تاريخ العالم

هل ما زال للسيادة معنى في عالم محايد؟

في ظل تطور الحياة السياسية، تحولت الدولة الليبرالية الناشئة في القرن العشرين إلى أداة تُشرع الحياد نفسه

محمد صبّاح * – العربي القديم  

ليس التاريخُ خطاً مستقيماً نحو التقدم، ولا هو سلسلة من الكوارث المتتالية، بل هو كشفٌ بطيءٌ عن أزمةٍ لم تغادرنا قط: أزمة المعنى.

منذ أن انكسر النطاق اللاهوتي، وانهار المرتكز الميتافيزيقي، وحلّت الأخلاق والاقتصاد ثم التقنية، ظل السؤال معلقاً: كيف يمكن للإنسان أن يقرر حين تنحل الغايات، ويُختزل العالم إلى حيادية صماء؟

التقنية، بوصفها النطاق المركزي الأخير، لم تُنهِ الصراع، بل نقلته إلى مستوى آخر، حيث يمسي الحياد مظهرًا لسلطةٍ خفية أكثر توحشاً: سلطة العدم، حيث القرار ممنوع، والسيادة مصادرة، والعدو مُفرغٌ من معناه.

بين خطوط  هذه الأزمنة المتعاقبة، يتحرك هذا التأمل مستنداً إلى روح كارل شميت، الذي أدرك مبكراً أن السياسة لا تُبنى على التوافقات التقنية، بل على المفارقة الوجودية بين الصديق والعدو، بين القرار والموت.

وما هذا البحث إلا محاولة لاستعادة تلك الفجوة الواضحة وسط العدم: حيث يكون القرار الفعلي هو المقاومة الأخيرة للإنسان ضد التشيؤ الكامل.

الحياد كسلطة: في مديح القرار أمام الفراغ

كل تاريخ هو تاريخ مُعاصر، هكذا يقدم كروتشه فرضيته، إذ يعتبر أن المؤرخ كلما أقبل على حدثٍ ماضوي، فإنه ينظر إليه عبر ما يعيشه في حاضره. فكل تأويل أو قراءة لواقعة سابقة هي في جوهرها محاولة لفهم اللحظة الراهنة بمشكلاتها المعيشية. على ضوء هذه الفرضية، تتضح ملامح الأسئلة التي طرحها كارل شميت في مقالة شهيرة له تحت عنوان «عصر التحييد واللاتسيـيس» التي نشرها في عام 1929م، إذ أكد فيها أن «أوروبا الوسطى أصبحت تحيا تحت أعين الروس». هذه المقولة تشير إلى واقع حاسم؛ واقع كان لا بد من فهمه في تعبير معقد، لا عبر أداة الماضي بل من خلال الوعي المتميز الذي يسائل الحاضر.

سلطة الوضع الراهن

يفتتح شميت تحليله بتشخيص الحالة التي سادت أوروبا منذ عام 1815م على أنها حالة «ترضى بشرعية الوضع الراهن»، وتُقصي كل محاولة لتأصيل معاني الإنسان، مُعتبرة إياها محاولاتٍ لا معنى لها إذا ما أُريد ربطها بالسياسات الداخلية والخارجية. لقد كان الوضع الراهن يتطور بسرعة شديدة بحيث تُصبح محاولات المفكرين التي تسعى لإعادة تأصيل فكرة ما غير ذات جدوى.

وبالنسبة لشميت، كان من الضروري فهم هذه اللحظة الراهنة التي عاشها في ألمانيا، عبر تصوره لتاريخ العقل الأوروبي. لقد اعتبر أن العقل الأوروبي قد مر بعدة تحولات:

من المرحلة اللاهوتية في العصور الوسطى،

إلى المرحلة الميتافيزيقية في القرن السادس عشر،

ثم إلى المرحلة الأخلاقية الهيومانية في القرن الثامن عشر،

وأخيراً إلى المرحلة الاقتصادية في القرن التاسع عشر.

وتبلور تحليل شميت في مفهوم «النطاق المركزي»، الذي يُشير إلى الإطار الفكري الذي يتم من خلاله تفسير الأحداث والوقائع في مرحلة ما. بمعنى آخر، فإن أي مفهوم أو فكرة في سياق هذا النطاق قد تتغير بحسب التغيرات في هذا الإطار الفكري المركزي. ففي النطاق اللاهوتي، يمكن تفسير الزلزال باعتباره إشعاراً  بتدخل إلهي، بينما في النطاق الاقتصادي، لا يُنظر إلى الزلزال على أنه حدث ذو معنى كبير.

الحياد كأداة للسلطة

ولكن مع تغير النطاق الفكري، كما في الانتقال من اللاهوت إلى الميتافيزيقا، ومن الأخلاق إلى الاقتصاد، بدأ الحياد يظهر كأداة ذات سلطة. هذا التحول كان مثيرًا للدهشة، لأنه في ظل تطور الحياة السياسية، تحولت الدولة الليبرالية الناشئة في القرن العشرين إلى أداة تُشرع الحياد نفسه.

فكما قال شميت: «الحياد هو العجز عن الفهم». وفي ظل هذا الوضع، تحولت السياسة إلى تكنولوجيا محايدة تسعى إلى إدارة الفراغ، وهو أمر يغفل من خلاله القيم والتوجهات الإنسانية.

عصر التقنية: الحياد الجديد

وفي نظر شميت، ليس عصر التقنية مجرد تطور علمي، بل هو قطيعة مع السابق. كان عصر التقنية مترافقًا مع تسويغ الحاجة إلى الحياد، ذلك الحياد الذي نشأ في محاولة للابتعاد عن الصراعات الدينية العنيفة التي سادت في العصور الوسطى. التقنية، التي ظهرت في العصر الاقتصادي، بدا وكأنها تُعطي وعدًا بإمكانية إدارة العالم بلا صراعات. لكن هذا الوعد بالحياد سرعان ما تحول إلى عملية فقدان للمعنى والغاية.

وبناء على ذلك، أصبحت التقنية تتلاعب بالقيم والمعاني، بحيث لم تعد لها غاية واضحة، ما يجعل كل المفاهيم الروحية والوجودية تُصبح مفاهيم عدمية. لقد أفرغت التقنية العالم من معانيه، إذ صار كل شيء مجرد أداة بلا غاية، وكل صراع بلا هدف. كما يقول شميت: «وحده من يعتبر الموت عدوه، ومن لا يرى في عدوه إلا آلة، هو الأقرب للموت من الحياة».

القرار في مواجهة الموت

أما في هذا العصر الذي تصبح فيه التقنية هي النطاق المركزي، فإن شميت يراهن على أهمية القرار السياسي في مواجهة هذا التشيؤ. فكما يقول: «السياسي هو التمييز بين الصديق والعدو». لكن هذا التمييز لم يعد واضحاً كما كان في الماضي، إذ أصبح صراع الإنسان ليس مع أعداء محددين، بل مع نفسه، ومع أدواته، ومع التاريخ الذي يصبح ميتًا في يد التقنية.

الخاتمة: مقاومة القرار في عالم بلا غايات

في النهاية، إذا كان الحياد هو العجز عن الفهم كما وصفه شميت، فإن القرار هو الفعل الوحيد الذي يعيد للحياة معنى. إن العودة إلى السياسة تعني العودة إلى القدرة على التمييز بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين ما هو إنساني وما هو آلي.

القرار هو مقاومة موات التقنية، وهو الأداة التي تمكن الإنسان من تجاوز حالة الغياب الكلي للغايته.

وفي عالم تسود فيه المحايدية على كل شيء، تظل السيادة هي الشجاعة الفائقة، هي الإرادة التي تُمسك بالقرار وتصر على أن تكون إنساناً في عالم يهدد بأن يحولنا إلى مجرد آلات صماء.

الحياد كسلطة لا هو محض عبث فكري، بل هو اختبار وجودي: حين نعيش في زمن تُسحب فيه الغايات وتُفرغ فيه السيادة، تظل السياسة، كما أشار شميت، هي المكان الذي يُختبر فيه إنساننا ضد العالم الميكانيكي.

______________________________________________

*كاتب وباحث فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى