معركة السويداء لاستعادة النقابات كما كانت قبل "انقلاب" 1980
حازم العريضي*
المحامي أيمن شيب الدين: لا نسعى إلى تشكيل نقابات بديلة كما يُشاع من بعض المنابر الصفراء!
يعبُر حراك السويداء اليوم إلى عام 2024، ويقول البعض إنه بحاجة إلى إنجاز، بينما يرى آخرون أن الإنجازات تكون “خطوة فخطوة”، وأن أولى المكتسبات كانت تثبيت “الحق في التظاهر”.
وبينما ينصرف بعض المنظّرين إلى الدّعوة لسياسات مثيرة للجدل تؤكّد بعض القوى المدنيّة الحاضرة في الساحة على إمكانية جعل “استعادة العمل النقابي” الهدف التالي، وعليه نبحث عن إجابات سؤالين: لماذا وكيف؟ ولمحة مقتضبة عن أصل الحكاية.
ما أهمية تفعيل العمل النقابي اليوم؟
المحامي أيمن شيب الدين يؤكد على ضرورة “الدفع باتجاه رفع الوصاية الأمنية والقانونية والحزبية عن النقابات”، وذلك بهدف استعادة دورها الحقيقي “كمنظمة عمل مدني.. تحافظ على حقوق أعضائها..”، وفق تعبير شيب الدين الذي يبيّن أن ذلك يقتضي تحوّل مشاركة بعض منتسبي النقابات في الحراك من “محاولة لمشاركة اللون المدني في الحراك.. إلى حالة مدنية نقابية داخل نقاباتها أولاً..“.
وهنا نلفت إلى أن بحثنا في هذا الطرح يتزامن مع نشوء انقسامات عبثية من خارج الحدود تنعكس على المشهد في حراك السويداء اليوم، بصيغة جدل بين أتباع فكرة “الإدارة الذاتية”من جهة وأنصار الثورة السوريّة بوجهها التقليدي، مضاف إليهما عدة توجهات سياسية.
ولكن، يرى بعض المراقبين أن طروحات معظم القوى السياسية تجعل مجمل المشهد غارقاً في “الأيديولوجيا”، إما على نحو مباشر أو غير مباشر، فذاك يقول لك إن الادارة الذاتية والتحالف مع قوى الأمر الواقع شرق الفرات “طعنة للتوجّه الوطني”، بينما يتّهم مروّجو التحالف مع قسد الآخرين بالميول “الإخوانية” وما إلى ذلك من وسوم “أيديولوجية”.
يأتي هذا كله، في حين يتطلع الناس إلى حلول للقضايا المعيشية المهددة للأسر، وإن كان الحراك قد تبنّى تنفيذ 2254 وإسقاط النظام شعاراً وسقفاً أسمى لانتفاضته، إلا أنه لم يعدّه برنامجاً تنفيذياً، بل تبحث قواه السياسية المتنوعة البرامج التنفيذية بعد اتفاقها مؤخراً على مبادئ جامعة مشتركة.
منظور السّياسة بوصفها خدمة مباشرة لمعيشة الناس مغيّبٌ خلف غبار “المعارك الأيديولوجية”، علماً أن شعارات الحراك واضحة وضوح الشمس، وتطالب بـ :
(حلول لمشاكل حماية الحريّات، العمل والبطالة فالهجرة، الخدمات الصحية وغير ذلك من المكاسب الاجتماعية،..)، كلها مطالب تتناول حياة الناس بأقل قدر من الأيديولوجيا أو دونها إطلاقاً، وتعمل على القضايا المعيشية وتطالب بإسقاط من سبّبها (نظام الأسد).
وهنا نسأل، ألا تشبه هذه المطالب الأهداف الأساسية للنقابات المهنية؟
إضافة إلى أن التاريخ يعلمنا بأن العمل النقابي في سوريا استطاع التقدّم على الكتل السياسية في قضايا داخلية وخارجية وضد الاستعمار أيضاً، ومثال ذلك حين تقدمت الحركة الطلابية على التيارات السياسية في تمسكها بالإضراب الستيني الشهير بينما تراجعت “الكتلة الوطنية” في حينه، كما يشير الباحث يمان زبّاد في بحث لمركز (عمران للدراسات الاستراتيجية) إلى اتساع الدور السياسي للعمل النقابي في تلك المرحلة، ومثال آخر يذكره هو توجيه الطلبة السوريين رسالة إلى رئيس الحكومة المصرية حينها لإدانة إطلاق النار على زملائهم المصريين في المظاهرات ضد الاحتلال.
وإن كان هذه الملامح كافية لنقتنع بأهمية تفعيل “العمل النقابي” وجب أن ننتقل إلى نقاش أبرز الخطوات إلى ذلك، ألا وهي الانتخابات المقبلة، ولكن كيف ذلك؟
ولكن أليس ذلك خدمة للنظام أو عبثاً على أقل تقدير؟
يعدّ البعض الذهاب إلى الانتخابات خدمة للنظام طالما تُجرى بإدارة حزب البعث ومن خلفه الأجهزة الأمنية وفق القوانين النافذة من منظور النظام؟
حضور البعث ليس دستورياً والتّحدي ليس إغلاق المقار الحزبية
سألنا خلال بحثنا عمّا سيمثّله الوصول إلى “تحرير النقابات من القيود الحزبية والأمنية” في حال تحصيل تمثيل نقابي خارج تحكم الأجهزة الأمنية، وكان الجواب:
“لا شك ستكون خطوة عظيمة غير مسبوقة في النقابات في سورية منذ نصف قرن على أقل تقدير“، وفق تعبير شيب الدين.
من جهة ثانية سألنا الكاتب الصحفي محمد منصور، وقد عمل على توثيق مراحل حساسة في تاريخ العمل النقابي السوري، عن مدى أهمية الأمر، وكان رأيه أن “تجربة السويداء تمتلك من روح التضامن الجماعي ما لم تمتلكه أية تجارب في مناطق أخرى، والنجاح المأمول لها، أمنية كل السوريين..”.
بدوره، عضو هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير المحامي ميشيل شماس ينبّه إلى أن قانون تنظيم المهنة لعام 2010 قد فرض على النقابات التنسيق مع المكتب المختص في القيادة القطرية لحزب البعث، ويوضّح شماس أن “المادة 107 منه أجازت لمجلس الوزراء حل النقابة ومجالس الفروع بقرار مبرم إذا حادت عن أهدافها ومهامها”، وفق تعبيره، كما يفرض حضور ممثل عن حزب النظام اجتماعات المؤتمر العام للنقابة تحت طائلة بطلان الاجتماع.
ولكنها ليست نهاية المطاف
المحامي شيب الدين يقول فيما يخص حضور ممثل البعث للمؤتمر “لم يعد هُناك من دورٍ شرعيٍ لحزب البعث.. وليس لهُ صفة بأن يُعد قوائم انتخابيّة”. ويستند شيب الدين إلى مسائل دستورية وقانونية مشيراً إلى إلغاء دستور 2012 قيادة البعث للدولة والمجتمع، بحسب التعبير القديم، ويضيف“نتسلح بما جاء في المادة 154 من الدستور والتي نصت على أن التشريعات النافذة قبل إقراره تبقى نافذة بما لا يتعارض مع أحكامه، على أن تُعدل خلال ثلاث سنوات من تاريخ إقراره”.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الحراك في السويداء أغلق معظم المراكز التابعة لحزب السلطة(البعث) في المحافظة، بمعزل عن أي رد فعل من الأجهزة الأمنية، ويفسّر البعض صمت المخابرات بكونه يعكس إدراك إحدى أو كل القوى الداعمة للنظام أن التغيير قد يكون حلّاً وسطياً وبات حتميّاً لأسباب كثيرة.
بينما يدّعي آخرون أن صمت النظام وتجنّبه العنف الدموي على غير عادته في التعامل مع الشعب السوري يعود إلى أن الحراك يحرص على مؤسسات الدولة حتى اللحظة، ويرى مراقبون أن ذلك يعكس شعوراً بالانتماء للدولة، وهو أمر قد يحسب لأهل الحراك أو عليهم بحسب زاوية النظر، إذ أن الجميع يعلم بأن ممارسة النظام التمييز ضد فئات معيّنة في المجتمع شوّه الشعور بالانتماء للدولة عند معظم شرائح المجتمع السّوري التي واجهها النظام بشتّى أوجه العنف الهمجي غير المسبوق في التاريخ الحديث.
واستناداً إلى ذلك يتبيّن أن ما يمكن فعله في الانتخابات النقابية المقبلة هو منع ممثل حزب البعث من حضورها أو التدخل فيها، وذلك بالنظر إلى نجاح تجربة إغلاق المقار الحزبية بسلمية ودون عنف يُذكر.
ولكن هل يعني ذلك غياباً فعلياً لأجهزة المخابرات عن التدخل في الانتخابات النقابية؟ أوليس لدى الأجهزة الأمنية وسلطات النظام أذرع أشد خطورة من الحزب؟
أدوات النظام بغياب البعث.. “المجتمع المدني” و”الأهلي”
يتحكّم النظام في دمشق بمجمل المؤسسات البارزة في المجتمع المدني من جهة، كما عمل لعقود على تكريس قيادات موالية له في المجتمع الأهلي من جهة أخرى، بل عمّق على نحو منهجي قيم المجتمع الأهلي، السلبية منها، من هيبة العشائرية والطائفية والقومية، ومثال ذلك حرصه المطلق على توريث المناصب ما أمكن في المجتمع الأهلي من قيادات دينية وسياسية تقليدية أسوة بما فعله من توريث في مؤسسات الدولة من رأس النظام ومروراً بقيادات الأفرع الأمنية والجيش وما دونهما من مناصب رسمية بحكم آليات عمل النظام.
أما بالنسبة لهياكل المجتمع المدني المتاحة في سوريا، فقد تخصّصت زوجة رأس النظام أسماء الأسد منذ وقت مبكر في حكمه على التحكّم بها، والأهم إفراغ المدني وقولبته ليكون جبهة لنصرة النظام.
من تجربتي الشخصية كصحفي استقصائي ومتطوع في بعض منظمات المجتمع المدني عام 2007، أذكر تماماً ولا أسهل من إثبات ما حصل حينها من تنافس ظهر صراعاً بين جمعيات المجتمع المدني والجهاز الحزبي المتهالك في إدارة وخدمة ما سمّي حينها حملة “منحبّك” لإعادة “انتخاب” بشار الأسد.
وفي تفاصيل ذلك، استدعت حينها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل رؤساء الجمعيات في مختلف المحافظات بوجود مندوبين لمكتب أسماء الأسد، وفُرض على الجمعيات أن تساهم في “نشاط سياسي” بخلاف القوانين التي تحضر ذلك، وقد كُتِمت بعض الأصوات التي اعترضت من الجمعيات، على قلّتها بحكم الخوف، كما حصلت مناكفات عديدة بين مسؤولين حكوميين وآخرين حزبيين في تلك الفترة.
وأخذاً بذلك، نستطيع القول إن النظام وأجهزته الأمنية بإمكانهما استخدام بعض الأذرع في المجتمع المدني لمحاولة التأثير على الانتخابات النقابية وغيرها من الاستحقاقات المقبلة حتى بغياب الحزب، وخاصة المرتبطة منها بما يسمّى “الأمانة السورية للتنمية” التابعة لأسماء الأسد مثالاً.
وأما تعقيدات تغلغل النظام في بعض مفاصل المجتمع الأهلي فذاك بحثٌ طويل نكتفي هنا بالإشارة إلى بعض ملامحه، تبدأ بشكل الخطاب المقتصر غالباً على الشعبوي منه الذي لا يتجاوز سقف الأمثال الشعبية بعيداً عن عمق العلوم والفلسفة، أما الأكثر خطورة هو اعتماد العرف الاجتماعي بديلاً لسلطة القانون تدرجاً نحو تغييب مفهوم الدولة الوطنية لصالح الدولة “الطائفية”، إن جاز التعبير، أو المقتصرة على “اثنيات” محددة أقرب إلى التنظيمات العشائرية بعيداً عن المواطنة.
النقابات بعد الثورة 2011
المكون الأبرز في المجتمع المدني هو النقابات المهنية، وقد أثبت واقع الحال أنها وتزامنا مع الحراك الذي تجدّد في السويداء صيف عام 2023 لا تزال كالعادة أداةً للنظام تتمثّل مواقفه وسياساته حتى اللحظة.
وقد كانت النقابات متخاذلة في حماية أعضائها إبان ثورة السوريين، بل هراوة إضافية بيد النظام عدوة لأعضائها حين ينطقون برفض الدكتاتور وانتهاكاته.
وفي ذلك يقول المحامي ميشيل شماس:
“للأسف كان موقف النقابة مخزياً، لم تستطع حماية المحاميات والمحامين الذين اعتصموا” في إشارة إلى اعتصامين شارك في كليهما للمطالبة بالإفراج عن المحامين الزملاء المعتقلين عند النظام. وقد عُرف عن شماس محاولاته الحثيثة لمراجعة نقابة المحامين عشرات المرات ” لتذكيرهم بالمعتقلين من المحاميات والمحامين وأن دور النقابة حمايتهم” دون جدوى، كما قال.
ويحضر في ذاكرة السوريين المحاولات الشجاعة من محامين كثر مطلع الثورة لتفعيل العمل النقابي الحر المستقل دون نتيجة، وهو ما شكّل قناعة عند نسبة لا يستهان بها باستحالة استعادة الدور الحقيقي للعمل النقابي بوجود نظام الاستبداد، وكانت محاولات لانشاء نقابات وروابط حرّة من خارج إطار النقابات الرسمية المستلبة بيد السلطة، لكنها تجربة قد لا تكون نتائجها مشجعة ، وخاصة في ظرف السويداء اليوم، ويعقّب المحامي أيمن شيب الدين على ذلك بالقول “تقويض أذرع النظام البعثية والأمنية داخل النقابة هو إنجاز كبير، إذا لا نسعى إلى تشكيل نقابات بديلة كما يُشاع من بعض المنابر الصفراء! إنما عبر وسائلنا المدنية السلمية والقانونية”، وذلك في إشارة إلى ما روّجته بعض الجهات السياسية التي تجهد في محاولة إقناع الناس بالذهاب إلى ما يسمّى مشروع “الإدارة الذاتية”.
“انقلاب” حافظ الأسد على النقابات 1980
في خلاصة البحث، تتقاطع آراء ومواقع نسبة من النقابيين في السويداء وقد استفتينا شريحة منهم وأوردنا شهادات من أحد المحامين الأحرار الذين التزموا النضال منذ مطلع الثورة السورية لاستعادة العمل النقابي، والسعي للمشاركة في المشهد العام من خلاله.
ونتيجة هذا البحث وغيره قبله، نستطيع أن نقول إن المشاركة في الانتخابات النقابية المقبلة قد تكون خياراً لبعض القوى السياسية الممثلة في الحراك وامتحاناً لقدرته على الفعل السياسي، بل وفرصة لتحقيق إنجاز وإن بدا خطوة محليّة إلا أنها إن نجحت ستعني نموذجاً لمختلف أرجاء البلاد، يؤكد أيمن شيب الدين أن مجرّد “إجراء الانتخابات دون حضور ووصاية حزب البعث سيكون إنجازاً كبيراً على مستوى العمل النقابي في سورية كلها”، إن تم.
ومن جهته يراهن الكاتب والناقد محمد منصور على أن يكون “النجاح معدٍ ومحفز على نجاحات أخرى”، وذلك شرط أن “يتمكن السوريون في مناطق أخرى من امتلاك إرادة التضامن المجتمعي الحر التي تشع بروحها النبيلة في السويداء اليوم”، بحسب وصفه.
وقبل النهاية، لاشك أن أصل الحكاية بدأ على يد الدّكتاتور الأب حافظ الأسد كما معظم تعقيدات القضية السوريّة، وهذا مما وثّق له الأستاذ منصور في أكثر من وثائقي إذ أصدر حافظ مرسوماً تشريعياً يخوّل مجلس الوزراء صلاحية حل النقابات المهنية في سوريا في 7 نيسان عام 1980، إجراء كان أشبه بانقلاب قضى نهائياً على فرص إحياء العمل النقابي المستقل في سوريا لعقود تنتظر نهاية تأمل نسبة لا يستهان بها أن تكتب أولى حروفها بيد نقابيّين من ساحة الكرامة.
وفي حنين إلى ما قبل ذاك الانقلاب نختم مع حدثنا به الأستاذ ميشيل شماس حين التقيناه عن تلك الأيام:
“نقابة المحامين حتى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي كانت ملجأ لكل مقهور، وكانت قاطرة المجتمع نحو آفاق أكثر اتساعا من التنوع المذهبي، تقبل وترحب بالتعددية الفكرية وتحتضن وتجلجل فيها أصوات كافة التيارات والأطياف السياسية”.
_________________________________________
*حازم العريضي: صحفي سوري عمل في الصّحافة الاستقصائية (دمشق) وفي الإعلام المرئي في لندن واسطنبول وعمّان.
“أُنتجت هذه المادة الصّحفية بدعم من منظّمة صحفيّون من أجل حقوق الإنسان الكنديّة وبرنامج الأمم المتّحدة للديمقراطيّة.”