيراً لبيت صديقي الناقد يوسف سامي اليوسف “أبو الوليد”، الأخ الأكبر لحسن. هناك التقيت بحسن مراراً ورست أحاديثنا ودردشاتنا على موقف لخَّصه بكلمات قليلة، لا أزال أتذكر رخامة صوته وهو يقول: الدولة التي تطارد أمثالكم من السياسيين والمثقفين تفقد اعتبارها ومقوماتها كدولة وتصبح أقرب إلى عصابة. ومما أنا مدين به لحسن وأحب استذكاره هنا، أنه أنقذني مرة من الاعتقال، فذات ليلة هانئة من ليالي عام 1986، كنت في بيت صديقي “أبو الوليد”، حينها جاء حسن ليبلغنا وهو هادئ الملامح، رغم تلاهث أنفاسه بسبب المسافة الفاصلة بين منزليّ أخويه أبو النور وأبو الوليد، أن عناصر الضابطة الفدائية التابعة لفرع فلسطين موجودون في بيت أخيه أبو النور، يسألونه إن كان يعرف شيئاً عن فرج بيرقدار أو مكان سكنه”.
أجل اعتبر حسن سامي يوسف هذا النظام الذي يلاحق المثقفين “أقرب إلى عصابة” رغم أن أنصار هذه العصابة منشغلون الآن بنعيه، واعتبار بقائه في دمشق طيلة سنوات الثورة، أو “العشرية السوداء” كما يسميها ابن النظام طائفةً وثقافةً وانتماءً جود سعيد، دليلا على مناصرته لهذه العصابة التي عاش حسن سامي يوسف في ظلها، منشغلا عن مقاومتها ومقارعتها بإبداع يشيح الوجه عن التزلف والنفاق والتسبيح بحمد الطغاة. مقترباً برهافة وذكاء من معاناة الإنسان وأزماته التي يشيعها الاستبداد.
تشريح مناخ الاستبداد
في مسلسل (الانتظار) يقول الصحفي المغضوب عليه لزميله: “لك أنا ساكت ومسكًّر تمي ومو مخلًّص” جملة كاشفة تقول الكثير عن صحافة بدل أن تنقل أصوات الناس، يغلق صحفيوها أفواههم اتقاءً لغضب السلطة وشر أزلامها. لقد كان حسن سامي يوسف بارعاً في تشريح المناخ، مناخ القهر الذي يصنع العشوائيات والفقر ويشيع انحطاط القيم ويشجع عليه، لأنه يجعل الناس يشبهونه ويشبهون أزلامه وأنصاره والمؤمنين بأهمية وجوده من أجل بقائهم على هذا النحو من القبح والحيونة التي لا تتأنسن.
منذ مسلسل (أسرار المدينة) الذي كتبه بالاشتراك مع نجيب نصير وأخرجه هشام شربتجي عام 2000 إلى (أيامنا الحلوة) عام 2003 مع المخرج نفسه، وليس انتهاء ب”الانتظار” مع المخرج الليث حجو عام 2006 غاص حسن سامي يوسف ابن مخيم اليرموك في تشريح بيئة العشوائيات في ضواحي وأحياء ما حول دمشق. أظهر بشاعة السلطة من خلال بشاعة العمران وعلاقاته… بدت له دمشق الأخرى غير دمشق التي انطلق في مسيرته مع الدراما التلفزيونية فيها، عبر مسلسل (شجرة النارنج) عام 1989 مع المخرج سليم صبري. هناك دخل إلى دمشق القديمة الغارقة في الحنان والألفة، وصور صراعات الأصالة مع الاستهلاك، والألم الذاتي مع الألم العام… وخطر التفتت العائلي مع خطر تفتت النسيج المديني. بدت دمشق أشبه بشجرة النارنج الفواحة بالعطر والمحاصرة بمتغيرات سرقت من النارنج عطره ومن دمشق أصالتها. لم يكن حسن سامي يوسف في هذا المسلسل دمشقيا تقليديا مسكونا بالحنين المحموم الذي يطلق صيحات الاستغاثة والهلع من أجل الحفاظ على إرث المدينة… بل كان ينظر إلى دمشق من مسافة أبعد، ينظر إليها نظرة الفلسطيني المُشفق الذي جاء إليها لاجئاً فأحبها وكره القدم الهمجية التي كانت تهشم روحها. رأى جمالياتها وحضارتها وإرثها، فحاول أن يغوص في ميلودراما مجتمعها التقليدي كي يصنع تراجيديا اجتماعية مؤثرة، بعكس من جاؤوها مخبرين جائعين فريّفوها وكرهوا تمدنها وأظهروا ما تيسر لهم من عقد وحقد ودونية أمامها.
دراما مدينية عن الفقر والقهر
لم يذهب حسن سامي يوسف إلى الريف في مسلسلاته غالباً، لقد كان ابن المدينة وقضاياها، وابن تجمعاتها العشوائية والخبير بقسوتها وحنانها، وطموح أبنائها للارتقاء… رأى الفقر المديني الذي تصنعه سلطة القهر والفقر. وعلى الدوام استطاع في كل ما أنجزه أن ينفذ إلى كل السلطات التي تحاصر الإنسان بثنائية القهر والفقر.
هذه الحساسية العالية لقيم العدالة، جعلت من حسن سامي يوسف منفتحاً على تلمس الألم الإنساني في كل تجربة أو دراما… وكان رجل التعاون مع المشاريع الصاعدة، القادرة على صناعة رؤيتها بتفرد… وفي هذا كتب المخرج مأمون البني الذي تعاون معه في أول أفلامه الروائية (يوم في حياة طفل) الذي أنتجه التلفزيون السوري، وهو يتلقى خبر نعيه اليوم:
“لن أنسى عندما كنا في أوائل نشاطنا تعرفت على حسن وكتبنا السيناريو الأول، وكان فيلمي الروائي يوم في حياة طفل الذي نال جائزة التانيت الذهبي 1980 في مهرجان قرطاج وكانت الذهبية الأولى في تاريخ التلفزيون”
واستطاع حسن سامي يوسف بإخلاصه الشديد لأفكاره ولمشاريع من تعاون معهم، أن يكون حاضرا في الوسط الثقافي في كل مجالاته، فلم تقتصر مساهماته في السينما على المؤسسة العامة التي كان موظفا فيها عضو لجنة قراءة نصوص حتى تقاعده، بل تعاون مع القطاع الخاص السينمائي في الثمانينات قبل أن تجهز عليه “الدولة الأقرب إلى العصابة” كما أسماها، وتعاون مع سينمائيي التلفزيون السوري، ومنهم مأمون البني، قبل أن يتعطل الإنتاج السينمائي في التلفزيون بانتفاء الحاجة السلطوية إليه بنظر من تعاقبوا على إدارة التلفزيون، وملء دائرة الإنتاج السينمائي بمخرجين ومخبرين متواضعي الموهبة والثقافة… وحين بدأت الدراما السورية فورتها الإنتاجية بعد حرب الخليج إلى الكويت، كان حسن سامي يوسف قد غدا اسما مرغوبا بعد نجاح مسلسله الأول (شجرة النارنج) ثم الثاني (الشقيقات) عام 1995
الانفتاح على كل الأجيال
كان حسن سامي يوسف ابن قرية لوبية في قضاء طبرية، المولود عام ١٩٤٥ والذي نزح عن قريته وهو طفلا في الثالثة من العمر، متنقلا في رحلة النزوح بين لبنان (1948- 1956) ثم دمشق منذ الخمسينات الذهبية وحتى زمن الرحيل… كان قريبا من كل الأجيال، عمل مع مخرجي السينما القدامى أمثال محمد شاهين في (غابة الذئاب) و(قتل عن طريق التسلسل) ومروان حداد في (الاتجاه المعاكس) ومع مخرجي الجيل التالي كأسامة محمد وماهر كدو… واستمر هذا التنوع في الانفتاح على تجارب أكثر من جيل في الدراما التلفزيونية بدءا من سليم صبري وهيثم حقي ومأمون البني وهشام شربتجي، إلى حاتم علي والليث حجو ورشا شربتجي، ولمرة يتيمة لم تتكرر مع باسل الخطيب.
السيناريست الذي درس السينما في معهد الـ”فغيغ” الشهير في موسكو، وبدأ مشواره السينمائي موظفا في المؤسسة العامة للسينما بفيلم (الاتجاه المعاكس) الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما وأخرجه مروان حداد عام 1975، استطاع أن يكتب العديد من السيناريوهات، وأن يترك بصمات شتى لم تبدأ بالمعالجة والاستشارة الدرامية، ولم يتنته بالعمل على ضبط حوار اللهجة الفلسطينية، كما في فيلم (المتبقي) الإيراني المأخوذ عن رواية لغسان كنفاني والذي صور في سوريا في تسعينيات القرن العشرين… فهو بخلاف مواطنه السيناريست هاني السعدي، لم يتخل عن تمسكه باللهجة الفلسطينية ولم يتشّوم لسانه على حسابها أبدا.
مشوار الروائي في السينما والتلفزيون
ومن الرواية وإليها انطلق مطلع الثمانينيات القرن العشرين بروايته الأولى “الفلسطيني” التي كتبها بعد خروجه من لبنان ونشرت في تونس عام 1988 بعد خمس سنوات من كتابتها… إلى (الزورق) ١٩٩٠و و(رسالة إلى فاطمة) عام 1996 و(بوابة الجنة).١٩٩٦ وكما فعل خيري الذهبي فقد حول حسن سامي يوسف عددا من رواياته إلى مسلسلات وأفلام فتحولت روايته (فتاة القمر) إلى مسلسل بعنوان الغفران، وله أيضاً وروايته (عتبة الالم) الصادرة عام 2013 إلى مسلسل (الندم) الذي أخرجه الليث خحجو عام 2016 وقبل ذلك حول روايته (بوابة الجنة) إلى فيلم بالعنوان نفسه عام 2009 أنتجته مؤسسة السينما وأخرجه ماهر كدو ليرصد من خلاله الواقع الفلسطيني في الأشهر التي سبقت انتفاضة أطفال الحجارة عام 1987، من خلال عائلة من الضفة الغربية تتابع الأحداث ثم تصبح مشاركة في صناعتها.
لقد آمن حسن سامي يوسف على الدوام أن على الإنسان عدم الاكتفاء بمتابعة الأحداث والفرجة عليها، بل أن يشارك أيضا في صنعها، وخصوصا حين تسهم في تقرير مصيره وتغيير مسار حياته… وإذا كان لم يترجم هذا على أرض الواقع، لكنه ككاتب أكد على هذا الإيمان في أدبه ورواياته ومسلسلاته، ففي كل تلك الأعمال بدت صورة الإنسان النبيل الذي يمقت التلون والانتهازية والنذالة والأشخاص الصغار، ويعلي من قيم البطولة القيمية حين تسمو بالناس البسطاء… وربما استطاع وسط كل ما عاصره في السنوات الأخيرة أن يحتفظ بهذه البطولة القيمية صامتاً ومنعزلأ ونائيا بنفسه عن مواطن الفساد ومناصرة الاستبداد والتغزل بمزاياه وبطشه.