الرأي العام

ديكتاتورية الديمقراطية.. ترامب نموذجاً

نموذج حيّ على ما يمكن أن يُطلق عليه: "ديكتاتورية بأدوات السوق، وأطماع بقفاز ناعم".

سامي زرقة – العربي القديم

عندما يتحدث العالم عن الديمقراطية، يُفترض أن يكون جوهرها قائماً على التعددية، الحريات، والمؤسسات التي تحد من تغوّل السلطة الفردية.. لكن في الولايات المتحدة، حيث تتغنى المؤسسة السياسية بأنها مهد الديمقراطية الحديثة، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنموذج جديد من الحكم: “ديكتاتورية ناعمة” تتخفى خلف قناع الديمقراطية، لكنها تمارس سطوة القرار الفردي بشكل فجّ لا يختلف كثيراً عن أساليب الطغاة، سوى في الشكل والأسلوب.

أطماع توسعية بنكهة إمبريالية

في مشهد يعيد للأذهان أحلام الإمبراطوريات الكبرى، لم يتردد الرئيس ترامب في طرح أفكار بدا أنها مستوحاة من دفاتر الماضي الاستعماري.. فقد عبّر في أكثر من مناسبة عن رغبته في “شراء” غرينلاند من الدنمارك، في خطوة قوبلت بالاستهجان والسخرية على مستوى عالمي، ووصفتها الحكومة الدنماركية بأنها “غير واقعية ومهينة”، لكنها بالنسبة لترامب كانت “صفقة عقارية مغرية”.

أما كندا، فقد كانت هدفاً آخر لمطامح ترامب الاقتصادية، حيث تحدث بشكل متكرر عن “إعادة النظر في العلاقة الاقتصادية” بين البلدين، ولوّح بإمكانية فرض هيمنة اقتصادية مباشرة على بعض الأقاليم الحدودية الغنية بالموارد تحت ذريعة “الأمن القومي”، أو ضم كندا بشكل كامل لتكون الولاية الواحدة والخمسين.

وفي خطوة لا تقل إثارة للجدل، ألمح ترامب إلى أن الولايات المتحدة “تخلت طويلاً عن حقها التاريخي في السيطرة المباشرة على قناة بنما”، وطرح علناً فكرة إعادة التفاوض على وضع القناة الاستراتيجي “بما يضمن المصالح الأمريكية العليا”، في تجاوز صارخ للسيادة البنمية ولمواثيق القانون الدولي.

هذه الأطماع، التي يتم طرحها بلغة غير دبلوماسية تحت قناع “الصفقات”، تكشف عن عقلية توسعية ترى العالم كخريطة استثمار، لا كمنظومة دول ذات سيادة. وهي نموذج حيّ على ما يمكن أن يُطلق عليه: “ديكتاتورية بأدوات السوق، وأطماع بقفاز ناعم”.

صفقة المعادن مع أوكرانيا.. الاستغلال تحت غطاء الشراكة

لم تكن الحرب الروسية الأوكرانية استثناءً في حسابات ترامب التجارية.. بل استغل النزاع لعقد صفقات حصرية مع أوكرانيا لاستخراج معادن استراتيجية كالليثيوم والتيتانيوم.. تم الإعلان عن الصفقات وسط ضغوط سياسية واضحة: وعود بالمساعدات، تهديدات بتقليص الدعم العسكري، ومساومات اقتصادية مباشرة.. وعليه لم يكن الأمر شراكة بقدر ما كان ابتزازاً ناعماً لدولة تحت الحصار، أُجبرت على دفع فاتورة الحرب من ثرواتها الطبيعية.

قرارات اقتصادية أحادية.. الرسوم الجمركية والتوترات التجارية

في أبريل 2025، أعلن ترامب فرض رسوم جمركية بنسبة 10% على جميع الواردات، مع رسوم أعلى على الدول التي تعاني الولايات المتحدة من عجز تجاري معها، مستنداً إلى قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة الدولية لعام 1977.. هذا القرار، الذي اتُخذ دون استشارة كافية للكونغرس أو الحلفاء، أدى إلى اضطرابات في الأسواق المالية ومخاوف من اندلاع حروب تجارية عالمية .

إقالات وتغييرات متكررة في الإدارة

شهدت إدارة ترامب الثانية سلسلة من الإقالات والتغييرات في المناصب العليا، ما يعكس نهجاً استبدادياً في التعامل مع المسؤولين.. هذا التوجه يُضعف الاستقرار المؤسسي ويثير تساؤلات حول مدى احترام الرئيس للممارسات الديمقراطية في تعيين وإقالة المسؤولين.​

انسحابات من الاتفاقيات والمنظمات الدولية

استمر ترامب في نهجه الانعزالي بالانسحاب من اتفاقيات ومنظمات دولية، مُعتبراً أن هذه الكيانات تضر بالمصالح الأمريكية.. هذه الخطوات، التي غالباً ما اتُخذت من دون أدنى تنسيق مع الحلفاء أو استشارة الكونغرس، تعكس توجهاً نحو تقويض التعاون الدولي وعزل الولايات المتحدة على الساحة العالمية.​

توبيخ الحلفاء والزعماء العالميين

لم يتردد ترامب في انتقاد وتوبيخ حلفاء تقليديين للولايات المتحدة، ما أدى إلى توترات دبلوماسية وأثار تساؤلات حول التزامه بالعلاقات الدولية المستقرة.. هذا النهج يُظهر عدم احترام للأعراف الدبلوماسية ويُضعف من مكانة الولايات المتحدة كقائد عالمي.​

الديمقراطية في مواجهة التحديات

تُظهر ممارسات ترامب في ولايته الثانية تحولاً نحو “ديكتاتورية ناعمة”، حيث تُتخذ القرارات الأحادية دون احترام كافٍ للمؤسسات الديمقراطية والتشاور مع الجهات المعنية. هذا النموذج يُبرز التحديات التي تواجه الديمقراطيات الحديثة عندما يتبنى القادة توجهات استبدادية تحت غطاء الشرعية الديمقراطية.​

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى