الإخوان المسلمون في مذكرات أيمن شربجي: قائد الطليعة المقاتلة في دمشق
رواء علي – العربي القديم
المؤلف هو أيمن أحمد شربجي (1955- 1988) دمشقي من حي الميدان، القائد العام للطليعة المقاتلة بين عامي 1982-1988م، انتسب للطليعة المقاتلة على يدي مروان حديد في دمشق عام 1974م، وتلقى تدريباته العسكرية في الجبال الساحلية في معسكرات الطليعة، مع نخبة من الجماعات الأولى التي ضمها مروان حديد، بقيادة عبد الستار الزعيم، وموفق عيّاش… اتصف أيمن شربجي بصفات عديدة أهلته لقيادة الطليعة في دمشق، فأثبت كفاءة منقطعة النظير في التخطيط والتنفيذ، أكسبته عند النظام لقب اليد التي لا تخطئ، ووضع حافظ الأسد مكافأة 100 ألف ليرة، لمن يساعد في القبض عليه، وقال مرة لعلماء دمشق: لو سلمتموني أبا عمر (أيمن شربجي)، لأطلقت لكم مئات المساجين… كانت معظم العمليات العسكرية النوعية التي قامت بها الطليعة في الثمانينات: محاولة اغتيال حافظ الأسد، الهجوم على وزارة الإعلام، الهجوم على مبنى رئاسة الوزراء، تفجير الأزبكية، اغتيال الشخصيات البارزة في النظام… كانت من تخطيط وتنفيذ الطليعة المقاتلة بمشاركة، أو بقيادة أيمن شربجي.
كتب أيمن شربجي هذا الكتاب بعد سنة 1982م، وغالباً ابتدأ به عام 1986، ولم يتح له إكماله؛ لأنه استشهد عام 1988، ولم يكمل ما أراده من تدوين أحداث حماة. وقد جاءت الإشارة إلى كتابه هذا، وسبب كتابته في رسالة له لقادة الإخوان في الخارج عام 1986، حيث قال: “إن ما يجري عندكم من مهاترات ونزاعات على المناصب، قد أساء إلى دماء الشهداء والمجاهدين، وشوه تاريخهم؛ ولذلك وجدت من واجبي كتابة تاريخ المجاهدين في دمشق منذ عام 1974 وحتى عام 1982م… حتى يطّلع المسلمون على الحقائق ويستفيدوا من التجربة الجهادية في سوريا التي كادت أن تضيع وتشوه، ونحن ما زلنا على قيد الحياة“[1]، وقد عنون الكتاب “تاريخ العمل المسلح في مدينة دمشق”، ولم يظهر هذا العمل إلى النور إلا مع بدايات الثورة السورية بعد عام 2011، حيث صدر ابتداء في نسخة رقمية بعنوان “مذكرات الطليعة المقاتلة”، ثم أُعيد نشره عام 2017م في لندن بنسخة ورقية أُعتني بإخراجها من جهة العناوين والفهارس والشروح، بعنوان “على ثرى دمشق”، وكان الهدف من نشرها تقديم مادة ذات فائدة، يستفيد منها العاملون في الثورة السورية المعاصرة، لكن كما يقول الناشر: “إن بعض من وصلتهم التجربة، عمل بشكل مغاير لما تقتضيه المصلحة خلال الثورة السورية الحالية”.
قائد تنظيم دمشق
كان أيمن الشربجي عضواً في الطليعة منذ تأسيسها كأحد كوادرها في تنظيم دمشق، ثم أصبح قائداً لتنظيم دمشق، والقائد العام للطليعة منذ عام 1982م، حتى استشهاده عام 1988م؛ لذا كان في موقع صنع القرار، والاطلاع المباشر على كل الأمور العسكرية، وبعض الأمور السياسية التي تخص الطليعة وقيادات الإخوان المسلمين، حتى عام 1988، مما يجعل من كتابه إلى جانب ما تركه قائد الطليعة في حلب عدنان عقلة من تسجيلات صوتية مصدراً أساسياً في دراسة هذه المرحلة، ومن أراد أن يفهم طبيعة العلاقة بكل وضوع بين الطليعة والإخوان بين عامي 1979-1983م، فلا غنى له عن مطالعة شهادة شربجي، وعدنان عقلة، فهما تكملان بعضهما.
ومما يجب ذكره أيضاً: إن أيمن شربجي هو قائد الطليعة في دمشق، ثم القائد العام للطليعة بعد عام 1982، بعد أن تفككت الطليعة في كل المدن السورية، وبقيت صامدة في دمشق حتى التسعينيات، وهو ما يبدد الصورة النمطية عن أن سكان دمشق كانوا خارج النزاع بين الطليعة وحافظ الأسد، كما كان الإخوان يروجون في الخارج، عندما كانوا يصورون العمل العسكري في حماة، وحلب، ويتجاهلون دمشق، وهو ما اعتبره أيمن شربجي، أنه ناتج عن عصبية مناطقية، رعاها الإخوان، وروّجوا لها[2]، ويثبت أن دمشق كانت في طليعة من قاتل النظام، منذ البدايات الأولى لتشكيل الطليعة على يد مروان حديد في دمشق، وبقيت صامدة حتى النهاية حتى عام 1997، عندما أُطلق سراح الفوج الأخير من الطليعة من سجون النظام، وخاطبهم هشام بختيار بعد سيل من الشتائم: “الآن ارتحنا وارتاحوا”.
مروان حديد، وتأسيس الطليعة المقاتلة
خلال فترة الوحدة بين سوريا ومصر بين عامي 1958-1961، نشأ تنظيم سري عسكري طائفي من ضباط بعثيين من أتباع الأقليات الدينية الباطنية (العلويين، الإسماعيليين، الدروز) بشكل خاص، دُعي باسم اللجنة العسكرية، نجح بعد فك الوحدة مع مصر في إحداث انقلاب عسكري عام 1963، بقيادة واجهة من السُّنة اسمه زياد الحريري، تم تهميشه بعد إنجاز مهمة اللجنة العسكرية التي تقاسم أفرادها بعد الانقلاب المناصب العسكرية والسياسية الهامة في سوريا، بقيادة شكلية سنية مثّلها أمين الحافظ الحلبي… وخلال فترة سنة من سيطرة البعث الطائفي على شؤون الحياة العامة في سوريا، ظهرت التوجهات الطائفية لصانعي الانقلاب في مجالات الحياة العامة، مما أنذر بحالة من الغليان الشعبي في كل سوريا، ظهر بشكل جلي في مدينة حماة على شكل صدامات شعبية بين أهل حماة، وذيول البعث تطورت سريعاً، وتحولت إلى إغلاق وإضراب عام في حماة، دفع محافظ حماة عبد الحليم خدام لطلب تدخل الجيش، لفض إضراب حماة، فحدث عام 1964 ما عُرف بأحداث مسجد السلطان، حيث قامت قوة عسكرية بقيادة الدرزي حمد عبيد، والعلوي عزت جديد بتطويق المسجد الذي اعتصم فيه جماعة من شبان حماة، بقيادة شاب سيترك بصماته وذكراه في تاريخ العمل العسكري ضد نظام البعث حتى اليوم، وهو مروان حديد. لم يكن هناك تكافؤ بين المهاجمين والمعتصمين في المسجد، فاقتحم حمد عبيد المسجد بالدبابات، واعتقل بضعة شبان، ممن بقي حياً، وكان منهم مروان حديد الذي اقتيد إلى محاكمة عسكرية صورية ترأسها مصطفى طلاس الذي أوقع حكم الإعدام بحق مروان حديد، ولم يُنفذ الحكم بموجب عفو من رئيس الجمهورية أمين الحافظ، أصدره مرغماً، بفعل الضغط الشعبي، وتدخل من شيخ حماة وقتها محمد الحامد.
أثبتت أحداث مسجد السلطان لمروان حديد أن النظام القائم لا يفهم إلا لغة الحديد والنار، فاستغل الفترة بعد حرب 1967 في التدريب والإعداد والتحريض، حتى كان العام 1970، وهو العام الذي انقلب فيه حافظ الأسد على رفاقه في حركته التصحيحية، واستلم الحكم بعد تعديل في الدستور، وإلغاء المادة التي تنص على أن الإسلام هو دين الدولة، والاكتفاء بأن يكون دين رئيس الدولة فقط هو الإسلام في مسرحية صورية عمَّد فيها أحمد كفتارو حافظ الأسد مسلماً، خلاف ما تعتقده الغالبية من السوريين من أن حافظ الأسد نصيري غير مسلم، وترافق هذا بمزيد من مصادرة الحريات والقمع والتنكيل، والملاحقة لكل معارض، وزاد حافظ الأسد من تجنيد الفرق العسكرية على أساس طائفي علوي، من خلال ما عُرف باسم سرايا الدفاع… وعلى هذه الخلفية من الأوضاع حاولت قوة بقيادة رفعت الأسد عام 1970اعتقال مروان حديد في حماة، لكنه نجح في الإفلات منهم، واستقر به المطاف بعد حين في دمشق متخفياً. وخلال الأربع سنوات التالية، ومن خلال جهد مكثف تحت الملاحقة والتنقل المستمر نجح مروان حديد في وضع الأسس النظرية والمادية لحركة المقاومة للنظام البعثي العلوي، والذي عُرف ابتداء باسم “الطليعة المقاتلة لجند الله” .
موقف الإخوان من الطليعة المقاتلة
عندما لجأ مروان حديد لتأسيس الطليعة المقاتلة، كان قد بذل جهوداً كثيرة لإقناع قادة الإخوان في سوريا، للجوء إلى العمل العسكري، وكانت خطته هي أن تقوم قيادات الإخوان بتعبئة كوادرها في تنظيمات عسكرية سرية تستقطب الشعب، ثم وبالتعاون مع القيادات العسكرية السنية في الجيش، يتم إحداث انقلاب عسكري مدعوم بثورة شعبية، تطيح بنظام الأسد، لكن أولئك عارضوا؛ بحجة أن الوقت لم يئن بعد للعمل العسكري، وأنه متى حان الوقت، فلن يتوانوا عن حمل السلاح[3]، ويذكر أيمن شربجي إن الإخوان لم يهيئوا أصلاً أي نوع من التنظيم لمواجهة النظام، وكل تحركاتهم كانت ذات طابع سلبي كلامي، بلا فعل، وأفعالهم مجرد ردود أفعال كلامية، ويقول: “وانتهت عند هذا الحد، ولم تقدم جهوداً مؤثرة تحد، أو تقلل من إرهاب السلطة الطائفية”[4] عدا عن أنهم كانوا في صراع بيني بين جناحين: واحد بقيادة عدنان سعد الدين وسعيد حوى (تنظيم حلب)، والثاني بقيادة عصام العطار (تنظيم دمشق)، وهو ما رآه مروان حديد ناتجاً عن بُعد قيادات الإخوان عن الجهاد في سبيل الله؛ لذا عندما يئس مروان حديد من إقناع قادة الإخوان، الذين كانوا مازالوا موجودين داخل سوريا بضرورة العمل المسلّح، وأمام إحجامهم، شرع عندما وصل إلى دمشق بعد عام1970م، بوضع الأسس التنظيمية والفكرية للعمل المسلح الهادف إلى إسقاط النظام، وقامت فكرته عل أربعة أسس عملية: هي جذب الأنصار وتثقيفهم، ثم تنظيمهم، ثم تدريبهم، وصولاً إلى مرحلة الصدام المباشر مع النظام، ولن يحدث هذا الصدام، حتى يحدث اليأس من ضم أتباع جدد. وبعد الانتهاء من هذه المرحلة، تقرر الطليعة طريقة العمل العسكري ضد النظام: هل هي عمل عسكري خاطف، أو حرب عصابات طويلة الأمد. ولم يتح لمروان حديد أن يرى نتيجة عمله، إذ ألقي القبض عليه عام 1974؛ نتيجة وشاية من أحد المترددين عليه (محمد جيرو من اللاذقية)، وبعد معركة استمرت قرابة 10 ساعات في حي العدوي بدمشق، اعتُقل مروان حديد، وتمت تصفيته لاحقاً عام 1975 في إحدى المستشفيات، لكن ما زرعه مروان لم يمت بموته، فقد تابع رفاقه ما بدأه، فتتابع على قيادة التنظيم العام بعد مروان حديد بين عامي 1974-1990م: عبد الستار الزعيم، ثم هشام جنباز، ثم تميم الشققي، ثم عمر جواد، ثم مسعف بارودي، ثم أيمن شربجي، ثم عاطف قهوجي، وهؤلاء مع الكوادر المنتشرة في مدن حماة، وحلب وحمص ودمشق هم من صنع حركة المقاومة المسلحة، ضد نظام حافظ الأسد، منذ أواسط السبعينيات وطوال الثمانينيات، ورغم كثافة العمليات العسكرية ونوعيتها، فلم تتجاوز أعدادهم أحياناً العشرات في كل مدينة.
خلال مراحل عمل الطليعة المقاتلة، منذ تأسيسها وحتى نهاية أعمالها، كانت تنظيماً مستقلاً بذاته، ولم تكن في يوم من الأيام على علاقة تنظيمية بالإخوان المسلمين، بل أكد قادتها في أكثر من مناسبة على أن لا علاقة للطليعة بالإخوان، وإن حدث أي تواصل بين قادة الطليعة والإخوان في الخارج، فهو من باب التعاون، لا من باب الموالاة والتبعية، وهي نقطة ستكون محور تنازع بين الطليعة والإخوان، كادت أن تودي بالطليعة في دمشق خاصة سنة 1980م، وربما هذه النقطة ستكون هي من فكك الطليعة في كل سوريا، عدا دمشق عندما يئس الإخوان من ضم الطليعة إلى قيادتهم في الخارج، فقرروا القضاء عليها، كما سيظهر في ما سيأتي .
كان موقف الإخوان من مروان حديد، كما وصفه الشربجي: “اتهمتوه بالتهور والتسرع، والتسبب في ضرب الجماعة الإسلامية، وعندما انطلقنا بعد استشهاده، كانت مواقفكم سلبية…أما الآن وقفتم موقف المتفرج، ولم تقدموا واحداً بالمائة، بل أصبحنا نحن القاعدين عن الجهاد، وأنتم المجاهدون…”[5].
ورغم موقفهم المعادي للعمل العسكري عموماً، فإنهم استثمروا فيه إعلامياً ومادياً لصالحهم، فشرعوا ابتداء من عام 1979، وهو عام انطلاق الأعمال العسكرية الأولى للطليعة في حلب ودمشق، قبل أن تعلن الطليعة عن نفسها إعلامياً، شرعت قيادات الإخوان في الخارج بتبنّي الأعمال العسكرية في الداخل، ونسبتها لنفسها، بل راح الإخوان يروجون أنهم هم قادة العمل المسلح في الداخل، وقد ذكر عدنان عقلة هذه الحيثيات صراحة مدعومة بالأسماء والوقائع، بينما اكتفى أيمن شربجي بتلميح بسيط: وانتشرت أنباء في السجون أن جماعات الإخوان المسلمين المختلفة، قد اتحدت وهي من تقوم بالعمليات العسكرية[6]… وصارت إذاعتهم تنشر أنباء العمليات العسكرية بنكهة إخوانية ذات تحزب مناطقي، وغالباً ما كان يتم تجاهل أخبار دمشق، مع أن أهم العمليات العسكرية حدثت في دمشق، وغالباً مرجع ذلك إلى علاقات العداء بين تنظيم حلب (البيانوني-سعد الدين-حوى)، وتنظيم دمشق (العطار)، ففرقوا في الشهداء بين أتباع تنظيمهم، وبين أتباع مروان حديد، وحصروا العمل العسكري بحلب وحماة، وتجاهلوا دمشق، وقد أرسل لهم أيمن شربجي: “إن العصبية البغيضة تظهر في كل تصرفاتكم، ومن يسمع إذاعتكم، تتكون لديه فكرة أن الثورة والعمل المسلح لم تكن إلا في حماة وحلب، وكأن دمشق لم يحدث فيها شيء… مع العلم أن عمليات دمشق هي التي أعطت للعمل هيبته في الداخل والخارج”[7] .
وفي مرحلة تالية عام 1980 روجت أجهزة الإخوان الإعلامية أن هناك ثورة بقيادتهم، ستنشب يوم 8 آذار في ذكرى انقلاب البعث، ودخلت جماعة عصام العطار في دمشق على الخط، وروّج أتباعها أن لهم تنظيماً عسكرياً على وشك التحرك، ودخلوا في عملية تنسيق مع الطليعة في دمشق، وكانت الطليعة في دمشق على وعي بألاعيب الإخوان ومحاولات التسلق؛ لذا أوقفت في هذا التاريخ كل عملياتها العسكرية، وجاء الثامن من آذار، ومضى ولم يحدث شيء، مما كان الإخوان يروجون له… ويعلق الشربجي على ذلك: فبان وقتها أن لا أحد يملك تنظيماً عسكرياً غير الطليعة[8] .
وبحسب ما يذكر أيمن شربجي بتهكم، فإن الإخوان في دمشق نفذوا في عام 1980 أولى عملياتهم ضد نظام الأسد، وكانت العملية عبارة عن توزيع قصاصات ورقية، تهاجم نظام الأسد، بعد أن أصدر القانون 49 القاضي بإعدام من ينتسب لجماعة الإخوان[9] .
لم يكتفِ الإخوان بمحاولات التسلق على جهود الطليعة، وسرقة إنجازاتها لنفسها، بل استثمر قادة الإخوان وكوادرها في الخارج الوهج الإعلامي الذي حققه العمل العسكري داخل سوريا وخارجها، فراحوا يجمعون التبرعات والمساعدات باسم العمل العسكري في الداخل، وفي واقع الأمر لم يصل الطليعة شيء من هذه الأموال، وإلى هذا أشار شربجي في إحدى رسائله لهم: “إنكم تقومون بجمع الأموال للمجاهدين، فهل أصبحت هذه الأموال ملكاً لكم؟ ولو أنكم أعلنتم أن لا علاقة لكم بالمجاهدين، فهل سيصلكم من الناس دينار واحد؟! إن كل ما حققتموه من أمجاد ومكاسب على دماء شهدائنا… ولتدعيم مراكزكم في الخارج، ولعمري ماذا أفاد المجاهدون ذلك!”[10].
محاولات الإخوان الاستيلاء على الطليعة أو تحييدها
يقول عدنان عقلة: حاول الإخوان في الخارج السيطرة على العمل المسلح، فأرسلوا علي صدر الدين البيانوني، وكان نائباً للمراقب العام، فاجتمع بقيادات حماة وحلب، ولم يأتِ دمشق، فرفضت هذه القيادات إعطاء الولاء لهم، حتى يتحدوا في جماعة واحدة، وقال لهم عبد الستار الزعيم، فيما ينقل عنه: إن لم تجتمعوا في الدنيا أسأل الله أن يجمعكم في الآخرة في جهنم… وغادر البيانوني سوريا، ولم يعد بعدها، لتبدأ مرحلة سحب البساط من تحت أقدامنا، كما أسماها عدنان عقلة، فقاموا بقطع أي نوع من المساعدة المالية للعمل المسلح، وأوعزوا لأمين يكن بفتح باب المفاوضات مع حافظ الأسد. وشرعوا في إقامة نوع من الاتصال بينهم، وبين أيمن شربجي مدعين أنهم يريدون علاقة مباشرة مع تنظيم دمشق، لتأمين احتياجات التنظيم، ونقلت رسالتهم إلى القائد العام في حماة هشام جنباز، وجاء الرد حرفياً من قيادة التنظيم: “لا مانع لدينا من إقامة علاقة مساعدة بينكم وبين الإخوة خارج سوريا، ولكن من الناحية التنظيمية لا علاقة لنا بهم نهائياً…”[11]. وعلى هذا الأساس تم اللقاء بين مراسل الإخوان سالم الحامد، وقائد تنظيم دمشق أيمن شربجي، قدم فيه مراسل الإخوان مبلغاً ضخماً -لم يذكر مقداره الشربجي- كان ثلثه لتنظيم دمشق، وثلثاه لشراء ثلاثة بيوت (أحدها قيمته 5 مليون ليرة=أكثر من مليون دولار)، لتكون قواعد لإيواء عناصر التنظيم الجديد من الإخوان، الذين سيدخلون دمشق للاشتراك بالعمل العسكري مع الطليعة، ورفض أيمن شربجي إدخال أي عناصر جديدة إلى دمشق؛ لأنها ستكون عبئاً على الطليعة، فكان رد الإخوان: “إن قرار الإخوة في الخارج بإنزال مجموعات إلى دمشق نهائي لا رجوع عنه”[12]، ولم يكتفوا بهذا، بل أخذوا بالضغط على أيمن شربجي، ليقوم بعمليات عسكرية داخل دمشق، وهو ما كان يرفضه؛ بسبب أوضاع التنظيم واعتقال قائده يوسف عبيد… كان رد الإخوان: “نفذوا ولو بأهداف بسيطة: عامل، موظف صغير، عمليات تفجير”[13]، ويبدو في تقديرنا أن الإخوان أرادوا استعراض القوة في دمشق، لدعم مفاوضاتهم الجارية مع الأسد، ولما لم تفلح ضغوضهم على الطليعة في افتعال معركة مع النظام، زجوا بمجموعات من أتباعهم من خارج الحدود إلى دمشق للقيام بمعركة مع النظام، وكانت تلك المجموعات مندفعة وحماسية، وغير مدربة، ولا تعرف طبيعة الحرب في دمشق، وحدثت اتصالات بين أيمن شربجي وقيادات الإخوان في الخارج، لثنيهم عما يقومون به، فجاءه الرد يطلبون منه تسليمهم قيادة العمل العسكري في دمشق ومبايعة الإخوان، وكان رد الشربجي متوافقاً مع الموقف العام للطليعة في قضية الولاء للإخوان: إنا لن نعطي ولاءنا إلا لقيادة موحدة، وقال شربجي: “لن نسعى لانشقاق في صفوق الطليعة المقاتلة في سوريا، ولن نعطي ولاءنا إلا لقيادة ميدانية واحدة في الوقت الحالي، وهي قيادة الأخ هشام جنباز وإخوانه”[14]، فاقترح الإخوان قيادة عمل مشتركة، تتألف من اثنين من الطليعة، واثنين من مجموعات الإخوان بقيادة مسؤول الإخوان بدمشق، فرفض أيمن شربجي، وانتهت تلك المفاوضات بأن أصبح في دمشق تنظيمان عسكريان: الطليعة المقاتلة، والتنظيم العسكري الجديد للإخوان، وابتدأت مرحلة أسماها أيمن شربجي “التنظيم الجديد وبدء الكارثة”، وكانت الكارثة أن عمل الإخوان إلى استقطاب كل من هب ودب في التنظيم العسكري الجديد، بغض النظر عن أي إجراءات أمنية، أو تخطيط، أو إدارة أو إعداد وتدريب، وظهرت آثار هذه الكارثة في أحداث ما بين العيدين عام 1980 أو مجزرة ما بين العيدين، كما يسميها أيمن شربجي، بدأت بسقوط ثلاث قواعد للتنظيم الجديد داخل دمشق بيد النظام، ومقتل كل من كان فيها، فرد التنظيم الجديد بتصعيد عام في دمشق، اعتمد على اغتيال الأفراد لا العمليات النوعية، كما كانت تفعل الطليعة، فاستنفر النظام بكل قواته. وخلال فترة الشهرين التاليين خسر التنظيم الجديد معظم كوادره بين قتيل ومعتقل، وغادر من يستطيع المغادرة خارج سوريا، وكان من نتيجة أعمال التنظيم الجديد على الطليعة المقاتلة التي كانت أوقفت عملياتها بين العيدين: خسرت الطليعة نحو 20 من كوادرها، وعدد من قواعدها نتيجة المداهمات، واعتُقلت أعداد غير معروفة من المتعاطفين، وصارت الكفة مائلة لمصلحة النظام. ورغم أن الطليعة استعادت نشاطها، وأعادت ترتيب أوضاعها[15]، إلا أن عملية استنزافها، وانكشاف قواعدها، واعتقال وقتل الفاعلين فيها استمر طوال عام 1981، والتي شهدت في الوقت نفسه تنفيذ أهم عمليات الطليعة في دمشق: تفجير مجلس الوزراء، تفجير آمرية الطيران، ضرب مبنى الخبراء الروس، عملية الأزبكية… وخلال هذه الفترة بعد انتهاء أمر التنظيم الجديد، لا يوجد في مذكرات أيمن شربجي شيء عن الإخوان، باستثناء طلب الإخوان في الخارج التباحث مع التنظيم العام للطليعة، فانتدبت الطليعة لتمثيلها عدنان عقلة قائد طليعة حلب، وقد سجل عدنان صوتياً كل ما دار بينه وبينهم من مفاوضات، خلال ثلاثة أشهر قبيل وأثناء مجزرة حماة، ووصل عدنان عقلة إلى النتيجة التالية: “إن القوم (الإخوان) لا خير منهم إطلاقاً، ولا يمكن أن نرجو منهم فعل أي شيء نهائياً؛ لأننا عرفنا وخبرنا نواياهم السيئة، وعرفنا مكرهم، وعرفنا خياناتهم، وعرفنا كذبهم”.
أما أيمن شربجي، فلم يتح له تسجيل شهادته عما جرى في هذه الفترة خاصة أحداث حماة، كما كان ينوي، فقد قُتل بعد محاولة اعتقاله في مساكن برزة عام 1988، ولم يتح له استكمال ما كان ينوي كتابته عن أحداث حماة.
الإخوان المسلمون وحافظ الأسد
في نهاية السبعينات، ومع تصاعد وتيرة العمل المسلح للطليعة، دخل الإخوان في مفاوضات مع نظام الأسد، عُرفت باسم مفاوضات (يكن-الأسد)، نسبة لأمين يكن مراقب عام الجماعة حتى عام 1975، في الوقت الذي كانت قياداتهم في الخارج تسعى للسيطرة على الطليعة وتحويلها إلى تابع لها، ومعلوم ظاهرياً أن هذه المفاوضات فشلت، كما فشلت محاولة السيطرة على الطليعة. ونلاحظ فرقاً في طريقة سرد العلاقات بين الأسد والإخوان بين عدنان عقلة، وأيمن شربجي، فعدنان عقلة يتهمهم صراحة بالعمالة بالأسماء والوقائع، فينقل عن عدنان سعد الدين قوله: “إن اتصالاتنا لم تنقطع يوماً مع النظام”، ويقول عقلة نقلاً عن حسن هويدي: إن عبد الله الطنطاوي (قيادي إخواني)، هو من سرّب للمخابرات السورية وقائع اجتماع لجنة الوفاق، وكتب في رسالة للأسد: هناك تيار متعصب طائفي (الطليعة)، نحاول تطويقه، وصولاً للمصالحة الوطنية بضمانة السيد الرئيس حافظ الأسد.
أما أيمن شربجي، فيستعمل صيغ المواربة، وعدم الاتهام المباشر، فيؤكد على وجود المفاوضات بين الإخوان والأسد، وكان من ظلالها عام 1980 قيام النقابات بأمر من قيادات الإخوان المسلمين، أو من ذاتها، كما يقول شربجي بفتح حوار مع السلطة التي أبدت تجاوبها الظاهر، وأنها تريد الديمقراطية، وإطلاق الحريات، وقام بالفعل بإطلاق بعض السجناء، حتى إذا انكشف له موقف النقابات والقائمون عليها اعتقلهم وأودعهم السجون[16].
وفي الواقع، فإن الإخوان دخلوا مفاوضات مع الأسد أكثر من مرة: عام 1980. وعام 1982 بعد مذبحة حماة، وعام 1984 بعد صراع الأخوين حافظ-رفعت… ففي عام 1984 أو بعدها، والتي كان منها أن نظام الأسد، أراد تخفيف الأزمة الداخلية التي يعيشها على إثر المحاولة الانقلابية لرفعت الأسد، فأراد تخفيف الضغط عليه، ففتح قنوات المفاوضات مع الإخوان في الخارج، فكان الإخوان بعد سنتين من هذه المفاوضات بحاجة لإظهار قوة لهم في الداخل، ولو بشكل مصطنع، فطلبوا من أيمن شربجي تفجير عبوة ناسفة في حاوية قمامة في ساحة المرجة مقابل 10 آلاف ليرة، وهو ما أثار حنق شربجي عليهم، وقال: نحن مجاهدون، ولسنا مرتزقة، ورفض أيمن شربجي بشكل قاطع تنفيذ ما أرادوا، ويقول شربجي عن هذه المفاوضات، فيما أرسله للإخوان: “لقد فاوضتم السلطات السورية مدة سنتين ونصف، دون أن نعلم شيئاً عن هذه المفاوضات، ثم سمعنا فشل المفاوضات، وعودة وفد النظام مهزوماً أمام جحافل المفاوضين، فهل كانت المفاوضات حول إعادة الحياة إلى عشرات الآلاف من شهداء حماة، أم كانت حول إسقاط الأجنة من بطون آلاف المسلمات اللواتي اغتصبهنّ علوج الكفر النصيري؟”[17] “ذكرتم في بيانكم أنكم أعددتم العدة لجولة نهائية مع النظام، وهل هذه الجولة هي وضع عبوة ناسفة مقابل 10 آلاف ليرة؟ فمتى تراجعون أنفسكم وتحاسبونها بصدق مع الله، وتتركون الهذرمة الإعلامية التي لا تقتل ذبابة”[18] .
ومن بين كل قضايا التنسيق بين الأسد والإخوان، التي اتهموا فيها، فإن قضية كشف قواعد الطليعة في حماة عام 1982، قبيل مذبحة حماة، وكشف تنظيم الضباط الأحرار التي راح فيها 400 ضابط سني، أشار فيها عدنان عقلة، وعمر جواد قائد طليعة حماة إلى تسريب حدث من الخارج للمخابرات السورية، وكان هناك سؤال طرحه عدنان عقلة على عمر جواد: “أتُقَدِّرون أن يكون السبب وراء هذه الأمور تخريب خارجي؟ كان جواب عمر: نحن لا نجزم، ولكن كل ما بأيدينا يؤكد هذا”… وقد حدث الإيقاع بالضباط، بعد لقاء جمع أحد هؤلاء الضباط بقيادات الإخوان حسن هويدي، وعدنان سعد الدين، وفي هذا اللقاء أخبر مندوب الضباط، إن تنظيم الضباط سيقوم بانقلاب عسكري، فإن لم يكن لديكم إمكانات للدعم، فسنتحرك بالتنسيق مع الطليعة. وكانت ساعة الصفر يوم 28 /1 /1982، لكن ما حدث أنه تم الإيقاع بالجميع يوم 8 / 1 ، من خلال رسالة أرسلها علي صدر الدين البيانوني إلى درعا، ضمّنها اسم أحد الضباط في التنظيم، وتم الإيقاع بالساعي، وانفضح أمر الضباط، ثم أمر التنظيم بحسب رواية عدنان عقلة، أما أيمن شربجي فيرى أن الإيقاع بتنظيم الضباط في الجيش؛ جاء بسبب اعترافات نبيل حبش، وهو شخصية قلقة مريب، كان عضواً في طليعة دمشق، ثم هرب من دمشق، دون إعلام قيادة الطليعة والتجأ إلى الإخوان في الخارج، فاستقبلوه بحفاوة، ورفعوه إلى أعلى المناصب القيادية التي كانت كما قال الشربجي أكبر من عقله وإمكانياته، واستخدموه كمراسل لهم، حيث ألقي القبض عليه في قبرص، وسُلّم إلى سوريا، فاعترف على تنظيم الضباط الذي أعدم منه 400 ضابط سني، أما عدنان عقلة، فيقول: إن ما حدث كان مخططاً له لذبح كل شيء على الساحة.
واستكمالاً لموقف الطليعة في دمشق من قيادات الإخوان في الخارج، هناك ثلاثة من قادة الإخوان في الخارج، أثنى عليهم شربجي، هم: عدنان سعد الدين الذي قال إنه كان يتعاون معنا بكل دقة وإخلاص، وسعيد حوى الذي قال إنه يثق به، وحسن هويدي الذي لا نشك في إخلاصه وتفانيه.. ويعقب شربجي: إن هؤلاء تم إبعادهم وتجميدهم وعزلهم، ويتساءل: “هل هناك قرار بضرب المجاهدين في الداخل، وإبعاد كل من يتعاون معهم في الخارج؟”[19]، ورأي الشربجي فيهم، هو على عكس رأي عدنان عقلة الذي يعتبرهم، وكل قيادات الإخوان في الخارج في السوء واحداً.
الإخوان المسلمون، وإيران الخميني
يتطرق شربجي إلى موقف الإخوان المحابي للخميني، وكان شربجي قد استفتى الإخوان في موقفهم من إيران وثورة الخميني، والعلاقة بين حافظ الأسد والخميني الذي بارك مجزرة حماة… فقال له الإخوان وقتها: “إن مواقف الإيرانيين من نظام أسد مؤقته، نظراً لضرورة ظروفهم الدولية الصعبة”، ويجيبهم شربجي: عندما دققنا في عقيدة الشيعة الاثني عشرية، وجدنا أنهم مجوس، كفرة، حاقدون على الإسلام أكثر من اليهود، ويتقربون إلى الله بقتل المسلمين”، فهل خلافاتكم البينية لم تسمح لكم بدراسة عقيدة الخميني؟[20] .
[1] ص36
[2] ص37
[3] ص55
[4] ص52
[5] ص29
[6] 215
[7] ص37
[8] ص167
[9] ص200
[10] 34
[11] ص208
[12] ص209
[13] ص210
[14] ص216
[15] ص222 وما بعدها
[16] ص168
[17] ص37
[18] ص38
[19] 39
[20] ص42
___________________________________
من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024