البورجوازي نزار قباني
العربي القديم- محمود الزيبق
مئة سنة مضت على ولادة شاعر، لم تكد تصدر واحدة من قصائده أو دواوينه، دون ضجة كبرى في صالونات الأدب، وأوراق الصحف وأغلفة المجلات، وطاولات المقاهي وأطراف الأزقة وزواريب الحارات، وعتبات المنازل وأسرّة غرف النوم، وتحت قباب البرلمان وفي أقبية المخابرات.
ولم يخلُ ذاك الضجيج من انتقادات شديدة اخترت لكم واحداً من أطرفها عنواناً، لهذه المقالة أعبر منه إلى شخصية نزار قباني.. وهي شخصية ثائرة ورثها عن والده “أبو المعتز” الذي خرج يوماً، ليهدد ببندقية الصيد مؤذناً جديداً، في حي مئذنة الشحم الذي يقيم به في دمشق؛ لأن “صوته القبيح مؤامرة على الإسلام والمسلمين تنفّر الناس من الدين”.
جزء مهم من تلك الثورة ينطلق من الواقع، من “انفصام الشخصية الحاد” الذي كانت تعانيه القصائد التي سمعها نزار من الشعراء المعاصرين في طفولته؛ حيث يستعير أحدهم سيف أبي فراس، وآخر حصان عنترة، وتتنقل فيها المعشوقة نفسها من أيدي جرير، إلى الفرزدق، إلى أحضان أحمد شوقي، أو خليل مطران.
أراد نزار لقصائده أن ترتدي ثوب الحقيقة والواقع، فنقل فيها وشوشات غرف النوم، والمجالس الخاصة، وكلامها المباح إلى ورق الكتب، وحيطان الحارات، وهو ما ألحق به التهمة الأولى “المجون”. ألصقت به تلك المفردة، وكأنها لم تخترَع إلا في عصره، ولشعره تحديداً! وكأنها لم تعبّر يوماً عن غزل امرئ القيس بالعذارى العراة، أو شعر الأحوص، ونسيب عمر بن أبي ربيعة، و”أيريات” أبي حكيمة، أو حتى صحبة الغلمان التي تعج بحكاياتها كتب الأدب العربي.
والحقيقة التي يعرفها كل مطلع على إرث العرب أن حرية الأدب لم تقيَّد، بمصطلح العيب في “المجتمع المحافظ”، إلا خلال القرون الأربعة الأخيرة التي سبقت نزاراً، وهي بظروفها السياسية من أكثر القرون انحداراً في تاريخ العرب، من حيث النتاج الثقافي والأدبي والعلمي، وحتى الديني، ومن أكثرها عداءً مع الحريات أيضاً.
تحت قبة البرلمان السوري، طارد نواب الإخوان المسلمين قصيدته “الداعرة الفاجرة”(1) “خبز وحشيش وقمر”، وفي “الرسالة” أهم منصات النقد الأدبي العربي في ذلك الوقت كتب الناقد المصري أنور المعداوي نقده لديوان نزار “طفولة نهد”، فقام رئيس التحريــر الأديب الكبير أحمد حسـن الزيّات بتبديل اسمه في المجلة، ليصبح “طفولة نهر”!
وإذ أقصّ عليكم حكاية هذا العفاف البارد، لا يغيب عن خاطري أن نزاراً كان يتمثّل غير مرة، حتى نهاية حياته ببيتين من قصيدة، في العشق الجريء أحبهما في طفولته، وكانا لعروة بن أذينة شيخ الإمام مالك!
“ديكتاتورية الجماعة” و “وثنيتها الأدبية” التي حاول نزار الخروج عن مألوفها، إلى حرية يقدسها، حتى في أوزان قصائده التي جدد في إيقاعها، ولحنها ألحقت بنزار تهمة أخرى هي الخروج عن أوزان الخليل الستة عشر، وفي الرد عليها أتذكر مقولة صاحب المستطرف: “وما جعلت العرب الشعر موزوناً، إلا لمدّ الصوت والدندنة، ولولا ذلك، لكان الشعر المنظوم كالخبر المنشور”، وأي فهم أعمق لروح العروض، من تجديد أوزان يقصر العدّ عن مدندنيها من “رسالة” فايزة أحمد، وأم كلثوم، إلى سؤال نجاة “الرحيلا”، إلى “موال دمشقي” شدت به فيروز، وصولاً إلى حوار بين قارئة الفنجان، وعبد الحليم، وكان المفضل لدى نزار من بين من غنوا له (2) “ولدي أيضاً”، وليس انتهاءً بكاظم الساهر، وآخرين كُثر مضوا به إلى ما أراد، من ثورته في الوزن واللحن، وهو الوصول لـ “200 مليون من مستمعي الطرب” بدلاً من “100 ألف من مشتري الدواوين الشعرية”.
حين انتهى زمن “الشعر بالشوكولاته”(٣)، وخلعت النكسة عن نزار “لغة البروكار الدمشقي، وألبسته لغة قطنية أكثر دفئاً”(٤) تحولت معركته الرئيسية من “ديكتاتورية الجماعة”، إلى ديكتاتورية الأنظمة وأبواقها الذين سلبوه بداية حق الحديث عن الوطن، باعتباره “شاعر المرأة”، وهو اسم رفضه نزار، وإن لم يعترض عليه، من باب أن “القط لا يهرب من العرس”(٥)، وكان دائم التساؤل في شعره، “وهل المرأة إلا الوطن”، كما كان يرفض أن يقسّم شعره جغرافياً وكيميائياً، إلى شعر حب، وشعر سياسة. على أن سلب نزار حق الدفاع عن الوطن، كان في معظمه التفافاً غير مباشر، من مأجوري السلطة، وخاصة في مصر وسوريا، ممن أزعجتهم “هوامش نزار على دفتر النكسة”، ودعوا إلى منع قصائده المطبوعة، ووقف بث المغنَّى منها، وإخراجها من المناهج، وشنت الصحف ومثقفو السلطة في مصر عليه حملة شعواء طالبت، حتى بمنعه من دخول البلاد، ولا أدري إن كانت السلطة هناك قد انتظرت منه يومها مديحاً للهزيمة، بعد النكسة!
حين اشتدت الحملة أرسل رسالة لعبد الناصر، لم يتراجع عن كلمة واحدة قالها في تلك القصيدة، لكنه استنكر أن تكون مصر مكاناً لقمع حرية الوجع بعد الهزيمة، وكان أن أوقف عبد الناصر الحملة عليه، عقب تلك الرسالة.
ألّب شعر نزار السياسي، بعد النكسة خصومات كثيرة عليه من الأنظمة وأبواقها، في سوريا الأسد؛ حيث لم يستطع رفاق البعث والمخابرات إلحاق التهمة المعتادة لكل خصومهم “إخونجي رجعي” بنزار، تفتقت أذهانهم عن تهمة “البورجوازي”، وهي تهمة تستند إلى امتلاك والد نزار لمعمل ملبس صغير، في حي البزورية بدمشق. لا أريد شرح التهمة النكتة هنا، ولا الرد عليها هنا، فهي أسخف من نقاشها، بعد عقود خمسة عرّت نظام الأسد للجميع، لكني أنقل لكم حرفية وصف نزار لوالده البورجوازي في ذلك الوقت: “إذا أردت تصنيف أبي، أصنفه دون تردد بين الكادحين؛ لأنه أنفق خمسين عاماً من عمره يستنشق روائح الفحم الحجري، ويتوسد أكياس السكر، وألواح خشب السحاحير… كان يعود إلينا من عمله، في زقاق (معاوية) كل مساء، تحت مياه المزاريب الشتائية، كأنه سفينة مثقوبة”.
في التسعينات حاول باسل الأسد الالتفاف على “البورجوازي”، واستقطابه؛ لتلميع صورة النظام، في الفترة التي كان يستعد فيها لوراثة والده، فوجهت له دعوة لأمسية شعرية في دمشق، حضرها باسل الأسد، وسرعان ما انسحب منها، حين قرأ نزار “السيرة الذاتية لسياف عربي” في “مكتبة الأسد”، ألغيت بعدها كل البرامج التي كانت قد أُعدت؛ لاستقبال نزار، وتكريمه في سوريا (6).
في الخليج لقي نزار حظه من النقد لكل ما سبق، أزعجتهم كثيراً حكاية النفط “الذي يخزنه العالم العربي في خصيتيه”، وسمعت من بعض المثقفين الخليجيين رأياً متطرفاً يقول: إن كل ما كتبه نزار من نقد سياسي كان لحكام الخليج ونفطهم، وثمة شواهد في قصيدة “أبو جهل يشتري فليت ستريت”، وأجبته يومها: لا أظن أن أحداً من حكام الخليج معنيّ بقول نزار ” لا تسمعوا فيروز بالسر، فإني بنواياكم عليم، “كما حافظ الأسد الذي منع أغنية “تك تك يام سليمان”، حين كان لقبه “أبو سليمان”، قبل أن يتحول “لأبو باسل” لاحقاً. لم يسمّ نزار حاكماً عربياً، خلال هجائه، لكن قصائده السياسية تقول بوضوح إنه لم يستثنِ أحداً، من أولئك الذين سألهم متى سترحلون في قصيدته “الممثلون”،
إضافة إلى تهمة “الشيوعية” التي نفاها عن نفسه في رائعته “الاستجواب” اتُّهم نزار بمعاداة التاريخ، والتراث العربي، لا سيما بعد هجائه اللاذع في “قصيدة بلقيس”، والحقيقة أن المطلع على كامل شعر نزار الذي سأل عن غياب عيني معاوية من الشام، في ظل نظام الأسد، وطلب استئجار سيف خالد بن الوليد، قبل أن يكتب مرسوم إقالته، لدى أنظمة العرب، وعانق طارق بن زياد في غرناطة، واستخدم التراث وشخوصه رموزاً في أشعاره عشرات المرات يعرف أن هجاء نزار لم يكن للتراث، أو التاريخ نفسه، بل كان للجمود، ولأولئك الذين يصرون على العيش في طاحونة تاريخية، ما طحنت في الواقع والمستقبل قط سوى الهواء.
على هامش الحرب مع “لاحسي رجل الخليفة” و “مرتزقة أبي لهب”، وأصحاب “الرؤوس المنخورة كالخشبة” لحقت بنزار انتقادات أخرى، لا يمكن أن تجد لها مرداً، إلا الغيرة، حتى وقت قريب، وبحسب ما نقل عنه، حافظ الشاعر السوري أدونيس، على انتقاده لشعبية شعر نزار وجمهوريته، في مقابل افتقاره “للإبداع الفني”، وأخذت تهمة “حب الجمهور لنزار” في نفسه مأخذها، حتى قال مرة في مقابلة تلفزيونية: “أكبر أكذوبة فنية الشيء الذي يسمونه الجمهور، ليس له معنى فني لا معنى له، وأنا أقيس تدني الشاعر بمدى جماهيريته”، وطبعاً لست في معرض محاكمة شاعرية أدونيس هنا، أو الطعن به، وشخصياً أحب الكثير من شعره، لكن النرجسية العالية التي يستصغر فيها أدونيس البشر كلهم (الجمهور)، ليعلن أنه هو بنفسه الحكم الوحيد على “الإبداع” في شعره، وربما في شعر الآخرين سبق أدبي خالص، لم يشاركه به أحد حتى المنطق.
ثمة انتقادات كثيرة أخرى وُجهت لنزار شاعراً، ولقصائده شعراً، لا يتسع الوقت لذكرها جميعاً، وبعضها قد يكون محقاً، أو مختلفاً عليه على الأقل دون شك، على أنه لم يكن يتذمر من ذلك، بل كان يحبه ويقول: “إنني لا أشعر أنني على قيد الحياة، إلا حين تتساقط الحجارة على زجاج نافذتي”.
“حين تريد أن تؤسس عالماً جديداً على أنقاض عالم قديم.. فإن كل حجر يصرخ في وجهك، وكل الأشجار المقتلعة تقف في طريقك”.
“حملت شعري على كتفي فأتعبني.. ماذا من الشعر يبقى حين يرتاح”.
——————————–
(1) العبارة للشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله أثناء نقاش القصيدة في البرلمان، وكان نائباً عن مدينة حلب
(2) (3) (4) (5) نزار قباني في مقابلات إعلامية معه
(6) عن مقالة لرياض نعسان آغا (الرحلة الخطرة: الزيارة الدراماتيكية لنزار إلى دمشق)
___________________________
من مقالات العدد السادس من مجلة (العربي القديم) الخاص بالذكرى المئوية لميلاد نزار قباني – كانون الأول/ ديسمبر 2023